من ميونيخ إلى أوسلو : عملية الموساد في طرابلس (الجزء الأخير)

21.07.2018
نعود معكم لنستكمل الجزء الأخير من هذه السلسلة ، و التي فيها أسرد مغامرات والدي و الأخطار التي تعرض لها في سبيل قضيته و قضية الشعب الفلسطيني و الأمة العربية.

 برغم ان جهاز الموساد حقق الكثير من العمليات الناجحة في عام 1973، الا انه إرتكب الكثير من الأخطاء أثناء حربه الأمنية مع الفلسطينيين. يقول رونين بيرغمان الخبير المقرب من الموسسة الأمنية الإسرائيلية، ان جهاز الموساد نفذ خلال اربعة عشر شهرا التي سبقت وتلت عملية فردان أكثر من خمسين عملية امنية، استهدفت قادة العمل الوطني الفلسطيني من اغتيال ومحاولة اغتيال وتصفية، ولم يعلن الا عن خمس وعشرون عملية، وهناك الكثير من الضحايا الذين قضوا في تلك العمليات ولم يعرف حتى الان إذا كانوا ضحايا لعمليات الاغتيال من قبل فريق كيدون، بالعودة إلى الاخفاقات التي وقع بها جهاز الموساد، فان اكتشاف ابو باسل لعملية تصوير منزله دفعته لابلاغ الامن العام اللبناني وهذا يعتبر الاخفاق الأول، ثم تلاه محاولة اورلخ لوسبرخ خطف جول مسعد قنصل المانيا الغربية في مدينة طرابلس (لبنان)، ومحاولة لوسبرخ الصاق التهمة بسعيد السبع انه وراء خطف القنصل او قتله في محاولة من جهاز الموساد لافتعال مشاكل بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الألمانية، خاصة ان هذه المحاولة جاءت بعد عملية ميونيخ الشهيرة، ومن ثم اقدامه على تدبير عملية خطف نفسه بالتعاون مع ثلاثة لبنانيين وخطيبته جميلة معتوق، واصدار بيان باسم منظمة وهمية كان قد انشائها في طرابلس تحمل اسم منظمة ميونخ 72 تتبنى عملية خطفه، وتطالب الحكومة الألمانية بدفع مبلغ 15 مليون ليرة لبنانية، في محاولة اخرى من جانبه لاتهام سعيد السبع انه وراء عملية خطفه بسبب موقف الحكومة الألمانية المتماهي مع الاسرائليين خلال تنفيذ عملية ميونخ، فتم اعتقاله من قبل النقيب عصام ابو زكي، واعترف امامه انه كان مشاركا في عملية فردان، وانه كان يراقب منزل سعيد السبع تمهيدا لاغتياله، جميع هذه الاخفاقات ودور بعض الجهات الامنية اللبنانية والاطراف الفلسطينية التي كانت على تعاون وتنسيق مع شبكة اورلخ لوسبرخ، والذي كان يتلقى التمويل من جهات فلسطينية في لبنان، وتحويلات بنكية من سويسرا ووالمانيا عبر بنك علي جمال في بيروت.

الجهات الفلسطينية المتورطة معه سهلت دخوله إلى مخيم البداوي في شمال لبنان لتدريب عناصر الكفاح المسلح الفلسطيني، كل هذه المعطيات والاعترافات ظهرت بعد اعتقال عصام ابو زكي له في سير الضنية فتم تكليف إبراهيم البطراوي مسوؤل الكفاح المسلح في شمال لبنان بالاتصال مع عصام ابو زكي، ومحاولة التوسط لديه للافراج عن اورلخ واغلاق ملفه، بحجة انه مناضل اممي مناصر للقضية الفلسطينية، لكن النقيب أبو زكي ابلغ المسوؤل الفلسطيني ان ملف اورلخ اصبح في المحكمة العسكرية وانه اعترف بمشاركته في عملية فردان، ومراقبته لمنزل سعيد السبع تمهيدا لاغتياله، كما انه اعترف لدى المحكمة انه نقيب في الجيش الإسرائيلي واسمه الحقيقي حاييم روفيل.

اعترافات اورلخ لوسبرخ او حاييم رؤفئل كما ادعى، وافتضاح دوره وشبكاته دفعت جهاز الموساد لتنفيذ عملية اغتيال أحمد بوشيقي بمدينة ليلهامر في بالنرويج يوم 21 يوليو 1973، اي بعد عشرة ايام من اعتقال حاييم روفيل في قرية حقل العزيمة بسير الضنية، واعلنت إسرائيل من تل ابيب، انها قتلت علي حسن سلامة مسوؤل القوة 17 لدوره في عملية ميونيخ، مع ان صلاح خلف اكد ان لا دور له في عملية ميونيخ ابدا. إسرائيل التي اعلنت انها أخطأت الهدف بقتل بوشيقي الذي يشبه ابو حسن سلامه، كان هدفها التستر على دور اطراف عديدة انكشفت في طرابلس وفردان، فمن يدقق في صور الشخصيتين علي حسن سلامة وأحمد بوشيقي، لا يجد ان هناك تشابه بين الاثنين، كما انه من المعروف عن جهاز الموساد انه يسكن بجانب الضحية قبل ستة أشهر على الاقل من تنفيذ جريمته، فيقوم برصد الضحية واخذ العديد من الصور له ولعائلته وزواره، كما انه يرسم مجسم لشقته، كما حدث في فردان، حيث استاجر جهاز الموساد عدة شقق حول منزل القادة الثلاثة، وهذا ما حدث عند محاولة اغتيال سعيد السبع، فقد استاجر الموساد عدد من الشقق حول منزله وفوق شقته، ولا يمكن ان يقوم جهاز محترف بحجم وكفاءة الموساد بتصفية شخص لمجرد تشابه كما يدعي، الشىء الاخر الملفت، هل من المعقول ان يسافر رئيس جهاز امني فلسطيني إلى قرية ليلهامر النرويجية ليعمل في فندق ،ويتنكر بشخصية نادل مغربي ويقوم بتقديم القهوة والشاي للزبائن ؟ كارثة الموساد في ليلهامر لم تكن بسيطة، اعتقال ستة ضباط من جهاز الموساد في النرويج اضافة لاخفاقات الموساد في لبنان، والتي تكللت باعتقل حاييم رؤفيل في طرابلس، دفعت جولدا مائير لاصدار اوامرها بوقف العمليات الخارجية فورا، كما ان شبتاي شافيت قدم استقالته إلى مدير الموساد تسفي زامير، لم يتوقف الامر هنا بل ان مايك هراري مدير وحدة كيدوان قدم استقالته أيضا، يعتبر شهر تموز من عام 1973 شهر الكوارث لجهاز الموساد، الذي اصبح يدرس في مناهجه خطأ طرابلس الذي تسبب باعتقال سبعة ضباط من وحدة كيدون الإسرائيلية.

من المعروف ان إسرائيل، تتكتم عن الاحداث الامنية التي تنفذها في اراضي الغير، لتعود بعد عشرين او ثلاثين عاما، وتفرج عن المعلومات بعد انقضاء الزمن عليها، ولكن ما هو الشيء الذي يمنع الموساد من الحديث عن عملية الموساد الفاشلة فى طرابلس بعد مرور خمس واربعون عاما على وقوعها، رونين بيرغمان القريب من الموسسة الامنية الإسرائيلية، لمح إلى العملية، وذكرها في كتابه الجديد “أقتل أولا”، خلال حديثه مع مدير الموساد العاشر مئير داغان الذي قال : لو قتل جنديا في جنين، فإنها كارثة فظيعة لأسرته، إنها نهاية حياتهم، لكن ذلك ليس بالكارثة الكبيرة لدولة إسرائيل. لو تم القبض على وكلاء الموساد في أراضي العدو، فانها كارثة كبيرة، وتقع مباشرة على رئيس الوزراء الإسرائيلي . هناك قصة – لا أستطيع أن أقول لك متى وأين؛ هناك أشياء لا أستطيع مشاركتها – كان هناك عميل موساد، في بلد معادي جدا، الذي تورّط في حادث سيارة، تماما عن طريق الخطأ، ودهس الشخص وقتله. يحدث ذلك – ليست مؤامرة. حققت الشرطة المحلية، وألقت القبض على هذا الرجل. لا يمكنك أن تتخيل ما الذي كان يحدث في إسرائيل – رئيسة الوزراء جولدا مائير تحدثت عدة مرات في اليوم مع مدير الموساد تسفي زامير لمعرفة ما يحدث، حتى انتهى الأمر.

فى النصف الثاني من شهر فبراير 2015، خرج مدير الموساد شبتاي شافيت على الاعلام الإسرائيلي، متحدثا عن عمليات الموساد، فذكر ان قائد كبير في الموساد ترأس عملية في بلاد بعيدة، ادت إلى اعتقال ضابط، وفي صبيحة اليوم التالي، توجه إلى مديره تسفي زامير والذي كان مشاركا في العملية وقدم استقالته، ضحك زامير وقال لشافيت، او ان كل اعتقال او اخفاق سوف يؤدي إلى استقالات، لما بقي شيء اسمه موساد، عد إلى عملك، كما اشار إلى ان الموساد، يعمل في المنطقة الرمادية اي بين اسطر قوانين دول اجنبية، خدمة لإسرائيل. الكل منخرط بهذا العمل، عندما نمارس عملا سريا على الاراضي الفرنسية والفرنسيون يفعلون ذلك لدينا، في حال وقعت حادثة فشل، يتوجب عليك التعاطي مع جهاز مخابرات صديق، انت تفعل ذلك باوراق مكشوفة وهو يتفهمك، ويدرك ان رأس الجبهة يحارب من اجله، فشل عملية قد يؤدي إلى استنكار وطرد و تورط سياسي من جانب الدولة التي تتعرض للاذى، علاقات الثقة بين اجهزة المخابرات الصديقة، هي الامر الأكثر اهمية و هو الامر الحاسم.

من يتمعن في حديث شبتاي شافيت، عن التعاون بين الموساد والاجهزة الامنية الغربية، عند وقوع فشل او اعتقال لضباط عاملين في جهاز الموساد، يدرك ان تحرك السكرتير الثالث في السفارة الألمانية في بيروت ولتر نوفاك، لم يكن من فراغ، لقد ادعى نوفاك، فور وقوع اختطاف اورلخ لوسبرخ، ان الاخير دبلوماسي ألماني خطف من قبل سعيد السبع، وعندما قبض النقيب عصام ابو زكي على اورلخ لوسبرخ في حقل العزيمة، و كشف ملابسات القضية، ان اورلخ لوسبرخ هو من قام بخطف نفسه، لتوريط سعيد السبع في القضية. حيث أن تبدل حديث السفير الألماني ولتر نوفاك، بيد أنه ادعى ان اورلخ لوسبرخ، مواطن ألماني وهو لص وسارق وعليه عدة مذكرات توقيف في ألمانيا وغيرها، على خلفية اصداره شيكات من دون رصيد، وهو يطالب الحكومة اللبنانية، بتسليمه اورلخ لوسبرخ، حتى يحاكم في بلده المانيا. لا شك ان هذه القصة تكشف بوضوح حجم التورط الألماني الامني مع جهاز الموساد، وهذا يضع العديد من علامات الاستفهام حول عملية ميونيخ نفسها، والتي تحولت إلى بطولة فلسطينية وهمية وماساة إسرائيلية كاذبة.

كما في كل الاحداث الامنية، لم يحقق الفلسطنيون بهذا الخرق الامني الإسرائيلي الفاضح لمخيماتهم، بل على العكس من ذلك، فقد جرى طمس الملف لغرض في نفس يعقوب، اورلخ لوسبرخ تم الافراج عنه بظروف مريبة، فتم ترحيله إلى المانيا ومنها انتقل إلى إسرائيل التي نجت من كارثة اخرى محققة شبيهة بكارثة ايلي كوهين، اما سعيد السبع فقد ترك منظمة التحرير بعد خلافات عميقة مع ياسر عرفات وتوجه إلى عراق صدام حسين الذي تربطه به علاقة قديمة عندما كان لاجئا سياسيا في مصرعبد الناصر. اما علي ديب صاحب محل كويك سندوش، فقد قتل في ظروف غامضة في بيروت عام 1974 حيث احترق داخل سيارته، ولم يتمكن من الخروج بسبب التصاق رجله بدعسة البنزين، وقد راجت الاقاويل ان ابو حسن سلامة يقف خلف مقتله، اما احمد رسلاني فقد تعرض لمحاولة اغتيال من قبل احمد القدور زعيم دولة المطلوبيين في طرابلس، اما عصام ابو زكي فقد واجه دولة المطلوبين وقضى على زعيمها احمد القدور داخل الاسواق الشعبية، في الوقت التي كانت الاذاعة الإسرائيلية تناشد جماعة القدور بالتوجه نحو منظقة السقى في بساتين طرابلس، تمهيدا لنقلهم إلى إسرائيل، لم يستمر ابو زكي كثيرا في طرابلس، فقد بدأت الحرب الاهلية اللبنانية تلقى بظلالها على مدينة طرابلس، حتى وصلته معلومات عن نية بعض الاطراف لاستهدافه او اغتيال المحافظ قاسم العماد فقام بتحذيره ولكن المحافظ لم يقتنع، وفي احد الايام وبينما كانت زوجة ابو زكي تخرج من منزلها، فوجئت برجل ممدد امام باب المنزل، وكان مذبوحاً من الوريد إلى الوريد، والدماء تسيل منه. وبعد هذه الجريمة اخذ ابو زكي قرارا بنقل عائلته إلى بيروت، عن تلك الفترة يتحدث أبو زكي في كتابه ( محطات في تاريخ وطن ) ويقول: قضيت ليلتي في منزل أهل زوجتي. وصباح اليوم التالي الواقع فيه 20 ديسمبر 1975 عقدت العزم على العودة إلى طرابلس، لكن عندما انطلقت بالسيارة، سمعت صوت جهاز اللاسلكي يناديني رددت على النداء، فأبلغوني ان مجموعة مسلحة قد اقتحمت منزلي، وعندما لم يجدوني فيه، اطلق عناصرها النار بداخله كيداً وحقداً، لكن المجموعة نفسها تابعت باتجاه منزل المحافظ الشيخ قاسم العماد، الذي لم يكن يبعد كثيراً عن منزلي، وفي تمام الساعة التاسعة والدقيقة 45، ظهر اثنان من المسلحين داخل سيارة امام البناء الذي يسكنه المحافظ. كان المحافظ قد غادر مصعد بناية عبد الوهاب التي تقع عند المدخل الشرقي لميناء طرابلس، بصحبة زوجته متوجها إلى سيارته، ترجل سائق السيارة الدركي خالد خضر العلي لفتح الباب الخلفي للمحافظ وعقيلته، وفي تلك اللحظة انهمر الرصاص بغزارة، وفرّ المسلحون وخر المحافظ صريعا والدم ينزف من أنحاء جسمه، بعدما أصيب بعشرين رصاصة في رأسه ووجهه وكتفيه وصدره، بينما أصيبت زوجته برصاصة في بطنها وثمانية في رجلها خلال محاولتها التمسك بزوجها.

واحد وعشرون عاما هي الفترة الزمنية ما بين تنفيذ عملية ميونيخ 1972 وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 ، خلال هذه الفترة نفذت اسرائيل العديد من العمليات الامنية والاغتيالات لشخصيات فلسطينية مركزية ، كانت تقف فى وجه التسوية السياسية التي تروج لها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. هذا بشير إنذار للذين يروجون لصفقة القرن مع دولة  لا تعرف إلا لغة الحرب و الخداع و المكائد.