من القاهرة هنا اليمن - قراءة في التاريخ اليمني (1- 2)

22.12.2019

اليمن الحزين الآن والحرب التي تجري على أرضه، وتصاعد دعوات الإنفصال بين شمال اليمن وجنوبه، والتعقيدات القبلية على الأرض اليمنية. تدفعنا لإعادة قراءة تاريخ هذا الوطن والبحث في العوامل السياسية والاقتصادية التي انشأت الطبيعة الاجتماعية الخاصة لهذا البلد. لنحاول تفسير ما يجري من اقتتال الآن ولنعرف أنه ليس وليد الصدفة أو قرار بإعلان الحرب، إنما تراكم لأحداث سياسية تمتد جذورها خارج اليمن لتمر بعواصم عربية عدة أبرزها القاهرة والرياض بجانب دول الاستعمار.

فاليمن عبر تاريخه مر بأحداث سياسية متلاحقة أدت إلى تغييرات متسارعة في بنية المجتمع، حيث شهدت البلاد إنقلابين مسلحين غير ناجحين، عرفا الأول بحركة 1948 والثاني بإنقلاب الثلايا 1955، وظلت المتغيرات الإقتصادية والسياسية في تراكم حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 ، مطيحة بنظام الأمام "البدر" الذي لم يحكم سوا أسبوع خلفًا لأبيه الأمام "أحمد بن يحيى المتوفي في يوم 19 سبتمبر 1962.

ونجحت قوى الثورة المضادة في إنقلاب 5 نوفمبر 1967 بالإطاحة بالرئيس عبدالله السلال وشكل هذا الانقلاب أحد عوامل إنتكاسة لليمن، بجانب الانقلاب الذي قام به المقدم ابراهيم الأحمدي في 13 يونيه 1974 والسيطرة على مقاليد الحكم إلا انه اغتيل في 1977 ، وتولى السلطة من بعده المقدم أحمد الغشمي وقتل أيضًا في انفجار حقيبة ملغومة، ليتولى بعدهم الرئيس على عبدالله صالح الذي أغتيل مؤخرًا على يد قوات الحوثي في الصراع الدائر الآن في اليمن. بالإضافة إلى تصفية العديد من الكوادر الفكرية والسياسية في أحداث دامية شهدتها عدن عام 1986 بتدبير من الرئيس اليمني وقتها ناصر محمد. وصولًا إلى الحرب الأهلية اليمنية عام 1994 والتي قضت على مشروع اليمن التقدمي تمامًا وأنهت على قوى التغيير فيه.

الطريق إلى ثورة 1962

بعد إنشاء قناة السويس عام 1869، ظهرت أهمية إستثنائية لمضيق باب المندب والذي صار يستحوذ على 7% من الملاحة العالمية، و13% من إنتاج النفط العالمي، والذي يملك اليمن أفضلية التحكم فيه عبر جزيرة "بريم" مما جعلها عرضة للإستعمار من ثلاث دول هم البرتغال وفرنسا وانجلترا. ومنذ هذه اللحظة شهد اليمن تغير وإنفتاح على العالم وتحديدًا في محافظة عدن بالجنوب ، والتي لعبت دورًا في تحديث اليمن وخلق مناخ مغاير غير قبلي أتسم بالحضارية، فنشأت الغرفة التجارية في عدن عام 1886 كدليل على الازدهار والتنظيم الإقتصادي.

 وهذا الازدهار الإقتصادي أنعكس على الناحية السياسية حيث صارت عدن عاصمة للتغيير ليس في اليمن الجنوبي بل في اليمن ككل، فعبر الطبقة الجديدة من التجار تم تمويل الأفكار الإصلاحية والثورية والدفع بعملية تحرر اليمن من رجعية نظام الأمام في الشمال. وعلى أثر هذه المتغيرات نشأت حركات إصلاحية مثل "الأحرار الدستوريين" والذين طالبوا بالإصلاح الاقتصادي والمزيد من الحرية في ظل النظام الأمامي.

ومنذ العام 1944 بدأت حركة الاصلاح بالدعوة إلى تغييرات جزرية في نظام الامامة المطلق وتحويله إلى امامة دستورية، مع التخفيف من الضرائب والمظالم والعمل بنظام الشورى. وفي العام 1947 تداخلت مع دعاوى الاصلاح، قوى أخرى أبرزها "الأخوان المسلمين" فقدت أرسلت الجماعة في مصر مندوبها إلى الأراضي اليمنية "فضيل الورتلاني" كمندوب تجري لشركة محمد سالم وهو زوج الشخصية الإخوانية الشهيرة "زينب الغزالي" وبدأ الورتلاني بالإنضمام لحركة الاحرار والتنسيق مع بيوت قبائلية أخرى للإطاحة بحكم الامامة المتوكلية عبر انقلاب 1948 وقتل الامام يحيى وإنشاء دولة على الشريعة الاسلامية حسب مفهوم الجماعة، ولعل هذا ما أفشل الانقلاب بسبب أختلاف أعضاء حركة الاحرار الاصلاحية على رأسهم "أحمد محمد نعمان" على مسألة قتل الأمام وتوزيع الحقائب الوزارية والمناصب في حال نجاح الإنقلاب مع القوى الطامعة في الحكم من الأخوان وأسرة الوزير التي تكن العداء لأسرة حميد الدين التي تتولى الامامة، خصوصًا لما أدركه النعمان أن البديل للأمام سيقوم بنفس الممارسات من استبداد وترهيب للشعب اليمني.

 كما نشأ الحزب الماركسي تحت قيادة عبدالله باذيب والعديد من القيادات السياسية في عدن وحضرموت  1961 مطالبين بالجمهورية والإطاحة بنظام الامام وحمل الحزب أسم "الاتحاد الشعبي الديمقراطي".

وخلال هذه الحقبة الزمنية نمت الأفكار "الثورية والشيوعية" متمثلة في الأعضاء اليمنيين الذين تدربوا في "الحركة الديمقراطية لتحرر الوطني" - حدتو-  بالقاهرة، والتي مثلت ملاذ أمن للمعارضين اليمنيين لنظام الأمام في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وشكل اليمنيين المقيمين في القاهرة سواء للتعليم أو اللجوء السياسي قوة أساسية للتغيير السياسي في اليمن عبر تأسيس "المؤتمر الدائم للطلاب اليمنيين ولجنته التنفيذية عام 1956" وكان لهذا التجمع السياسي إرتباطه الوثيق بالقوى الثورية داخل الأرض اليمنية - وتحديدًا في عدن- بالرغم من تواجده في القاهرة.

ورحب عبدالله باذيب من عدن بأفكار المؤتمر الدائم بالقاهرة واعتبرها تطورًا جوهريًا في الحركة الوطنية، خصوصًا ان المؤتمر قد ضم ثلاثة من أهم مؤلفي الشعر الغنائي اليمني وهم سعيد الشيباني ، عبده عثمان محمد ، وإبراهيم صادق الذي يعرف برائد تجديد الشعر اليمني، بالاضافة إلى محمد أحمد عبدالولي رائد الرواية اليمنية، وجميعهم من أصحاب الأفكار الماركسية، والتي ستلعب دور في إنشاء العديد من مؤسسات اليمن الحديثة.

 كما كان لظهور الصحافة  في عدن على يد محمد علي لقمان في يناير 1940 الذي أنشأ جريدة أسبوعية تحت اسم "فتاة الجزيرة"، بجانب جريدة "صوت اليمن" التي أصدرها قائد حركة الإصلاح "أحمد محمد نعمان" بالإشتراك مع القاضي الشرعي "محمد محمود الزبيري"، دورًا محوريًا هامًا في  نشر قرارات ودعاوات المؤتمر الدائم من القاهرة حول ضرورة التحرر من الاستعمار في الجنوب والاستبداد في الشمال، وتكوين حكومة وحدة وطنية لشقي اليمن، فقد شارك ممثل اليمن الجنوبي شيخان الحبشي في أحد إحتفالات ثورة 23 يوليو في مصر، وأثناء حديثه قام الشاب أبوبكر السقاف أحد قيادات الحركة الطلابية اليمنية في القاهرة بالهتاف والدعوة ليمن موحد، وشكلت هذه الدعوة أول دعوة لتوحيد اليمن في العصر الحديث.

كما لعبت إذاعة "صوت العرب" التي تُبث من القاهرة دورًا هامًا في إذاعة البيانات الثورية اليمنية ففي العام 1962 بثت الإذاعة بيانًا موقعًا من كبار حركة الإصلاح وعلى رأسهم القاضي الشرعي محمد محمود الزبيري، مطالبين بالتخلص من الحكم الفردي المطلق في اليمن وإقامة حكم شعبي. كما سمحت الإذاعة ببث برنامج لقائد حركة الإصلاح "أحمد محمد نعمان" من أجل تنظيم صفوف المعارضة وتعريف الشعب اليمني بمطالب الإصلاح.

أستمر سقف مطالب الإصلاح بالإرتفاع مدعومًا من الأفكار الماركسية الثورية للحركة الطلابية اليمنية، وتم صدور دستور في القاهرة بأسم "مطالب الشعب" جاءت أبرز مطالبه :

- المحافظة على استقلال ووحدة اليمن.
- إلغاء الاحتكار.
- الإفراج عن المعتقلين السياسين.
- تحريم قطع الرؤوس.
- تنظيم الضرائب.
- تنظيم الجيش.
- اقامة مجالس اقليمية وبلدية وقروية لتمارس لتقوم بالشؤون المحلية هلى اساس لامركزية الحكم.

على العمل بهذا الدستور كوثيقة لتكوين حكومة إنتقالية تأخذ صلاحيات الأمام مع بقاءه يملك ولا يحكم. ولكن رفض الأمام بن يحيى أي مقترح للإصلاح حتى توفى.

ولم يمر على تولي الأمام البدر الحكم بأسبوع، تم تكوين مجلس لقيادة الثورة برئاسة العقيد عبدالله السلال وعلى الطريقة الناصرية - قاد السلال تنظيم من الجيش عُرف أيضًا بالضباط الأحرار- في مصر قامت ثورة 1962، وأعلنت الجمهورية العربية اليمنية، وأنهت على حكم الامامة الزيدية لليمن والذي استمر لمدة عشر قرون ونصف، وتولى عبدالله السلال الرئاسة بعد ترقيته إلى رتبة مشير.

الثورة المضادة

عقب نجاح الثورة اليمنية 1962 بدأ رجال الأمام بن يحيى والقبائل التي رفضت الحكم المركزي للنظام الجمهوري الناشئ، متحالفين مع الرياض التي دعمت قتل الحراك الثوري في اليمن حتى لا ينتقل للداخل السعودي خصوصًا ان الطبيعة القبلية للشمال اليمني تشبه التكوين القبلي داخل الأرض السعودية مما كان سيكشل خطر على طبيعة الحكم في السعودية في وقت كان الشرق الأوسط في حالة من الثورة.

ولهذا رحب الرئيس السلال بمساعدة مصر والنظام الناصري وقتها للثورة، وأعتبر سلال أن عودة النظام الأمامي بسماعدة قوة الاستعمار والرجعية السعودية ، سيهلك الشعب اليمني ويطيح بأحلام التحرر والاستقلال. ولكن لم يساعد أحمد النعمان ومحمد الزبيري والقاضي عبدالرحمن الارياني، الفكر الثوري بل ارتدوا وفضلوا الصلح مع رجال النظام الأمامي والسعودية.

وصمد الرئيس عبدالله السلال أمام محاولات الرجعية والتي أتخذت شكلها الأكثر عنفًا في حصار صنعاء لمدة سبعين يوم من سبتمبر 1967 ألى نوفمبر 1968، ولكن تمكنت قوى الثورة من كسر هذا الحصار تحت شعار "الجمهورية أو الموت"، كما رفض السلال الاقتراح المقدم من القمة العربية في الخرطوم للصلح مع الملكيين والاستعداد لقيام نموذج إسلامي للحكم في اليمن، كما رفض تسليح القبائل وإقامة جيش قبلي بناءًا على دعوة الزبيري الذي سيشتهر بمواقفه الرجعية ضد الثورة إلى أن يتم إغتياله.

والجدير بالذكر أنه تم اغتيال الزبيري أثناء إقامته بجولات بين القبائل مع الحليف الجديد المتمثل في الاخوان المسلمين من أجل إنشاء ما يسمى بحزب الله، لإحلال الصلح بين الاماميين ورجال الجمهورية، وقد شهد على واقعة إغتياله الأخواني عبد المجيد الزنداني والذي سيصبح فيما بعد زعيم للتيار الاسلام الاصولي والذي سيعرف بأسم "حزب التيار اليمني للإصلاح".

كما أن أبرز ما دفع القبائل لمعارضة السلال كان موافقته لمشاركة كل الفئات الشعبية في الحكم، حيث سمح للشافعية "السنة" والزيدية "الشيعة" للإشتراك في الحياة السياسية وهم من شكلوا قاعدة صلبة للثورة، ولقبتهم القوى الرجعية بابناء "سوق الملح" ، فشيوخ القبائل اليمنية كانوا يتعاملون كرؤساء وانداد لكل منهم الآخر ولا يمكنهم ان يخضعوا لسيطرة واراء الجماهير.

ولهذا دعمت القبائل انقلاب 5 نوفمبر 1967 اثناء تواجد السلال خارج البلاد في زيارة رسمية، وقام بهندسة هذا الانقلاب القاضي القاضي عبد الرحمن الارياني ، الذي قام بتسليح القبائل والقضاء على قادة الجيش النظامي، وإجراء تصفيات واسعة في صفوف الثورة ورجال الجمهورية، وعرفت اليمن منذ هذه اللحظة التزاوج بين القبيلة والسلطة.

واستفاد من هذا الانقلاب رجال المجلس الانقلابي بقيادة الارياني، وبعض رجال الجيش، والقبائل وتحديدًا قبيلة حاشد متمثلة في آل الأحمر، وهم أحد أضلع الصراع والحرب في اليمن في الوقت الحاضر. وعمد هذا النظام على تصفية قيادات الجيش الغير موالية لهم والقيادات الشعبية المقاومة، والقضاء على افكار الحرية والماركسية والمساواة بين اليمنيين بعيدًا عن المذهبية والقبلية والتي وصفوها بأنها افراد تخريبية.
وبقى الحال على ما هو عليه من الاقتتال بين الاماميين والجمهوريين حتى تمت مصالحة بينهم في العام 1970، برعاية سعودية بعد أن أنجز الإنقلاب الكثير من مهامه حيث دمر البنية الاساسية للدولة الجمهورية الناشئة، وأحل نموذج القبيلة بديل للمؤسسة الحديثة، وتم تدمير جيش اليمن الجنوبي، وتسريح وبقيته عقب الحرب الاهلية اليمنية عام 1994.  وتم توقيع وثيقة العهد والوفاق بين الفرقاء في اليمن -وقع على الوثيقة 34 طرف في النزاع اليمني- لإنهاء الحرب الأهلية برعاية اردنية تحت قيادة الملك حسين. ويستقر الحكم بين يدي على عبدالله صالح حتى يتم خلعه عن الحكم في ثورة 11 فبراير 2011 في موجة الربيع العربي التي شهدتها المنطقة.

خاتمة

ولعل هذه المتغيرات السياسية تفتح لنا آفق آخر لقراءة الوضع الاجتماعي المتغير في المدن اليمنية تحت وطأة كل هذا العنف والإنقلابات والمتغيرات القبلية والاقتصادية لليمن، ويرسم لنا معالم الطريق في اليمن وكيف تتحول كل احلام هذا البلد من التحرر إلى الحرب، حيث تمكنت الرجعية ودول الاستعمار القديم بزرع أساس قوي لها في الارض اليمنية التي لطالما عرفت الافكار التقدمية والإشتراكية وحاولت تنفيذها.