الرياضة أم الدين؟
الرياضة لها أصول ما قبل المسيحية و بالثقافة اليونانية القديمة ترتبط. فإلى جانب المسرح والفلسفة وأنظمة الحكم في البوليس(= دولة المدينة اليونانية)، كانت الرياضة، و منها الألعاب الأولمبية، إحدى السمات المميزة للحضارة اليونانية. ضمن هذه الثقافة، شهدت الرياضة أكبر تطور لها واتخذت الشكل الذي نعرفه اليوم.
استند التفسير اليوناني للرياضة إلى فكرة اللعبة. وبالتالي، كانت المسابقات تسمى ألعابا. كما أن العروض المسرحية كانت تسمى أيضا ألعابا، حيث تنافس الشعراء- مبدعو المآسي والكوميديا- كما هو الحال في الرياضة، مع بعضهم البعض. مفهوم اللعبة يرتبط ارتباطا وثيقا بأسس الثقافة ذاتها، كما يوضح يوهان هويزينجا/ Johan Huizinga في كتابه الشهير (Homo Ludens (Man the Player (الرجل اللاعب).
النقطة الأساسية هنا هي رسم خط فاصل بين الانخراط الجاد في التفكير في الصراع أو المنافسة، وكذلك نسيج العمل الدرامي (في حالة المسرح)، والطبيعة المشروطة لمثل هذه المعارضة. فالرياضة والمسرح، وكذلك الألعاب بشكل عام، تعني مسافة معينة. كما أن الرياضة والمسرح، وكذلك الألعاب بشكل عام ، تتطلب إحساسا بالمسافة أو الفصل.
تتطلب الرياضة والمسرح، وكذلك الألعاب بشكل عام، إحساسا بالمسافة أو الفصل. هذا هو السبب في أن آريس/ Ares؛ إله الحرب، لم يكن من بين الآلهة اليونانية التي كانت للألعاب الأولمبية راعية. جوهر اللعبة هو أنها معركة؛ ليست معركة حقيقية ولكنها معركة مشروطة لا تعبر خطا حرجا. و كما يصور المسرح الحركة فقط، فإن الرياضة تحاكي القتال الحقيقي فقط. و من إدراك هذه الحدود؛ تتولد الثقافة. و عندما يتشرب المجتمع هذا، فإنه يكتسب القدرة على التمييز الدقيق في عالم العواطف والمشاعر والتجارب الأخلاقية.
يأتي الاستمتاع بالرياضة والمسرح على وجه التحديد لأنه على الرغم من دراما الأحداث، يحافظ المراقب (المتفرج) على مسافة مما يحدث. هذه المسافة تشكل مواطنا كاملا، قادرا على التمييز الصارم بين خطورة الحرب وشروط أنواع المنافسة الأخرى. لذا، فخلال الألعاب الأولمبية، ستعلن دول المدن اليونانية المتحاربة في كثير من الأحيان هدنة (ἐκεχειρία). و إبان هذه الألعاب، أدرك الإغريق وحدتهم بما يتجاوز التناقضات السياسية بين البوليس الفردي/ individual poleis. وهكذا، تم توحيد التنوع في الرياضة من خلال الاعتراف بشرعية المسافة.
في العصر المسيحي، المسابقات الرياضية في العالم الهلنستي تراجعت تدريجيا؛ لأن المسيحية قدمت نموذجا مختلفا تماما للثقافة وتوحيد الناس. هنا، كان كل شيء جادا، و غدت الكنيسة المسكونية أعلى سلطة، حيث توحد فيها الناس والأمم. وجلبت السلام وأقصى مسافة ممكنة؛ المسافة بين الأرض والسماء والإنسانية والرب. و في مواجهة المهمة الكونية للمخلص، تقهقرت الاختلافات بين الشعوب ("اليهود واليونانيين") إلى الخلف. ربما هذا هو السبب في أن الرياضة (وكذلك المسرح) فقدت أهميتها.
في ظل ظروف جديدة تماما؛ بدأ إحياء الرياضة في القرن 19م. و من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في حين أن المسرح كجزء من الثقافة القديمة ظهر مرة أخرى في بداية عصر النهضة، فقد استغرق الأمر عدة قرون أخرى لإحياء الألعاب الأولمبية. من المحتمل أن يكون هذا قد أعاقته بعض الجوانب الجمالية للرياضة، والتي تتناقض بشكل حاد مع الأفكار المسيحية حول ما يشكل السلوك السليم.
من المهم أنه في ألمانيا، كان مؤسس الحركة الرياضية هو الوثني القوي والقومي المتطرف فريدريش لودفيج جان (1778-1852)/ Friedrich Ludwig Jahn ، الذي رأى في حركة الرياضة والجمباز كأساس لنشر أفكار توحيد ألمانيا بين الشباب، وتشكيل أساس الإيديولوجية الرياضية. كان جان مدافعا شرسا عن العصور القديمة الألمانية؛ حيث دعا إلى إحياء الأحرف الرونية. في القرن 20 م، استمرت أفكار جان في التطور في سياق رابطة الشعوب الجرمانية/ Pan-Germanism وحركة الشباب واندرفوجل/ Wandervogel، مما أثر بشكل كبير على الاشتراكية القومية.
بيير دي كوبرتان/ Pierre de Coubertin، الذي أعاد إحياء الحركة الأولمبية، كان أيضا قوميا (و إلى حد ما عنصريا). و تورط اليونانيين، الذين كانوا آنذاك في حالة صراع وطني مع الإمبراطورية العثمانية؛كان جزءا من الإستراتيجية الشاملة للقوى الأوروبية في تغيير ميزان القوى الجيوسياسي. في الوقت عينه، أظهرت الماسونية الأوروبية، على الرغم من كونها ملحدة بشكل أساسي، ولكنها ليست غريبة على بعض الجماليات "الوثنية"، اهتماما كبيرا بهذا.
بشكل عام، اتضح أن الرياضة، التي كانت في البداية ظاهرة ثقافية غير مسيحية، اختفت خلال العصور الوسطى المسيحية وعادت إلى أوروبا في سياق ما بعد المسيحية وحتى جزئيا ضد المسيحية.
ذا يثير السؤال بحدة: هل الرياضة متوافقة مع المسيحية على الإطلاق? هل من الممكن الجمع بين المشاعر، و جماليات، وقواعد اللعبة التي أيقظتها الرياضة مع نظرة مسيحية للعالم?
بالتأكيد، هذا السؤال هو حالة خاصة لمشكلة أكثر جوهرية: هل المسيحية عموما متوافقة مع العالم الحديث، الذي بني على أسس نزع القداسة، المادية، التطورية، العلمانية، الإلحاد?
واضح أنه من المستحيل الإجابة على هذا السؤال بشكل نهائي، ولكن من المناسب تماما طرحه على الأقل لبدء دورة من المناقشات الهادفة. و بالمجمل؛ مثل هذه المناقشات يمكن أن تساعدنا في فهم ماهية الرياضة في الظروف الجديدة، والأهم من ذلك، ما هي المسيحية. [1]
رابط المصدر: