عن الاتحاد الديموقراطي الكردي
لفتت تجربة «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي ـ وما ارتبط به من «وحدات حماية الشعب» و«الإدارة الذاتية الديموقراطية ـ الانتباه، في خضمّ الثورة السورية، بتنظيمها، ومواجهتها للإرهاب، وابتعادها عمّا سيقت إليه تلك الثورة من أسلمةٍ غدا معها المفتون الشرعيون مصدر الرؤية والفعل. ويبدو أنَّ هذه التجربة، الماركسية والقومية في آن، راحت تنظّم مقاومة الاحتلال التركي الذي دخل جرابلس. ولعلّ هذا «المديح» الأوليّ أن يكون مناسبةً لقولٍ نقديّ صريح وحريص يتناول عدداً من الأسس.
«الاتحاد الديموقراطي» واحدٌ من أكثر الجهات السورية استخداماً لمفردة «المكوّنات». وهو يضع المكوّنات الطائفية والقومية على قدم المساواة حتى في تصريحات قائده صالح مسلم، من دون أن نعلم ما إذا كانت الدولةُ مرجعية هذه الجماعات أم العكس، ومن دون أن يُحْسَم إن كان يحقّ لكلٍّ من هذه المكوّنات إقامة كيانه المستقل أم أنّ المقصود هو إدارة ذاتية ديموقراطية واحدة تدير التنوع القائم. ذلك أنّ تصريحات بعض الأنصار لا تُخفي أنّ «لا حل في سوريا الا بكيان للسنّة وآخر للكرد وثالث للعلويين ورابع للمسيحيين وخامس للدروز... ويمكن من ثم أن تتفدرل هذه الكيانات»، في خلط شنيع للقومية الكردية مع مذاهب دينية والتعامل مع العرب كأنَّ لا قضية قومية لهم وليسوا أمّة كالكرد، بل مجرد طوائف.
ثمّة التباس، وربما اختلاف، بين فكرة «الدولة الديموقراطية» عند أوجلان، القائد التاريخي لهذا الخط، وهذه الفكرة ذاتها في أدبيات رفاقه وتصريحاتهم. واضحٌ لدى أوجلان أنّ عصر «الدولة القومية» ولّى ليحلّ عصر اتحاد الشعوب الديموقراطي، ما يمكن أن يُقرأ على أنّه كفٌّ عن المناداة بدولة قومية كردية، وخوض نضال مشترك مع القوى التقدمية الأخرى في كلِّ دولة يوجد فيها الكرد لإقامة دولة ديموقراطية تراعي لا حقوق المواطن الفردية فحسب، بل أيضاً حقوق مجموعات المجتمع المدني والجماعات والأثنيات المختلفة. أمّا في خطابات رفاقه وممارستهم فيبدو أنَّ المقصود هو بناء دولة قومية كردية تراعي حقوق أولئك الأفراد والجماعات.
تنبيهنا إلى الالتباس السابق ليس اعتراضاً على حقّ نسلّم به للكرد في «تقرير المصير». ولكن حتى هنا، ثمة لَبْس تثيره ممارسة «الاتحاد» وتصريحاته. ذلك أنَّ «تقرير المصير»، انفصالاً أو اتصالاً، إنّما يتمّ باستفتاء السكّان المقيمين في المنطقة المدّعاة حتى لو كانوا من قومية واحدة، وفي حال الاتحاد يكون السكّان في بقية البلد معنيين بشكل الاتحاد وحيثياته قبولاً أو رفضاً. ولا يُفْرَض في الحالين أيّ شيء بالاستيلاء والضمّ - كما بدا في محاولة إقامة الكوريدور بين كوباني وعفرين - ولو كان ذلك في سياق مكافحة الإرهاب.
يزيد هذا اللبْس لبساً مراهنة «الاتحاد» على أميركا في حلّ قضيته القومية الديموقراطية، وهي دولة تحول بنيتها وموقعها دون أن يُرتَجى منها أيّ خير في هذه المسائل، ولو أظهرت عكس ذلك. وهذا ما يُزْكي الوهم الخطير الذي سبق إليه معارضون عرب وسوريون: وهم استغلال المرء أميركا وتوظيفها لخدمته. وإذا ما كان الأميركيون أطالوا خداع معارضين سوريين أكثر من خمس سنوات، فإنّ أوهام «الاتحاد» وأنصاره المتحمّسين على وسائل التواصل لم تَدُمْ يومين قبل أن توافق أميركا على دخول الأتراك الأراضي السورية للحيلولة دون قيام كيان كردي.
يبقى مصير الكرد ذلك المصير المأساوي مع إجماع الأنظمة الإقليمية على رفض قيام كيان كردي مستقلّ. ويزداد مأساوية بالرهان على ضواري العالم. وحده الإطار المؤمِّل هو إطار الشعوب الديموقراطية مهما بدا بعيد الدرب.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"