المحافظة على سوريا أم التخلص من غولن، ما الأهم بالنسبة لروسيا
منذ مفاجأة الانفراج الروسية التركية وفشل الانقلاب الموالي للولايات المتحدة في تركيا، ثارت تكهنات في بعض القطاعات على الانترنت أن موسكو وأنقرة انخرطتا في المصالحة مع بعضها البعض، مع ثرثرة تقول أن تفكيك أردوغان لشبكة فتح الله غولن يفترض أن يكون أكثر فائدة للمصالح الاستراتيجية الكبرى الروسية من الدفاع عن حكومة "علمانية منتخبة ديمقراطيا" في سوريا. و"الحجة" التي تدعم هذا الادعاء هي المزاعم أن غولن أكثر تهديدا لروسيا وحلفائها في آسيا الوسطى (وخاصة في قرغيزستان) من استيلاء الإرهابيين على سوريا، وهو ما يفسر لماذا تطارد تركيا تنظيم فتح الله غولن لكنها لم تغلق تسلل الإرهابيين عبر الحدود السورية. وهذه الحجة لا تقنع حتى المبتدئين في السياسة الخارجية والمراقبين في الشؤون الدولية، وهي قراءة غير دقيقة للوضع. وهي خاطئة.
المحاذير والقيود
إنه تقييم قصير النظر للغاية ذلك الذي يستنتج بأن روسيا قد باعت سوريا في مقابل تحييد غولن، لأن هذا لا يأخذ بعين الاعتبار الأهمية الجيواستراتيجية التي تحتلها سورية بالنسبة لروسيا، ولا حقيقة أن إعادة التوجه الأوراسي لتركيا هو عملية مستمرة و ليست تحولا لحظيا.
يمكن للمرء أن يفهم لماذا يبالغ بعض أنصار سوريا وحتى السوريين أنفسهم بردة الفعل في هذا الموضوع وهذا بسبب الضغط المكثف والمتواصل عليهم على مدى السنوات الخمس الماضية، ناهيك عن الطبيعة المربكة والمؤثرة لمفاجأة الانفراج الروسي التركي، ولكن على المرء أن يدرك بعد هذا التقارب في النهاية أن كل ما تقوم به روسيا مع تركيا هو في صالح الاستفادة القصوى لسوريا، وليس فيه أي ضرر على سوريا، يحتاج فهم هذا الموضوع إلى إدراك الفروق الدقيقة للواقعية الجيواستراتيجية في اللعب.
رفض السعوديين، مغازلة الأتراك
الحجة الأولى التي تكشف زيف النظرية التي تفترض بأن روسيا استبدلت سوريا بتركيا هي أن موسكو لم تفعل ذلك من قبل، حتى عندما عرض عليها مليارات الدولارات من الصفقات الاقتصادية والتي قدمتها المملكة العربية السعودية في محاولة لرشوة الرئيس بوتين. ليس هناك سبب جدير بالتصديق لأن يغير الرئيس الروسي رأيه "مجانا" في الوقت الذي كان يستطيع أن يحصل فيه على مليارات الدولارات ورفض ذلك. وعلى الرغم من الأرباح المالية والاستراتيجية الكبيرة التي كانت ستحصل عليها روسيا من مشروع خط البلقان "ستريم" المقرر إحياؤه قريبا، فإنه من السذاجة القول أن روسيا ستبيع سوريا من أجل هذا الخط الوحيد. بينما أنصار هذه النظريات يشيرون لفشل تركيا المستمر بإغلاق الحدود السورية ك"برهان" على صحة ادعاءاتهم، فهم إما غير متمكنين تماما في الجغرافيا السياسية أو منخرطين عمدا في الديماغوجية لتعزيز بعض الأجندات المبهمة.
إعادة التوجه التركي نحو أوراسيا هو عملية تدريجية، ولم يكن أبدا من المتوقع أن يكون التحول إلى هذا المحور سريعا. والمستوى العميق من الهياكل المؤسساتية والاستراتيجية لتركيا في المجتمع الأحادي القطب لا يمكن أن تزول بمجرد مرسوم، على الرغم من أنه يمكن القول إن عمليات التطهير التي قام بها أردوغان كانت مهمة لتنظيف "الدولة العميقة" (الجيش، والاستخبارات، والبيروقراطية الدبلوماسية الدائمة ) من اللذين سيواجهون هذا التغير في المحاور.
يجب على المراقبين التخفيف من توقعاتهم والتحلي بالصبر، ولا توجد هناك حاجة إلى المبالغة في رد الفعل العاطفي والمعرض إلى الديماغوجية التي تتم إثارتها من قبل بعض المعلقين بشأن هذه المسألة. وهذا لا يعني أن كل من يختلف مع هذا التحليل لديه نوعا من الدوافع الخفية - لا على الإطلاق - ولكن أصحاب هذا التصرف والتحليل هم بالضبط نوع من الجمهور مثيري الشغب المناهضين لروسيا اللذين يبذلون قصارى جهدهم لهذا الهدف.
غولن مقابل الرئيس الأسد
ثانيا، فإنه من الضروري بالنسبة للأفراد المهتمين أن يدركوا أن غولن الذي هو في الواقع شخصية مؤثرة مع شبكة واسعة وغامضة، فإنه في الواقع مجرد رئيس صوري وراء هذه الحركة والأيديولوجية. تماما مثل مع البغدادي في "داعش"، لذلك فالقضاء أو تحييد غولن لن يدمر تلقائيا منظمته، بل من المرجح أن تستمر في البقاء على قيد الحياة بغض النظر عن وجوده شخصيا. وعلاوة على ذلك، فإنه من المستحيل تفكيك هذه الشبكة تماما حيث أن الولايات المتحدة تساعد قادتها وتؤويهم.
روسيا تتفهم هذا واتخذت بالفعل تدابير استباقية منذ عام 2008 للدفاع عن نفسها من هذا التهديد، ويمكن للمرء أن يستنتج منطقيا ذلك حيث أنها تتعاون أيضا مع حلفائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون وتساعدهم على القيام بذلك أيضا.
سوريا، من ناحية أخرى، كحضارة وموقع جغرافي على حد سواء. بالأصل تنتشر فيها أيضا أيديولوجية من الشمولية العلمانية والسلام، وليس الإسلام المتطرف والإرهاب.
وبالمثل، فإن الرئيس الأسد هو أيضا رمزا لكل من يمثله، بشكل واضح بالطريقة المعاكسة كليا لما يمثله غولن. وبالتالي فإن إزاحة فرد واحد من المعادلة لن يدمر الأفكار والشبكات التي تدعمه. مجتمع المقاومة سيبقى حتى بعد رئاسة الرئيس الأسد، كما أن شبكة غولن ستستمر حتى من دون مؤسسها. الفرق الأساسي، مع ذلك، هو أن حملة الهوس من قبل القوى الأجنبية لإزالة الرئيس الأسد بشكل غير دستوري من منصبه أدت إلى الموت والدمار على نطاق واسع، في حين أن مبادرة سلمية من الناحية القانونية لتسليم غولن من حضن الولايات المتحدة في ولاية بنسلفانيا من شأنه أن يمنع الكثير من الموت القادم والدمار. ومن الواضح أن الأسد سيبقى وغولن يجب أن يذهب. على روسيا فعل ذلك بأي وسيلة أخرى، وهذا لن يكون بالتراضي.