بين «العاصفة» وأوباما.. ضاع الدم اليمني
عندما جلس السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض أواخر شهر آذار من العام الماضي، لاحت له من بعيد جائزةُ «نوبل للسلام» التي فاز بها باراك اوباما في العام 2009، كأول رئيسٍ اميركي يحصل على هذه الجائزة في عامه الأول في هذا المنصب، كتقديرٍ لجهوده «في تقوية الديبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب». ادار اوباما مباحثاته مع الجبير ليومين في الجناح الغربي من البيت الأبيض، حيث مكتب عمليات الأمن القومي. وبحسب «نيويورك تايمز»، لم يكن النقاش «حامياً». فقد اتفق الرجلان على موعد انطلاق «عاصفة الحزم» السعودية على اليمن، وأعطى الرئيس الأميركي الضوء الاخضر للبنتاغون لدعمها، بعدما كان مسؤولون عسكريون من الجانبين قد غاصوا في تفاصيل العملية قبل وقت قصير.
الإعلام الغربي يكسر صمته
أمس الأول، أنهى وزير الخارجية الاميركي جون كيري زيارةً إلى السعودية حمل معه فيها ملفات عدة، من بينها مقالات نُشرت في غضون الاسبوعين الماضيين، وتُمثل أقوى صرخة اعلامية غربية منددة بالانخراط الأميركي في حرب اليمن، التي ظلت لأكثر من عام «الأقل تغطية» في وسائل الإعلام الغربية. صحافيون قليلون كانوا يخرقون الصمت، من بينهم سامويل اوكفورد وبيتر سالزبوري اللذان فضحا في موقع «فايس» لمناسبة الذكرى الأولى للحرب، الصمت الدولي حولها، وعرقلة الرياض لأي تحقيق دولي في خرقها لقوانين الحروب، واستخدامها المفرط للقنابل العنقودية، ومدى التورط الأميركي والبريطاني في تسليح العدوان.
وشهدت الأسابيع الماضية حملةً اعلامية اميركية قوية على ادارة اوباما، تمثلت بخرق قناة «سي أن أن» التعتيم التلفزيوني، واستضافتها السيناتور عن ولاية كونكتيكوت كريس مورفي، احد ابرز السياسيين الأميركيين ـ ولعله من القلائل جداً ـ الذين يطالبون بفرض حظر بيع الأسلحة للسعودية على خلفية «عاصفة الحزم»، التي حصدت حتى الآن ارواح آلاف اليمنيين، معظمهم من المدنيين. وانضم المسؤول السابق في الـ «سي آي إيه» بروس ريدل إلى الحملة، في مقالة في «بروكينغز»، اعتبر فيها حرب اليمن «حرباً اميركية» بامتياز.
كيري، بحسب «نيويورك تايمز»، كان أبرز المدافعين داخل ادارة اوباما عن ضرورة مساندة الرياض في هذه الحرب إثر زيارة الجبير، ومعه سامنتا باور، مندوبة الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة، فيما أكد مسؤولون اميركيون أن خلافات داخل هذه الإدارة ظهرت حول جدواها، رغم التبرير الذي كان يطفو دائماً على السطح، ولو اعلامياً، بأن هذه الحرب هي جائزة الترضية الاميركية التي قدمت للسعودية خلال الأشهر الأخيرة للمفاوضات النووية بين الأميركيين والإيرانيين.
بعد جلسة الجبير وأوباما بأيام، انطلقت «عاصفة الحزم» في 26 آذار، وفي الثاني من نيسان وقّعت طهران مع مجموعة 5+1 «اتفاق الإطار» الذي مهّد للاتفاق النووي في تموز، وفي الرابع منه، أطلق الصحافي توماس فريدمان مصطلح «عقيدة اوباما»، إثر مقابلته الشهيرة مع الرئيس الأميركي، التي اعتبر فيها الأخير أن إيران قد لا تشكل الخطر الأكبر على السعودية ودول الخليج، بقدر ما يشكله احباط الشباب الخليجي داخل دولهم. وكشفت «نيويورك تايمز» التي نشرت المقابلة،لاحقاً، ان اوباما نفسه، وفق مسؤولين اميركيين، لم يقتنع كثيراً بالهلع السعودي من مدى التدخل الإيراني في اليمن، الذي لا تراه واشنطن سوى «مشاغبة ايرانية» خفيفة لـ «زكزكة» السعوديين.
«نفض اليد» الأميركية
نصيحة اوباما للرياض كانت في الواقع بمثابة بداية «نفض اليد» الأميركية من حرب اليمن، ليستمر الاميركيون على هذا المنوال، وصولاً إلى اعلان البنتاغون الأخير سحب القسم الأكبر من مستشاريه العسكريين من الرياض، وأن الدعم الذي تقدمه واشنطن للمملكة «لن يكون شيكاً على بياض». لكن صفقات السلاح الأميركية للسعودية في عهد اوباما تشي بعكس ذلك، وهي الأكبر في التاريخ الأميركي، وتُوّجت منذ اسبوع فقط بتذكير البنتاغون للكونغرس بصفقة عالقة لبيع الرياض 153 دبابة عسكرية من طراز «أبرامز ام 1 إيه 2»، و20 عربة وأسلحة ومعدات عسكرية اخرى للجيش السعودي. لكن 20 من دبابات «الأبرامز» الجديدة، ستكون بديلة لدبابات دمرت خلال معارك، بحسب توضيح البنتاغون، من بين 400 دبابة من هذا النوع يمتلكها الجيش السعودي، من دون ان يذكر كيف تمّ تدميرها.
وجلس كيري مع السعوديين، في وقت تدخل فيه حرب اليمن مرحلة جديدة، بعد فترات متعاقبة من المفاوضات التي وصلت إلى حائط مسدود، ليبدو اليمن وكأنه جبهة واحدة مفتوحة مع سوريا، فيما تسعى قوات الرئيس المنفي عبد ربه منصور هادي إلى فتح ثغرة في حصار تعز، التي أصبحت وكأنها موازيةٌ لمعركة حلب. وفيما استعرَّ القصف الحوثي على نجران وعسير السعودية، تبدو مجريات الحرب في «عودها على بدئها» حاسمةً في الصراع الشامل في الشرق الأوسط. ووسط ذلك، تبدو الإعلانات الوهمية السعودية والأميركية كلها ذات دلالة، من أصغر تفاصيلها إلى اكبرها حجماً، بدءاً بإعلان «نفض اليد» المتعلق بسحب المستشارين، وصولاً إلى اعلانات عن انسحابات مبهمة لتنظيم «القاعدة» من مناطق في اليمن، تترافق كثيراً مع كل مجزرة ينفذها الطيران السعودي ضد اليمنيين.
في هذه الأجواء، أعلن كيري من السعودية عن «مقاربة» جديدة للحل اليمني، داعياً إلى انهاء الحرب سريعاً. لكن العرض الجديد يحمل افخاخاً كثيرة «وافقت» عليها السعودية، حتى بدت الزيارة وكأنها جلسة استماع متبادلة مع الخليجيين، اقتصرت على نصائح اميركية للسعوديين، وعرض خطط الرياض لمستقبل الحرب. وذكر كيري بأن «الصواريخ الإيرانية للحوثيين» هي «تهديد للولايات المتحدة».
اما نصائح الأميركيين، الذين كانوا قد وُعدوا بحرب قصيرة لهم مغانم فيها من خيرات اليمن وموقعه الاستراتيجي، وأموال التسلح السعودي، فهي تعليمات لوجستية بتجنب المدنيين، وهي نصائح اثبتت فشلها. فبحسب «نيويورك تايمز»، تبين ان قلة خبرة الطيارين السعوديين اجهضت كل محاولات اميركية لتحديد اهداف الضربات، بالإضافة إلى تعمد السعوديين ضرب اهداف وضعتها لهم الولايات المتحدة على لائحة الممنوعات، ومنها الجسر الرئيسي الرابط بين الحديدة على البحر الأحمر إلى صنعاء، الذي ضرب مرتان كي يتدمر بالكامل.
وبالنسبة للرياض، اعتبر ريدل ان امامها ثلاثة خيارات في اليمن، إما التعنت في محاولةٍ للوصول إلى صنعاء، ما سيُحّول العاصمة اليمنية الى مقبرة كبيرة تؤجج المزيد من الكره اليمني للجار الأقرب، واما الاقتناع بتقاسم البلاد مع الحوثيين وعلي عبد الله صالح، واما الاستمرار في «اللعب» وعدم اتخاذ أي قرار.
في المحصلة، تقف الولايات المتحدة اليوم على مفترق امام ما تجنيه من حرب اليمن وما تخسره. بحسب وليام هارتينغ، مدير «مشروع السلاح والامن» التابع لـ «مركز السياسة الدولية»، فإن اوباما قد وافق منذ قمة كامب ديفيد مع زعماء دول مجلس التعاون الخليجي في أيار من العام الماضي، على 33 مليار دولار كمبيعات اسلحة لهذه الدول، معظمها إلى السعودية. ومنذ العام 2010، وافقت ادارة اوباما على ما مجمله 60 مليار دولار كمبيعات اسلحة للسعودية، واتمت عقود تسليح بلغت قيمتها 48 مليار دولار، أي بثلاثة اضعاف ما وقّع من عقود تسليحية في عهد جورج دبليو بوش (16 مليار دولار)، علماً أن دراسة للكونغرس الأميركي أظهرت ان المملكة النفطية انفقت أكثر من مئة مليار دولار منذ 2010 على شراء اسلحة اميركية. وبحسب آخر تقارير «المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية»، فإن الرياض تنفق 82 مليار دولار في العام على «الدفاع».
في المقابل، قد يختتم اوباما عهديه بأكبر وصمة عار في سجله، مع انخراطه في حرب قال عن احتمالات نجاحها قائد القيادة الوسطى للقوات الاميركية، الجنرال لويد اوستن، في آذار 2015 إنه «لو بإمكانه ان يعرف اهداف الحملة السعودية، ويجب ان اعرفها، قد اكون قادراً على تقدير مدى نجاحها». هذه الحرب تبدو في ميزان الربح والخسارة الأميركي الأكثر غموضاً، في ظل راية واشنطن حول محاربة الإرهاب، مع حصول تنظيم «القاعدة» على ثروة تقدر بمئة مليون دولار فقط من نهب مصارف المكلا في حضرموت، والادارة غير الشرعية لثالث أكبر مرفأ في اليمن، ما يجعل فرع «القاعدة في الجزيرة العربية» في ظل «عاصفة الحزم» يصل إلى موقع قوة لم يبلغه طيلة 20 عاماً على نشوئه.
عندما بدأت «عاصفة الحزم»، قال روبرت مالي، المسؤول الكبير في مجلس الأمن القومي الاميركي، «إنها ليست حربنا». بعد عام ونصف العام، لا تزال واشنطن تحاول غسل يدها من حرب خاسرة، فيما تتهمها السعودية، التي لا تزال تلعب دور «الزوجة الأولى المخدوعة»، بأنها لم تقدم لها الدعم الكافي في اليمن. لكن اوباما، حامل «نوبل للسلام»، كان في الواقع الأكثر اثباتاً بين الرؤساء الأميركيين ان «التحالف الاقتصادي والسياسي» بين المملكة والولايات المتحدة غير قابل للتفكيك.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"