«داعش» يُسقط دولة الأمان في أوروبا فما القادم؟
يختبر مواطنو دول أوروبية أمراً لم يشهدوه سابقاً. باتوا مُهدّدين في حياتهم، حياة أطفالهم وعائلاتهم، في كل مكان، في أي لحظة، في مسألة خارجة عن التوقّع يحكمها سوء الحظ. شيء لم يختبروه سابقاً أن يصيروا، في وقت السلم الطويل، ضحايا محتملين لماكينة الموت «الداعشية» التي تستبيح بلادهم. دولة الأمان سقطت، يقول متابعون، حتى لو عاندت السلطات في الإقرار بما بات واقعاً لا يُمكن دحضه.
التبعات لا يُمكن تخمينها. الذعر العام يجعل اللاجئين والمهاجرين، مواطني أوروبا المسلمين، في دائرة دفع الضريبة. الحرب على «داعش»، هزيمته في سوريا والعراق، تصير أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. المسألة تُهدّد مصير الاتحاد الأوروبي سياسياً، بالعمق وبكل معنى الكلمة، مع أحزاب اليمين المُتطرّف التي تزيد شعبيتها مع كل اعتداء يأتيها هدية لحملة انتخابية مسعورة لا تُقيم أي حدود ولا تفريق.
الحرب على «داعش» باتت مسألة مصيرية لأوروبا، الأمر الذي يذهب لصالح النظام السوري وحلفائه. لم يعد لدى الغرب أي مجال لرفاهية الاختيار، فكما يقول معارضو النظام أنفسهم «الأولوية محصورة الآن بالحرب على الارهاب»؛ تلك الحرب من غير الممكن أن تأتي وتنجح من دون حشد كل القوات المُمكنة على الأرض لمواكبة الحملة الدولية.
أحد القيادات المعارضة قال لـ«السفير» إن «أميركا وأوروبا يهمهما الآن شيء واحد فقط: هزيمة داعش، كل الأمور الأخرى هامشية، لذلك هم في حاجة إلى تعاون روسيا والنظام من أجل إنجاح الحرب المقبلة»، قبل أن يعقّب «أوروبا لا حديث فيها سوى داعش، كل ضربة سكين أو سؤال يطرح هو: هل داعش خلف ذلك؟».
يعيش الأوروبيون بالفعل على وقع الإرهاب في الأيام الأخيرة. لم يعد مهماً حجم الاعتداء وعدد الضحايا ليحتلّ صدارة الأخبار. يكفي أني يكون لـ «داعش» صلة ما، حتى لو بمريض نفسي، معتوه، يريد ارتكاب جريمة فردية، كاملة الأوصاف، لكنه يختار أن تكون باسم هدف «أسمى».
في كل مكان الأمر ممكن، كما بيّنت أحداث الأيام الماضية. المانيا ودّعت عهد الأمان، مع أربعة اعتداءات متتالية، لـ «داعش» صلة «ما» بثلاثة منها. خريطة الاعتداءات تجعل أشباح القلق تقفز طالما السوابق باتت مثبتة. الأمر ممكن في المتجر، في محطة المترو، أمام بوابة مهرجان، في الساحة العامة، على ترّاس مقهى، داخل حلقة احتفال شعبي بعيد وطني، في الطرقات إلى تلك الأماكن، كل الأماكن، وأيضاً في صالة المطار.
في كل مكان الخطر قائم، والدولة تبدو عاجزة عن إبطاله بعدما أسقط الاعتداء على الكنيسة الفرنسية، أمس، كل حجّة يمكن التستّر بها. لم يسلم قداس في بلدة وادعة في الشمال الفرنسي. لا يُمكن لباريس التعذّر الآن بأنه «لا يمكن توفير أمان مئة في المئة». ماذا يُريدون أكثر من شخص، ليس فقط معروفاً لأجهزة الاستخبارات، ليس فقط معروفاً بنيّاته بعدما حاول الدخول إلى سوريا واعتقلته تركيا وسلمته وسجن ثم أُطلق سراحه. بل لأنه كان تحت الرقابة المباشرة، يحمل سواراً الكترونياً يُحدّد موقعه في كل لحظة.
من يراقبون الظاهرة «الداعشية» والاعتداءات المرتبطة بها يقولون إن المسألة باتت في سياق آخر تماماً. قطع مايكل بريفو، مدير الشبكة الأوروبية لمكافحة التطرف، عطلته ليقضي الوقت معلقاً على الأحداث لوسائل إعلام أوروبية وعالمية. تحدثنا معه مراراً عن تطوّر الظاهرة، وأعطى بعض وقته لهذه المقابلة مع «السفير». يقول: إن على الأوروبيين أن يتعايشوا مع انعدام الأمان، أن يعتادوا على حالة تشبه، نسبياً، ما يعيشه سكان بلدان في الشرق الأوسط يتوقعون خطر التفجير دائماً.
ما الذي يعني كل ذلك؟ يرد على السؤال: «بعد اعتداءات المانيا وفرنسا الأخيرة الأمر صار واضحاً، حتى لو رفضت السلطات الإقرار به. الدولة الآن لا يمكنها توفير الأمن لأحد. يكفي أن تكون في الزمان الخطأ والمكان الخطأ لتفقد حياتك. كل مكان مُهدّد كما رأينا والدولة ببساطة لا يُمكنها وضع شرطي في كل زاوية»، يصمت للحظة ثم يُكمل «للأسف لا يُمكن سوى التعايش مع وضع يحكمه انعدام الأمن، وهذا ما يعرفه سكان بلدان الشرق الأوسط في حين أن الأوروبيين لم يختبروه سابقاً. إذا كان لديك أطفال وتسمع حديثهم الآن، فهم يسمعون الأخبار، سترى أن الأمر مخيف حقاً. لقد نجح داعش في استراتيجيته الإرهابية، التماسك الاجتماعي مُهدّد الآن في أوروبا».
أشياء كثيرة قالها بريفو تحتاج لإيضاح سياقها. سبق أن كتبت «السفير» عن مسألة «العجز الأمني» في أوروبا، لجهة الدول المعنية بالخطر الارهابي. ببساطة شديدة لا يُوجد ما يكفي من رجال الأمن، من الكادر البشري الاستخباري، لمراقبة كل المشتبه فيهم. في حالة فرنسا لم يستطيعوا إيقاف اعتداء قام به شخص موجود، مسبقاً، على لائحة المراقبة الالكترونية. حادثة كهذه أظهرت أن هذا العجر الأمني لم يعد بالامكان التغطية عليه.
المقصود بالتماسك الاجتماعي تحديداً هو الخطر على حالة السلم الأهلي. يكفي التذكير بأن حوادث الاعتداء على اللاجئين في المانيا بلغت معدلات خطيرة ومنذرة، بحسب تحذير وزراة الداخلية، كما أن منظمة «أمنستي» تحدثت عن «عنصرية غير مسبوقة» تعيشها البلاد التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين في أوروبا.
القضية لا تتوقّف على تلك الشريحة السكانية. المشكلة أن اليمين المتطرف لم يوفّر أي فرصة، سانحة أو بعيدة، لالصاق التهديد بمجتمع اللاجئين، لتأتي اعتداءات المانيا الفردية بمثابة هدية كبيرة لسرديته. المسألة تمسّ المجتمع المسلم في أوروبا، كل شخص له سحنة عربية، كل شخص يُمكن أن ينطق بتلك اللغة التي تتعرّض للوصم أيضاً. مصطلح «الارهاب الاسلاموي» بات شائعاً الآن، حتى على ألسن كبار المسؤولين، بعد تردّد طويل في استخدامه.
الوصم صار ملصقاً الآن. لن يُقدّم أو يؤخر كثيراً أن يُشرح، إذا كان هناك من لديه طاقة ورغبة ليشرح، لجمهور من الخائفين والمتوتّرين، الفرق بين «إسلامي» و»إسلاموي»، بحسب المرافعة التي يعتمدها مستخدمو المصطلح. لتكتمل دائرة الاشتباه، لم يعد يفرق كثيراً إن كان المُسلم غير معني أو متديّن، لأن هناك «مسلمين» سيئين تابوا عبر تنفيذ اعتدءات ارهابية، كما أن أجهزة أوروبية تتحدّث عن إمكانية أن يحدث «التطرّف» في زمن قياسي.
ماذا عن المجتمع الأوروبي، هل هناك من مقياس لمدى التوتر الموجود؟ الاحصاءات موجودة. يكفي إيراد نتائج مسح للبرلمان الأوروبي نشره هذا الشهر، بعدما شمل نحو ثلاثين ألف شخص في دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين. رداً على السؤال عما هي الأولوية الآن، رأى 82 في المئة أن «محاربة الارهاب» لها الصدارة، متقدّمة حتى على موجة البطالة.
هذا يعني أن هناك مواطنين لم تشهد بلادهم أي اعتداء لكنهم يحملون ذلك التقدير. الاستطلاع أُجري في نيسان الماضي، بعد اعتداءات بروكسل، لذا يُمكن تخمين النتائج بعد الاعتدءات الأخيرة، خصوصاً أن 11 في المئة من المستطلعين قالوا وقتها إن خطر الهجمات الارهابية «منخفض».
المشكلة هي في «النطاق المتّسع» لفعالية الارهاب، كما يرى بريفو: «هناك مُجرمون لديهم الآن وسيلة لتبييض جرائمهم، داعش يُعطيهم فرصة ليجذبوا الانتباه ويضعوا تلك الجرائم تحت عناوين كبيرة». اتساع النطاق، اتساع المخاوف، كل ذلك يجعل الأمور أكثر صعوبة مع تنامي نزعة الأوروبي العادي لتعميم الشبهات. يقول بريفو إن الأمر له تأثير واضح يتجلّى بأن «المقاومة في المجتمع تحت عنوان العقلانية والموضوعية صارت أضعف بكثير مما كانت قبل ثلاث سنوات، لقد صار الصبر من الغالبية تجاه المسلمين واللاجئين والمهاجرين ضعيفاً جداً، حتى الأقلية المُعارضة لهذا الاتجاه، لا أعتقد أن فيها من لديه الطاقة مع كل هذا التوتّر، كي تتصدّر الصفوف لأن الاستقطاب صار كبيراً جداً».