كيري والأسد... المرة الثالثة
لم يأت كلام كيري من عدم. ولا كان معزولاً في الراهن، أو غير مسبوق في تجارب الولايات المتحدة مع
منطقتنا، ومع لبنان وسوريا في شكل أخص. فالذين سمعوا كلام ناظر الخارجية الأميركية الأخير، لم ينصتوا
إلى مفرداته الحالية، بقدر ما تراءت لهم تجارب ماضية وسوابق شاهدة. أقله في العقود الثلاثة الماضية، هي
المرة الثالثة التي تلعب واشنطن مع المفترضين ــــ أو الواهمين أنفسهم ــــ بأنهم حلفاؤها، اللعبة نفسها.
سنة 1982، جاءت بـ "مارينزها" إلى بيروت للمرة الثانية، ومعها راية ثلاثية فرنسية وريش عسكري
طلياني. جاءت وعينها على مشروع ريغان للشرق الأوسط. في لحظة خيّل إليها أن موسكو في حالة إرباك بين
أفغانستان ومرض بريجنيف. جاءت بعدما سبقتها مفارز شارون السبّاقة، متدحرجة من الليطاني حتى صبرا
وشاتيلا. جاءت مع نيوجرسي، ومع قرار رقمه 520، ومع طبل وزمر. بعد أشهر تبدلت الظروف أو
الأولويات والمصالح. فتركت «ناسها» في وسط بئر 17 أيار، ورحلت. سحبت حبالها تدريجياً، بالتصريح
الذي يليه توضيح ثم تصحيح... حتى بقّها شولتز بفظاظة الكاوبوي الأبيض جداً: إنها بلاد كالبرص، أفضل ما
يمكن فعله هو الابتعاد عنها!
غابت واشنطن عنا عقدين وسنة أو سنتين، قبل أن تقرر العودة بين العامين 2004 و2005. مرة ثانية عادت
بالمواكب المجلجلة نفسها: قمة نورماندي مع خليفة نابوليون، قرار آخر رقمه 1559، مفارز سباقة متطورة،
من نوع مؤسسات صربية لتصنيع الثورات الملونة وتصديرها معلبة جاهزة، ومصادفات اغتيالات بالجملة.
ومرة ثانية صدّقها ناسها. وهي لم تبخل في تصديق التصديق. دمغته بنحو نصف مليار دولار أميركي، كما قال
جفري فلتمان أمام الكونغرس. بكرم فائق أغدقت مقابل الحلم الوهم. يروي أحد الوزراء اللبنانيين الحاليين أن
كونغرسمان أميركياً من أعضاء اللجنة التي استمعت إلى فلتمان يومها، أكد لوزيرنا أن مؤسسة لبنانية واحدة
نالت من النصف مليار خمسين مليوناً. صدق الجميع. حتى أهل واشنطن صدقوا أنفسهم. راحوا يبلورون
شعارات لخطابهم. بدأوا برفع «يافطة» تغيير نظام الأسد. علا الصفيق لبنانياً. بعدها أنزلوا «يافطة» ليرفعوا
أخرى: تغيير أشخاص نظام الأسد. خفت الصفيق آذارياً، لكنه استمر. فجأة رفعت ثالثة: تغيير سلوك نظام
الأسد. وجم الجميع، قبل أن يكتشفوا أن هدف واشنطن في بيروت، إنما هو بغداد. تمت الصفقة هناك، فتغير
جاك شيراك وجورج بوش، واستمر الأسد في نظامه، وبأشخاصه وسلوكه.
المرة الثالثة هي اليوم. اليوم المستمر منذ نحو 1500 يوم، منذ ذاك الآذار من العام 2011. قالت واشنطن
لناسها إن لا أسد بعد اليوم. حتى أنها دفعتهم إلى تسمية «رئيس» بدلاً منه. أعطوه كرسياً في جامعة منسية
بائسة. وراحوا يبدّلون وجهه واسمه، حتى غابت الوجوه وتماهت الأسماء مع أبطال المسلسلات الشامية. وظل
البعض مصدقاً. حتى قالها كيري. بعده صدرت توضيحات، وستصدر بعد تصحيحات. وسيهرق كلام كثير،
أكثر من الدم أو أقل. قبل أن يكتشف الناس أن أميركا صارت في الصين!
أكثر من ذلك، لم يكن كلام كيري نغمة شواذ في الأوركسترا الأميركية. لا بل بدا وكأنه تتويج لحركة
«كريشيندو» فيلهارمونية. في 12 شباط جاء دي ميستورا إلى دمشق. لم يكد يقلع من بيروتها، حتى أعلن أن
الأسد جزء من الحل. بعده بأسبوعين جاء وفد فرنسي. من باريس اللاعبة دور الصقر في وجه الأسد. وجاء
معهم صديق لسيد الإليزيه وصوت البيت الأبيض. وعلى عكس كل الكلام المعلن، بلى التقى المسؤول الفرنسي
مسؤولين سوريين، وفي قصر المهاجرين بالذات. وعاد إلى عاصمته ليعلن أن الأسد جزء من الحل. بعد
الاثنين تكلم جون كيري، فصارت الصدمة مكتملة.
مع أن الصدمة كانت متوقعة، مفهومة ومنطقية. ثمة غول وحيد في منطقتنا، في نظر واشنطن والغرب اليوم،
اسمه «داعش». وثمة مشهد واضح لجهة اصطفافات المنطقة حيال هذا الغول. كلام الحرب عليه كثير كثيف
جامع. لكن الحرب الفعلية ضده محصورة ومعروفة. من يحارب «داعش» على أرض المنطقة اليوم؟ محور
وحيد، يبدأ بإيران في العراق، ويتواصل مع بشار الأسد في سوريا، ليصل إلى حزب الله في لبنان. الباقي كلام.
لا بل أكثر. الباقي بين عاجز ومتواطئ أو متحّول غصباً أو عفواً بيئة بين الاحتضان والتسهيل. فيما الغول
يتمدّد صوب الغرب، لا بل يستورد الغرب إلى منطقتنا عبر مجاهديه، قبل أن يصدّرهم إليه مجدداً إرهابيين.
قبل يومين، جاء المسؤول الأميركي الأول عن مكافحة تمويل الإرهاب إلى بيروت. جاء حاملاً «يافطة»
واحدة هذه المرة: إحذروا تمويل «داعش». سأله مسؤول حكومي عندنا عن محطات رحلته التي قادته إلينا.
فأجاب بابتسامة أنه آت من الخليج، من ثلاث عواصم خليجية حليفة لبلاده. هي العواصم نفسها التي سماها قبل
مدة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم بقّ بحصة أميركا حول الإرهاب وتمويله.
لكل تلك الأسباب، أثار جون كيري ذعراً وهستيريا مفهومين، خصوصاً في غياب الفهم لإدارة كيري
وسياساتها والمصالح.