دوغين عبر الميادين نت: روسيا تعود إلى الشرق الأوسط لصالح نظام متعدد الأقطاب

23.07.2021
تعود روسيا إلى الشرق الأوسط في ظروف جديدة كلياً وبوظائف مختلفة. إنها ليس قطباً ثانياً يعارض الغرب، ولكنه أحد الأقطاب القليلة التي تكافح ضد أحادية القطب لصالح التعددية القطبية

خلال هذه المرحلة، كان الاتحاد السوفياتي حاضرًا واقعياً في الشرق الأوسط - كقوة معارضة جيوسياسياً للغرب الرأسمالي في معظم الصراعات الإقليمية، وفي الوقت نفسه داعماً للحركات والأحزاب التي كانت برامجها وعقائدها تحوي شيئاً كان يتماهى مع اليسار، كالعلمانية والتقدمية ومناهضة الرأسمالية والاستعمار. تباينت السياسة الواقعية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في منطقة الشرق الأوسط ذات السكان المتدينين غالباً، من الدعم المباشر للأحزاب الشيوعية والاشتراكية (التي لم تكن ذوات نفوذ وقوة) إلى تحالفات براغماتية مع حركات قومية ومعادية للاستعمار عندما لم يكن السكان متدينين للغاية.

من هنا كانت وظيفة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط قائمة على هذا المخطط المؤلف من جانبين: المصالح الجيوسياسية للاتحاد السوفياتي كقوة قارية عظمى (النهج الواقعي)، ممزوجة بالتوجه لتحقيق هدف تعزيز الثورة العالمية الشيوعية (النهج المثالي). يجب أن نأخذ في الاعتبار هذا النموذج بعناية لأنه يُظهر حجري زاوية متميزتين في الاستراتيجية السوفياتية، تم دمجهما وشبكهما في المجمّع بأكمله لكنهما كانا مختلفين من حيث الطبيعة والبنية.

مثلاً، يشرح هذا البرادايم أو النموذج الفكري لماذا تجنب الاتحاد السوفياتي التعامل مع الحركات المعادية للغرب والرأسمالية في الشرق الأوسط التي تأثرت بشدة بالإسلام وكان ذات خلفية قيمية دينية. كان السوفيات ينظرون إلى السلفية أو "الإخوان المسلمين" أو الشيعة بعدم الثقة. وللسبب نفسه، اتهمت هذه التيارات الاتحاد السوفياتي بالكفر.

كان للقطب الغربي خلال فترة القطبين بنية متماثلة. كانت المصالح الجيوسياسية الخالصة (القوة البحرية) بسيناريوهاتها التي تكرر بشكل أو بآخر خطوط القوة للإمبريالية البريطانية القديمة، مقرونة بالأيديولوجية الليبرالية، التي تختار دوماً في القضايا الإقليمية، الجانب المعادي للاشتراكية أو اليسارية أو للقوى المناهضة للاستعمار التي يفترض أنها كانت مدعومة بشكل طبيعي من السوفيات.

وجاءت اللحظة المفصلية مع انهيار الاتحاد السوفيتي. كان هذا هو سقوط الجغرافيا السياسية للقوة البرية. تقلصت منطقة نفوذ صميم "قلب أوراسيا" بشكل جذري في ثلاث دوائر:

· نطاق النفوذ السوفياتي الواسع بما في ذلك أميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا،

· منظمة معاهدة وارسو،

· الاتحاد السوفياتي نفسه تجزأ إلى 15 جزءاً، (كل جزء منها أصبح دولة).

في ميدان الأيديولوجيا، كان التغيير أكثر عمقاً، لأن موسكو تخلت كلياً عن الماركسية واحتضنت الأيديولوجية الرأسمالية الليبرالية.

كانت نهاية مرحلة القطبين في الجغرافيا السياسية والأيديولوجية. رفضت روسيا الاستمرار في تمثيل القطب الثاني كبديل عن الاتحاد السوفياتي، وقبلت مع الرئيس بوريس يلتسين بدور الطرف للقطب الأول.

نحتاج أن نتذكر أن انهيار الاتحاد السوفياتي كنظام أيديولوجي لم يتبعه تخلي الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بشكل متماثل عن أيديولوجيتهما الرأسمالية الليبرالية. حدثت نهاية الحرب الباردة من خلال التدمير الذاتي لواحد فقط من اللاعبين. فقد رفض الشرق السوفياتي أيديولوجيته ولكن الغرب الرأسمالي لم يفعل.

هكذا صنعت العولمة الليبرالية شكلها. كانت العولمة في العالم أحادي القطب ضرورية لتوسيع الأيديولوجية الليبرالية، المقبولة من قبل الجميع كمعيار عالمي - ومن ثم أصبحت حقوق الإنسان والديمقراطية البرلمانية والمجتمع المدني والسوق الحرة وغيرها من العقائد الأيديولوجية البحتة معايير عالمية ضرورية، ومعايير أيديولوجية آمنة ويروّج لها من قبل العولمة نفسها.

كانت هناك لحظة أحادية القطب (كما أسماها تشي. كروثامر) بدأت في عام 1991. في هذه الفترة انسحبت روسيا بالكامل من الشرق الأوسط. كانت منخرطة بالكامل في مشاكل داخلية في تسعينيات القرن العشرين جعلت روسيا نفسها على حافة المزيد من الانهيار. ولكن من خلال قوة الجمود الخالص، تم بطريقة ما الحفاظ على بعض الروابط التي نشأت خلال القطبية الثنائية، وكذلك صورة روسيا كبديل جيوسياسي للغرب. كانت هذه الصورة لا تزال تعيش في مجتمعات الشرق الأوسط. تركت الأحادية القطبية السكان العرب فرادى مع الغرب الليبرالي الأطلسي، الذي أصبح أخيرًا حراً في تأكيد نفسه كلاعب عالمي فريد وأعلى مثال على اتخاذ القرار. هذه قطبية أحادية وقد أثّرت على الشرق الأوسط خلال الثلاثين عاماً الماضية وبلغت ذروتها في سلسلة من الثورات الملوّنة التي رعاها الغرب لإحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية في "المجتمعات المتخلفة".

التخلّص النهائي من الأنظمة القومية العلمانية والاشتراكية بطريقة ما (مثل الأحزاب القومية في جميع نسخها - في العراق وليبيا وسوريا) أصبح أمراً حتمياً. ففي النموذج أحادي القطب، لم تكن هناك قوة عالمية متناظرة قادرة على مواجهة مثل هذه العمليات ودعم الأنظمة والقادة السياسيين المناهضين للغرب.

فالحديث عن القطب الثاني - اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية من الآن فصاعداً كان الفجوة.

خلال السنوات العشرين الأخيرة من حكم الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا، استعادت البلاد قوتها جزئياً. وفي تناقض جلّي مع الولاية الأولى المعاصرة لرئاسة يلتسين، لم تتبع روسيا من دون شروط أي نظام في الغرب وقادت سياساتها السيادية. لكن هذه المرة، تستعيد روسيا قوتها فقط كقوة جيوسياسية عظمى، كالقوة البرية، ومن هنا جاء مفهوم أوراسيا، والأوراسية بشكل عام.

لكن في روسيا، هناك نوع من الفراغ في مجال الأيديولوجيا. فالفجوة التي خلفتها الشيوعية المرفوضة من الشعب الروسي قد تم ملؤها بالمحافظة البراغماتية والتوفيقية مع عدم وجود خط متشدد. وهذا يجعل روسيا في ظل بوتين أكثر مرونة. تمثل روسيا الكيان الجيوسياسي الوحيد اليوم، المعارض بشكل أكثر وضوحاً للغرب (القوة البحرية)، ولكن من دون أي أيديولوجية محددة بوضوح.

في الوقت نفسه، لا يمكن لروسيا الحديثة أن تتدعي بأنها القطب الثاني في الهيكل ثنائي القطب. فروسيا ضعيفة جداً للعب هذا الدور، مقارنة بالإمكانيات المجمعة للولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الأطلسي. لكن هناك الصين الجديدة التي جعلها نموها الاقتصادي مقارنة بالاقتصاد الأميركي والتهديدات الأميركية قادرة على هزيمتها.

من هنا، فإن روسيا تعيد تأكيد نفسها ليس على أنها القطب الثاني في النظام ثنائي القطب الجديد ، ولكن كواحد من الأقطاب القليلة (أكثر من 2!) في سياق نظام متعدد الأقطاب. اليوم روسيا (عسكرياً وعلى مستوى الجغرافيا والموارد الطبيعية) والصين (اقتصادياً) هما بالفعل قطبان لشيء يشبه النظام الثلاثي الأقطاب. لكن الهند والعالم الإسلامي وأميركا اللاتينية وأفريقيا يمكن أن تشكّل يوماً ما أقطاباً مكتفية ذاتياً أخرى. لذا، فإن الجغرافيا السياسية الروسية للدولة العظمى تتطور الآن في سياق جديد للتعددية القطبية. كالعادة، لا تزال روسيا "القوة البرية" التي تعارض "القوة البحرية"، لكن الصين هي كذلك القوة البرية التي لها نفس الخصم العالمي تماماً، أي الغرب الليبرالي.

لذلك، تعود روسيا إلى الشرق الأوسط في ظروف جديدة كلياً وبوظائف مختلفة. إنها ليس قطباً ثانياً يعارض الغرب، ولكنه أحد الأقطاب القليلة التي تكافح ضد أحادية القطب لصالح التعددية القطبية.

وقد شرحت هذه التغييرات في كتابي "نظرية العالم متعدد الأقطاب" الذي نشرته دار "أركتوس بابليشرز" أخيراً في الولايات المتحدة.

ملاحظة أخيرة: إن القطب الغربي اليوم، كما كان من قبل، يبقي قناعته الأيديولوجية كما هي. أكثر من ذلك - خلال اللحظة أحادية القطب - عندما بدت وكأنها شيء مستدام - بدت الأيديولوجية الليبرالية قوية جداً ولا يمكن جدالها، إلى درجة أن العولميين أنفسهم – لم يكن لديهم أعداء أيديولوجيون رسميون - بدأوا في تطهير الأيديولوجية الليبرالية نفسها، في محاولة لجعلها أكثر ليبرالية. من هنا، أثير الحجم غير المتناسب لمشكلة الجندرية في العقدين الماضيين. (كرّست كتابي "النظرية السياسية الرابعة" لمناقشة هذه الحجة).

لذا أقترح الآن على القراء في الشرق الأوسط مقارنة وظيفة لاعبَين عالميَين في ميزان القوى الإقليمي المعاصر. إن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط هي مجيء القوة البرية التي تحاول مقاومة ضغط الغرب أحادي القطب، ولكن هذه المرة من دون أي استبدال أيديولوجي لأيديولوجيا مادية علمانية بآخرى، أو لشكل من أشكال الشمولية الرأسمالية بالشمولية الشيوعية. ليس لدى روسيا الحديثة ما تفرضه على شعوب الشرق الأوسط على المستوى الأيديولوجي. يكفي اعتبار روسيا حليفاً ومقاومة ضغط الغرب العولمي أحادي القطب. وبغض النظر عن سبب رفض السكان المسلمين للغرب، سواء أكان السبب دينياً أو اقتصادياً أو قومياً أو غيره، فإن روسيا موجودة في الشرق الأوسط بشكل أساسي لضمان التعددية القطبية وليس لفرض ما يجب أن يحل محل الليبرالية. هذه الواقعية وهذه المرونة الروسيتان تفتحان فرصاً تاريخية جديدة للصداقة الروسية-العربية.

نقله إلى العربية بتصرف: هيثم مزاحم