رحيل ثلاث علامات هامة في تاريخ الفكر العربي الحديث عام 2016

03.01.2017

فقدت الأمة العربية خلال عام ٢٠١٦ ثلاث قامات فكرية رفيعة: جورج طرابيشي (١٩٣٩ـ آذار ٢٠١٦) ، كلوفيس مقصود (١٩٢٦ ـ أيار ٢٠١٦) وأخيراً صادق جلال العظم (١٩٣٤ ـ كانون أول ٢٠١٦).

كان جورج طرابيشي أول المغادرين في ١٦ آذار ٢٠١٦، وهو المفكر والكاتب والناقد والمترجم ابن مدينة حلب الشهباء، وتركزت كتابات جورج طرابيشي في مجالات النقد الأدبي والفلسفة وعلم النفس. فقد ترجم تقريباً معظم أعمال عالم النفس الكبير سيغموند فرويد، ومنها «مدخل الى التحليل النفسي»، و«الأنا والهذا». كما ترجم كتاب «المدخل إلى علم الجمال» لهيغل.
ولكن مشروعه الفكري الكبير تركز حول قضية «نقد نقد العقل العربي» الذي صدر في أربعة أجزاء آخرها صدر عام ٢٠٠٤، وذلك في إطار حوار نقدي وجدلي مع المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري. وبهذا الصدد يقول جورج طرابيشي إنها «المحطة الخامسة» في حياته التي كرس لها ربع قرن من عمره. وقد بدأت هذه المرحلة عام ١٩٧٢ عندما وقعت بيده مخطوطة كتاب «تكوين العقل العربي»، إذ يقول إن هذا الكتاب: «من يقرأه لا يعود بعدما يقرأه كما كان قبل أن يقرأه». وانطلاقاً من هذا الكتاب كرس جورج طرابيشي ربع قرن من البحث والتنقيب في التراث اليوناني والمسيحي والإسلامي لكي يواصل الحوار مع مشروع عابد الجابري «نقد العقل العربي» الذي صدر منه عدة أجزاء في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
وفي ضوء الانكسارات التي عصفت بالوطن العربي خلال السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته كتب آخر أعماله بعنوان «من الثورة إلى الردة» عام ٢٠٠٠ حول تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، لتكون بمثابة شهادة على الواقع العربي الراهن وانهيار الكثير من الأحلام والآمال التي علقت على النهوض العربي. ولعل من أشهر مقولاته الفكرية: «نحن نريد أن نجيب على أسئلة الأبناء بأجوبة الأجداد» وكذلك قوله: إن «العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقدياً».
وقد بدأ جورج طرابيشي حياته متديناً مسيحياً ثم أصبح حزبياً بعثياً ثم معارضاً بعثياً ومر بتجربة السجن قبل أن يعتكف ويكرس كل وقته لمشروعه الفكري. وفي خلال فترة المد القومي، لعل القليلين يعلمون أن جورج طرابيشي عمل مديراً لإذاعة دمشق خلال الفترة ١٩٦٣ ــ ١٩٦٤. كما تولى رئاسة تحرير مجلة دراسات عربية التي تصدر عن دار الطليعة في بيروت خلال الفترة ١٩٧٢ ــ ١٩٨٤، قبل أن يتخذ قراره بالمغادرة إلى منفاه الاختياري في باريس.
وكان ثاني المغادرين كلوفيس مقصود المفكر اللبناني الكبير (أيار ٢٠١٦). وقد جمع كلوفيس مقصود بين العمل الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي. فعلى الصعيد الدبلوماسي، شغل كلوفيس مقصود منصب سفير الجامعة العربية في الهند خلال الفترة ١٩٦١ ــ ١٩٦٦ وكان له هناك صولات وجولات، ثم عين سفيراً للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة خلال الفترة ١٩٧٩-١٩٩٠. وخلال تلك القترة كان من أكبر المدافعين عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية. وعلى الصعيد الأكاديمي، حصل كلوفيس مقصود على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أكسفورد وقام بتدريس شؤون الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في واشنطن، كما شارك في تأسيس مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون.
بيد أن أهم ما تميز به مقصود هو مواقفه السياسية والفكرية، فقد كان أحد أعضاء مجلس العقيدة في الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان قبل استقالته مع زملائه (جبران مجدلاني وموريس صقر) نتيجة خلاف مع الزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط حول الموقف من تأميم قناة السويس في مصر. وخلال فترة المد القومي العربي والتحرري، ألف كلوفيس مقصود عدة كتب سياسية وفكرية رفيعة المستوى أهمها: معنى عدم الانحياز، وأزمة اليسار العربي (١٩٦٠)، واختتم مشواره الفكري ــ كما فعل جورج طرابيشي ــ بإصدار شهادته الأخيرة بعنوان العروبة في زمن الضياع.

وقد تميزت كتابات كلوفيس مقصود بالعمق الفكري رغم صعوبة فهم بعض مقولاته التي أطلق عليها البعض ــ على سبيل المزاح ـ «الكلفسة» بمعنى تحويل الشيء الواضح إلى معنى معقد أو غامض! وبهذا الصدد يروي صديقنا كمال خلف الطويل أنه عندما كان يحدث كلوفيس عن أحد المعارضين استنكر كلوفيس هذا التوصيف، وقال له «إنه معترض وليس معارضاً!»
كذلك عمل كلوفيس مقصود في جريدة «الأهرام» المصرية خلال فترة رئاسة محمد حسنين هيكل لمؤسسة الأهرام، كما شغل منصب رئيس تحرير العدد الأسبوعي من «النهار العربي والدولي» بين عامي ١٩٧٣ ــ ١٩٧٩. وكان آخر كتاب صدر له بعنوان «من زوايا الذاكرة: رحلة في محطات قطار العروبة» الصادر عام ٢٠١٤.
وكان آخر المغادرين صادق جلال العظم المولود في عائلة أرستقراطية دمشقية ودرس الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت في عصرها الذهبي وتخرج منها عام ١٩٥٧، ليتابع دراساته الفلسفية في جامعة «ييل» في الولايات المتحدة الأميركية وينال درجة الدكتوراه عن أطروحته عن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون. ولعل الميلاد الحقيقي لصادق جلال العظم كمفكر عربي بارز كان في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران ١٩٦٧ عندما نشر كتابه ذائع الصيت النقد الذاتي بعد الهزيمة (١٩٦٨).
وقد اهتم صادق العظم بنقد الفكر الديني ونشر كتابه المهم عن «نقد الفكر الديني» عام ١٩٦٩ الذي أثار عاصفة من الانتقادات وحوكم بسببه وصدرت كتب ومقالات عدة للرد عليه لعل من أهمها «البرهان اليقيني للرد على كتاب نقد الفكر الديني» لجابر حمزة فراج. وفي الثمانينيات، أصدر كتابه النقدي «الاستشراق والاستشراق معكوساً» عام ١٩٨١، وكان آنذاك أستاذاً في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. واستمراراً للمشوار الفكري نفسه، أصدر كتابه «دفاعاً عن المادية والتاريخ» عام ١٩٩٠. وتقاعد صادق العظم من منصبه كرئيس لقسم الفلسفة في جامعة دمشق في عام ١٩٩٠. وبعد تقاعده عمل صادق العظم أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الأجنبية وبصفة خاصة جامعة «برنستون» في الولايات المتحدة الأميركية. وقد أثار كتابه «ذهنية التحريم» الصادر عام ١٩٩٤ الكثير من الجدل واللغط نتيجة دفاعه عن قضية سلمان رشدي وكتابه آيات شيطانية. وفي تقديري إن صادق العظم كان متطرفاً في علمانيته، مما جلب عليه العديد من المشاكل.
كذلك، ترأس صادق العظم رئاسة تحرير مجلة دراسات عربية لفترة قصيرة خلال عام ١٩٦٩، وهي المجلة التي كانت تصدر عن دار الطليعة في بيروت لصاحبها الراحل بشير الداعوق الاقتصادي اللبناني الكبير، التي خلفه في رئاسة تحريرها جورج طرابيشي بدأ من عام ١٩٧٢. ومع بداية الحرب الأهلية في سورية اختار صادق العظم ألمانيا كمنفى اختياري حتى وفاته.
ومثله مثل جورج طرابيشي تحول صادق العظم تدريجياً من الموقع الفكري الماركسي إلى مواقع يعتبرها البعض أقرب إلى الليبرالية. ولعل هذا يطرح إشكالية الخيار بين نظام اقتصادي اجتماعي يقوم على العدالة في التوزيع ويقوم على الاستبداد السياسي في مقابل نظام يقوم على الليبرالية السياسية على حساب العدل الاجتماعي، تلك الإشكالية أدت إلى اضطراب في المواقف السياسية والى العديد من التقلبات الفكرية في عالمنا العربي المعاصر. الأمر الذي يدعو إلى ضرورة البحث عن نموذج يزاوج بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية، بدلاً من أن ينفي أحدهما الآخر كما حدث خلال الفترة الستالينية في الاتحاد السوفياتي أو الاستبدادية في بلداننا العربية.
ولعل المفارقة تكمن في أن كلاً من الفرسان الثلاثة قد رحل عن عالمنا في المنافي في عواصم غربية، إذ توفي جورج طرابيشي في باريس بعد فترة هجرة طوعية طويلة، وتوفي كلوفيس مقصود في واشنطن، حيث أسس مركز لدراسات الجنوب في الجامعة الأميركية في واشنطن، وتوفي صادق جلال العظم في برلين. ولعل تلك المغادرة للحياة خارج أرض الوطن لها دلالة رمزية هامة، وكأنها بمثابة صيحة احتجاج على الواقع المتردي والمأسوي الذي يعيشه الوطن العربي بعد انحسار فترات المد القومي والثوري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما تفتحت المواهب والطاقات الفكرية الخلاقة لهؤلاء الفرسان الثلاثة.