الأبعاد الجيوسياسية للانسحاب الروسي من سورية

16.03.2016

شهد اليومان الأخيران سجالات سياسية حول الحدث السياسي الأكثر سخونة، وهو انسحاب القوات الروسية من سورية. وبينما كان الانسحاب متوقعا، جاء توقيت مثل هذا الاعلان غير متوقع بتاتا.
السياسة الروسية وعلاقات موسكو الدولية، مبنية على رؤية واضحة وباردة لمصلحتها الوطنية.
هدف روسيا الحقيقي في سورية هو تأمين وجودها في منطقة الشرق الأوسط، وكسر قيود العزلة الدولية، التي نجمت عن تدخل حلف الناتو في أوكرانيا، ما أدى إلى التدخل الروسي. وفيما يتعلق بسورية، فإن القاعدة الجوية الروسية في حميميم والقاعدة البحرية في طرطوس ستبقى. وقد أوصل الرئيس بوتين بالفعل رسالة واضحة في تصريحاته: بعد ربع قرن على تفكك الاتحاد السوفياتي، لا تزال موسكو قادرة ليس فقط على استخدام القوة على بعد آلاف الأميال من حدودها، ولكنها أيضا قادرة على مواجهة اعتراضات واشنطن.
التدخل في سورية كان وسيلة لتنفيذ الهدفين على حد سواء. والانسحاب بعد ذلك، كان منطقيا بمجرد أن ثبت أن تدخل الرئيس بوتين لم يكن يتعلق بجماعة "داعش" أو الإرهاب أو حتى مساعدة الرئيس الأسد.
لم يكن في مصلحة روسيا أن تكون العملية في الشرق الأوسط طويلة الأمد. اقتصاديا، الأمور ليست على ما يرام بالنسبة لروسيا. والاستراتيجيون الروس ما زالوا ينظرون إلى أوكرانيا بمنظار السياسة الخارجية العسكرية.
وعلى الرغم من دعم الرئيس بوتين للرئيس الأسد والدعم الروسي لنظام الأسد الذي لا يتزعزع، فإن الهدف الحقيقي لهذا الدعم، يتعلق بالمبدأ أكثر من تعلقه بشخصية الرئيس السوري.
هناك دلائل تشير إلى أن الرئيس الأسد أصبح شديد الثقة بنفسه، ما أسفر عن تجاهله لانزعاجات موسكو. الأمر الذي نشبت عنه بعض التوترات  والأسد كما يبدو كان مسؤولا عن هذه التوترات.
وفي حين يجري سحب المعدات والقوى الروسية العاملة في سورية، موسكو تحافظ على قاعدتين لها في سورية، ويمكنها من الناحية النظرية المسارعة في أي لحظة لمساعدة حليفتها دمشق. وهذه القواعد على النحو التالي: القاعدة البحرية في طرطوس، وقاعدة حمينيم الجوية في اللاذقية، والتي تحوي 600 عنصر من مشاة البحرية الذين يوفرون الأمن للقاعدة.
وهذا يعني بالطبع أن روسيا تحافظ على وجودها العسكري في سورية، كما تحافظ على بطاريات صواريخ  إس-400، وعلى القوات الجوية في قاعدة حمينيم باللاذقية، وكما ذكر أعلاه، تحافظ على قاعدة التموين البحرية في طرطوس، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على المستشارين العسكريين للرئيس الأسد. روسيا حقيقة لا تنسحب من سورية، بل تقلل من وجودها العسكري هناك.
ومع ذلك، فإن الانسحاب الجزئي، يعد رسالة واضحة للرئيس الأسد، الذي أغضب البعض في موسكو. على ما يبدو، الرئيس الأسد توقف عن الاستماع إلى موسكو. هذا الانسحاب هو إشارة للنظام بأنه لا يستطيع أن يواصل فعل ذلك.
ومع التكلفة المحدودة للتدخل في سوريا استفاد بوتين كثيرا وزاد شعبيته.  إذ أظهر للمواطن الروسي، أنه كان فعالا وقويا، ما وضعه على قدم المساواة مع الولايات المتحدة بشأن القضية السورية.
على هذا النحو، يمكننا القول إن روسيا تمكنت في الواقع من تحقيق أهدافها الرئيسية في سورية. موسكو تحارب من أجل الخروج من العزلة الدولية، من أجل العودة إلى ساحة التواصل العالمي، وإعادة مقعدها على طاولة اللاعبين الكبار، اذا صح التعبير.
الآن روسيا تمكنت من اثبات امتلاكها للنفوذ الحقيقي، من خلال إظهار أنها قادرة على تحفيز أو عدم تحفيز الرئيس الأسد، بالسبل التي لا يمتلكها  الغرب. الأمر الذي يمكن أن يحدد لهجة معينة لمحادثات السلام الجارية حاليا في جنيف بسويسرا.
وقد صرح الكرملين بأن الرئيس بوتين والرئيس اوباما أجريا محادثات بناءة وصريحة، أكدا فيها على ضرورة تكثيف العملية السياسية لتسوية الصراع السوري. وهذا التصريح من قبل البيت الأبيض هو بالتأكيد فوز بالنسبة لروسيا. تكثيف العملية السياسية سيحفز الحكومة السورية على التفاوض من أجل إنهاء الصراع الدموي المستمر منذ خمس سنوات حيث قتل 470 ألف شخص وجرح 1.6 مليون شخص، والذي أسفر عن تحول نصف سكان سورية الـ23 مليونا إلى لاجئين أو نازحين.
من جانبها، حاولت وسائل الاعلام الرسمية السورية التقليل من أهمية انسحاب روسيا. وأكد التلفزيون الرسمي أنه تم اتخاذ هذا القرار بالتنسيق مع الحكومة السورية، على الرغم من أن الكرملين صرح في وقت سابق بانه لم يتشاور مع الشركاء السوريين في اتخاذ هذه الخطوة.
وقال حلفاء آخرون لحكومة الرئيس الأسد، أنهم فوجئوا بالإعلان الروسي. ممثل "حزب الله" اللبناني، المدعوم من ايران، والذي ارسل مقاتلين الى سورية لمساعدة الرئيس بشار الأسد، وصف الانسحاب المفاجئ بأنه صدمة.
وقال المسؤول "علينا أن ننتظر وسنرى النوايا الحقيقية للروس، في النهاية هناك تخوف من أن حزب الله سيدفع الثمن".
كما بدا معارضو حكومة الرئيس الأسد حريصين على الاستفادة من الانقلاب. وقال قائد "جبهة النصرة"، الجماعة التابعة لتنظيم القاعدة في سورية لوكالة أنباء "فرانس برس"، أن المجموعة تستعد لهجوم "في الساعات الـ48 المقبلة".
وعلى كل حال، فإن تدخل روسيا في سورية، كان نصرا سياسيا وعسكريا على حد سواء للدبلوماسية الروسية، كذلك للقوات المسلحة الروسية. ومن خلال الانسحاب من سورية في هذا الوقت الحساس، روسيا لا تعرض فحسب حسن نيتها، بل تؤكد وضع كل ثقلها وراء المفاوضات الجارية في جنيف.
على عكس واشنطن، روسيا تحرص على أن لا تصبح عالقة في مستنقع الشرق الأوسط دون نهاية. هذا هو بالضبط ما تريده واشنطن، وليس فقط في الشرق الأوسط ولكن أيضا في أوكرانيا. واشنطن تريد استنزاف الموارد الروسية، بشكل يشبه إلى حد كبير ما فعلته واشنطن مع نفسها ومع مواردها -سواء المادية أو البشرية- في صراع الهيمنة في أفغانستان والعراق وغيرها خلال السنوات الـ15 الماضية. وعلى عكس واشنطن، روسيا دائما لديها استراتيجيات خروج واضحة وسريعة، إحداها ما أصبحنا جميعا شهود عليه في سورية.

ألكسندر آزادغان