قرن على الإبادة: من التصفية الجسدية إلى مسح الذاكرة
كتسب ذكرى الإبادة الارمنية هذا العام بعداً رمزياً وعاطفياً خاصاً، اذ تطوي صفحة قرن من الزمن من دون أي اعتراف معنوي أو تعويض مادي من وريثة السلطنة العثمانية.
لا يمكن مقاربة الابادة الارمنية من دون وضعها في سياق عام هو تفتت الامبراطورية العثمانية وصعود المطالبات القومية داخلها منذ بدايات القرن التاسع عشر، وخاصة بعد حرب استقلال اليونان (1821)، وصولاً الى التفتت النهائي للامبراطورية بعد الحرب العالمية الاولى.
وهي فترة معقدة على اكثر من مستوى لا متسع لشرحها أو حتى لسردها كرونولوجياً على نحو مقتضب. يبقى أن هذه الفترة شهدت، من بين امور اخرى طبعاً، انكفاء للعنصر الديموغرافي التركي العثماني، او المعثمن، من مناطق متعددة من الامبراطورية الى الاناضول، ترافق مع امرين اثنين: الاول انفصال اجزاء واسعة عن الجسم السياسي العثماني، وخاصة بعد حروب القرم والبلقان، والصراع الدائر على اجزاء من الاناضول نفسه بين مجموعات مختلفة، اهمها العنصر التركي، الارمن، الاكراد واليونانيون على نحو خاص، اضافة الى مجموعات اخرى اقل اهمية كالاقليات المسيحية المختلفة كالسريان.
استفادت السلطات العثمانية من ظروف الحرب العالمية الاولى للقضاء الممنهج على الوجود الارمني، السابق لوجود العنصر التركي في اسيا الصغرى. وكانت الانطلاقة بموجة اعتقالات وتصفيات للنخب الفكرية الارمنية في القسطنطينية في 24 و25 نيسان 1915، وهو التاريخ الرمزي الذي يستذكر فيه الارمن الابادة، اضافة الى السريان الذين يسمونها «سيفو»، اي السيف. أدت عمليات القتل المباشرة والمنظمة للرجال عامة، والتهجير القسري لباقي الارمن من نساء واطفال، في ظروف تجويع وانهاك، الى مقتل نحو مليون ونصف مليون ارمني، وقضت على ثلثي الارمن الذين كانوا يعيشون في آسيا الصغرى.
كان للقضاء على الوجود الارمني، ومعه الوجود المسيحي اليوناني والسرياني في آسيا الصغرى كمكون ديني ــــ قومي كان يمثل حوالى ثلث السكان، دور مهم في تسهيل حسم الصراع على الاناضول، والذي ادى الى انتصار العنصر التركي وفرض امر واقع جديد ادى لتغيير معادلة «سيفر» وتوقيع معاهدة لوزان (1923) وانشاء الجمهورية التركية. وبين الامبراطورية العثمانية والجمهورية التركية استمرارية عضوية على صعيد الادارة والجيش ومؤسسات الدولة، تحول دون تلقف مقولة القطيعة الكبرى بين الكيانين، وخاصة ان عدداً كبيراً من الاداريين والعسكريين والساسة هم أنفسهم في المرحلة الانتقالية وبعد نشوء الجمهورية التركية. كذلك أدّت الابادة الارمنية الى عملية انتقال كبرى للملكية، المنقولة وغير المنقولة، سمحت بتأمين استقرار اعداد كبيرة من الوافدين الى اسيا الصغرى، الذين شكلوا رفداً ديموغرافياً داعماً للكيان الجديد.
وككل كيان سياسي طورت الجمهورية التركية اسطورة مؤسسة حول نشوئها، من ضمنها انكار طبيعة ما تعرض له الارمن بكونه ابادة منظمة. يذكر في هذا الصدد ان عتاة القومية التركية لا ينكرون تعرض الارمن لمجازر، الا انهم يقولون بأنهم ــــ اي الارمن ــــ ارتكبوا مجازر بحق الاتراك العثمانيين، وبأن ما تعرضوا له كان ضرراً جانبياً نتج خاصة عن قرار الحكومة العثمانية القاضي بترحيلهم عن خط الجبهة الشرقية حيث كانوا «يتعاملون مع العدو الروسي ضد السلطنة». تساند هذا الموقف ترسانة تعليمية ودعائية تجعل من المواطن التركي يعيش حالة من الهذيان في ما يتعلق بالابادة، وبما حصل في الحرب العالمية الاولى و«حرب الاستقلال»، اي الصراع على الاناضول. وتؤدي دوراً هاماً في تأويل مستمر ومحموم لتلك الحقبة، وكأن المدافع لا تزال تدوي في «غاليبولي».
يشار الى أن المناهج التربوية في تركيا تبنت استراتيجية جديدة للتعاطي مع الموضوع في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، قوامها ادراج مادة «المسألة الارمنية» في التعليم، والتعاطي معها من وجهة نظر الخطاب الرسمي بصفتها مجازر طاولت، من جملة من طاولت، الارمن خلال الحرب العالمية الاولى، بدل سياسة التجاهل او الانكار التام. ممارسة تضاف الى الاستراتيجية التركية الرسمية على الصعيد الدولي، التي تطالب باحالة الموضوع على لجان مؤرخين لنزع الصفة السياسية عنه على نحو كبير وبالتالي تعطيله، وجعل الامر عبارة عن وجهة نظر ونقاش اكاديمي بين اختصاصيين.
يبقى أن تعريف الابادة لا يرتبط بعملية حسابية لتعداد الجثث بل بمقاييس اخرى. فالابادة Genocide هي القتل الجسدي المتعمد، المنهجي والمنظم، لجماعة أو جزء منها، بسبب أصولها الاثنية أو الدينية أو الاجتماعية. وهو مصطلح جديد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية على يد الحقوقي الاميركي رافايل لمكين، واستخدمه لوصف الجرائم التي تعرض لها اليهود، والشعوب السلافية والغجر على يد النازيين، إضافة الى الأرمن والأشوريين.
إذا كان للحكومة التركية ولشرائح واسعة من الشعب التركي مبررات لانكار الإبادة، للأسباب التي ذكرناها، ولأسباب أخرى متعلقة بأي تعويضات قد تنتج عن اي اعتراف محتمل مستقبلاً، واذا كان للبنانيين عامة مبررات للتضامن مع قضية اللبنانيين من أصول أرمنية تحت عنوان المواطنة، يبقى الموقف المنفر لبعض الفئات غير القليلة التي تتبرع للدفاع عن تاريخ السلطنة العثمانية لأسباب فئوية حاقدة، لا تستحق إلا التأكيد على التضامن مع الارمن، على الاقل من باب وجوب تنظيف سَريرة هذا البعض بالمعاسف.