عذابات السوريين مؤشر على كوارث عالمية قادمة
بعد مقال سابق حول النصر الحاسم في سوريا تساءلنا إذا كان الرئيس فلاديمير بوتين سيجري تلك العملية الجراحية لاستئصال الورم الخبيث من الجسد السوري بالتعاون مع حلفائه الإقليميين وهم إيران والجيش السوري وحزب الله، تحدثنا عن أهمية ذلك لأن الإرهاب في سوريا يؤثر على الجسد الكوني كما يؤثر على الجسد السوري، ونرى اليوم كيف يتألم الجسد الكوني كله من خلال ما تتعرض له سوريا، فلا تكاد تخلو منطقة هامة في العالم من التهديد الإرهابي، سواء في معسكرنا أم في المعسكر الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
منذ ذلك الحين أي قبل حوالي عشرين يوما تصارع القوى الإرهابية هذا الجسد السوري المريض وتفتك به بلا رحمة، تستغل كل دقيقة لإيذاء كل مكونات الشعب السوري فتنشر الدمار وتقتل الأبرياء مستثمرة الهدنة التي أقرها مجلس الأمن الدولي، لتظهر للعالم مدى قدرتها على التأثير في المدن التي تتواجد بقربها، ولعل مدينة حلب كما قرية الزارة الصغيرة قرب مدينة حماه والتي أصبحت مشهورة بالمذبحة المروعة التي نفذتها جبهة النصرة والفصائل الإرهابية المتحالفة معها منذ أيام هما المثالان المؤلمان على ما يحدث. ، يوميا يسقط الشهداء وتتدمر المنازل والممتلكات، ولكن صوت أبناء سوريا في جميع أنحاء سوريا، وحتى المحاصرة منها، بقي مرتفعا ومعلنا أن لا استسلام لهذه الجراثيم التي تفتك بهذا الجسد، بل لعل هذه الصرخات هي رسائل للكون ولتلك الخلايا المدافعة عن هذا الجسد بعدم الاستسلام ووجوب الانتصار على تلك الجراثيم.
هذا التوصيف الذي قدمناه ليس هدف مقالتنا اليوم. الهدف الرئيسي هو تحليل أسباب تأخر الرد وتوضيح تلك الأسباب لأولئك الذين يتألمون من جهة ولأولئك المراقبين الذين يتهمون روسيا والجيش السوري والحلف المقاوم للإرهاب بكامله بالتأخر عن بدء المعركة التي يمكن أن تريح المدن السورية كلها من أولئك التكفيريين الذين لا يحترمون الحد الأدنى من القيم الإنسانية من خلال ما نراه من أفعالهم كل يوم من جهة أخرى.
حتى نستطيع فهم المشكلة علينا أن نعرف هذه المنظمات ونعرف انتماءاتها والدول التي تدعمها وبشكل عام الحلف الذي تنتمي إليه. داعش والنصرة هما المنظمتان الإرهابيتان الأكبر من حيث العدد والسلاح على الساحة السورية وهما يشكلان ما يزيد عن ثمانين في المائة من القوى الإرهابية في سوريا. تتركز سيطرة داعش على المنطقة الشمالية الشرقية في سوريا وتعتبر مدينة الرقة السورية المركز الرئيسي لها، أما النصرة فيقع تمركزها الرئيسي في شمال سوريا في مدينة إدلب وريفها والممتد من حلب حتى اللاذقية. من الفصائل الإرهابية الأخرى التي تنتمي إلى ما يسمى "الفصائل المعارضة" جيش الإسلام المدعوم من السعودية وفيلق الرحمن المدعوم من قطر وتمركزهما الرئيسي في الغوطة الشامية بجوار دمشق. أحرار الشام فصيل إرهابي آخر من "الفصائل المعارضة" وتدعمه تركيا وهو موجود أيضا بشكل رئيسي في شمال البلاد.
بعد قرار مجلس الأمن الأخير 2254 واتفاق روسيا والولايات المتحدة أن داعش والنصرة هما فصيلان إرهابيان وهما لا يخضعان لقرار الهدنة، نجح الجيش السوري وحلفاؤه بإخراج داعش من مدينة تدمر، الأمر الذي كان مذهلا بكل المعايير نتيجة لسرعة الإنجاز العسكري ونتيجة لأهمية تدمر الإستراتيجية لداعش، كونها كانت تمثل المفتاح المستقبلي للربط بين مقاتلي داعش في جرود القلمون وبقية المناطق القريبة من دمشق من جهة وقوتها الرئيسية في الشمال الشرقي من جهة أخرى. ولعل سيطرة الجيش السوري على تدمر وبعدها على مدينة القريتين حرم داعش من أهم طموحاتها المستقبلية بالتوسع باتجاه دمشق.
الهدنة كانت مفيدة بلا شك لجميع هذه الفصائل التي وجدت في هذه الهدنة فرصة لاستجرار المقاتلين والدعم المالي واللوجستي من الأطراف الإقليمية الداعمة لها وخصوصا بنوعية الأسلحة التي استطاع المسلحون من خلالها استهداف القائد في حزب الله مصطفى بدر الدين، الذي استشهد في عملية قرب مطار دمشق الدولي، أظهرت مستوى الدعم الذي تتلقاه هذه المجموعات على المستوى الإقليمي والدولي.
الحلف الذي تقوده روسيا في هذه المعركة العالمية في سوريا يعتمد سياسة مختلفة عن الحلف الآخر، فهو لا يرفع السقوف في مطالبه بحرق الأخضر واليابس كما يقول المثل الشعبي السوري، بل يطالب فقط بالالتزام بالقانون الدولي وترك الخيار في النهاية للشعب السوري باختيار ممثليه وقادته، وهذا ما تم التعبير عنه في قرار مجلس الأمن 2254. المحور الذي تقوده روسيا يعتمد سياسة الخطوة – خطوة في إستراتيجيته منذ بدء الأزمة السورية، لم يغير خطابه منذ بداية الأزمة السورية بضرورة الالتزام بالقانون الدولي والعمل مع السوريين لمساعدتهم في حل مشاكلهم، بينما كان المحور الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة يحدد الصورة النهائية لسوريا المستقبل بأنها بلا رئاسة الأسد وبلا توجه مقاوم ضد اسرائيل وأنها على مقاس النظرة التي يرسمها لها الطامعين فيها وفي التحكم فيها مستقبلا.
حاولت روسيا أن تصغي بانتباه للمعارضة السورية بكل أطيافها، وحتى تلك "الفصائل المعارضة" الملوثة أيديها بالدم، في محاولة منها لتظهر بأنها مع جميع السوريين وليست مع طرف ضد طرف آخر. دعت الجميع إلى موسكو وحاولت تقريب وجهات النظر للوصول إلى حلول مقبولة من الجميع لتحمي بذلك الشعب السوري الذي يعاني وينزف الدماء، مع أنها كانت تعتقد أن غالبية تلك "الفصائل المسلحة" غير معتدلة وهي تمثل أطرافا إقليمية تأتمر بأمرها وتنفذ أجنداتها. واستمرت تعتمد منطق القانون الدولي في الحوار وقبلت منطق الآخرين بأن هذه المجموعات "معتدلة" بشرط أن تلتزم بشروط الهدنة التي فرضها مجلس الأمن الدولي، لمعرفتها أن هذا الاختبار صعب تنفيذه على هذه المجموعات وسيكشف حقيقة دورها في المستقبل القريب بعد سريان مفعول الهدنة. لكنها ربحت مع حلفائها تصنيفا دوليا لما يزيد عن ثمانين في المائة من الجسد المسلح بوصفه إرهابيا وهو ما تمثله داعش والنصرة.
إن معرفة المحور الآخر أن التخلص من النصرة يشكل كارثة حقيقية "للفصائل المعتدلة" بمختلف مسمياتها وتصنيفاتها هو الذي دفع الدول الإقليمية لخلط الأوراق في الميدان، فحيث تتواجد النصرة يتواجد فصيل أو أكثر من تلك "الفصائل المعتدلة" تقاتل مع النصرة أو تحت قيادتها، فلا يسمح للجيش السوري وحلفائه بالهجوم على النصرة حتى لا يتهم بخرق الهدنة ومهاجمة "المعارضة المسلحة". إن المعايير المزدوجة للحلف الأمريكي أكثر من واضحة في هذا المجال فهو يصنف النصرة إرهابا ويصنف من يقاتل تحت رايتها وقيادتها معارضا، فأصبحت "المعارضة المسلحة" إرهابية وغير إرهابية في نفس الوقت (قطة شرودنجر)، وأعتقد أن هذه المعارضة هي الورقة الوحيدة المتبقية التي يملكها المحور الأمريكي وحلفاؤه في سوريا.
إن القرارات والتصنيفات الدولية تسمح للجيش السوري وحلفائه بمحاربة النصرة. فهل ستكون الخطوة الروسية باتجاه قرار دولي أو على الأقل اتفاق روسي أمريكي يسمح بمقاتلة النصرة للضغط على الفصائل الأخرى بدخول العملية السياسية في سوريا بشكل جدي من أن أجل إنهاء معاناة الشعب السوري؟ إن مثل هذا الاتفاق الدولي تحتاجه جميع الأطراف لإنهاء بؤرة الإرهاب في سوريا لما يمثله هذا الإرهاب من خطر على العالم كله، كما يحتاجه العالم أيضا لتخفيف الاحتقان في منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت برميل البارود الذي يمكن أن ينفجر ويهدد السلم العالمي في أية لحظة. كما ويحتاجه العالم لإيقاف مخططات بعض الدول الإقليمية التي لا تفكر بالسلم العالمي بل بإيديوجياتها المريضة والتي تنشر الموت والإرهاب في كل العالم ومثالنا على ذلك المملكة السعودية وحكومة أردوغان.
إن عذابات السوريين والمذابح التي تحصل كل يوم في سوريا لن تسمح حتى للعقلاء في هذا العالم بقبول هذا المنطق الدولي المزدوج المعايير الذي يدين الإرهاب في مكان ويبرره في مكان آخر. إن شكاوى أولئك المذبوحين ببرودة دم منقطعة النظير في الزارة وحلب وغيرهما ستكون اللعنة التي لن يستطيع العالم تحمل نتائجها المأساوية مهما ادعى تمسكا بقيم الإنسانية والحرية والعدالة. ولا يظنن أحد أن التغاضي عن هذه الأعمال الوحشية لن يجلب الكوارث على العالم، حتى ولو لم يستطع أولئك المظلومون فعل شيء، لكن السماء والكون يسجلان كل هذه الرسائل التي يرسلها أصحاب هذه العذابات في كل أرجاء الأرض، إن هذا الظلم الذي ينتشر ليس في سوريا فقط بل في أكثر من مكان يسبب آلاما كبيرة ورسائل إلى الكون الذي نعيش فيه، وهو يسجلها ويحفظها، وستعود الأجوبة حتما من الكون عندما تصل حدا ما لا يستطيع معرفته إلا الكون نفسه وعندها سيكون الأمر وبالا على الجميع، وعلى الأقل هذا ما تؤكده فيزياء الكم وفلسفتها.