خاسرون ورابحون في الحلبة البريطانية: أميركا وروسيا و"الناتو".. والخليج
الاستفتاء البريطاني مباراة نهائية بكل معنى الكلمة، محلية ودولية معاً. المشكلة أن لا مجال للتعادل: نعم أم لا أمام مفترق طرق. الحكومة البريطانية لم تتوقف عن تحذير مواطنيها، على أمل التأثير بهم، بأنه قرار لا رجعة فيه. بعض الأوروبيين لم يخفوا عتبهم كيف برأيهم لم يدرك البريطانيون جسامة اللحظة التاريخية. أميركا نزلت من المدرجات، وقالت نريدكم ألا تغادروا الاتحاد الأوروبي. لكن دولاً كثيرة تقف على طرفي الحلبة البريطانية، روسيا أولاهم، وفي الصفوف، السعودية ودول الخليج العربي. نتيجة الاستفتاء، خصوصاً في حال خروج بريطانيا، ستعيد رسم معالم السياسة الخارجية لأكبر تكتل سياسي واقتصادي في العالم.
كل تلك الحسابات الخارجية لا يبدو أنها تعني البريطانيين كثيراً وهم يتحضرون للذهاب غداً إلى صناديق الاقتراع، ليقولوا نعم أو لا للاتحاد الأوروبي. الاستطلاعات ماضية في وضع المعسكرين أمام منافسة محتدمة. صندوق «نعم أم لا» سيؤثر في مصير تكتل برمّته. ليس في هذا ما يدعو للتفاؤل داخل العائلة الأوروبية. بعض الدول لم تستطع كتم غيظها، وإن سرّبته بأقصى ديبلوماسية ممكنة.
لقطات الفيديو نقلت وجهاً متجهماً ومتأففاً حمله وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند لصالة الاجتماع مع نظرائه الأوروبيين يوم الاثنين. مشاهد صامتة كان يكفي وضع موسيقى حزينة مصاحبة لتصير أفلمة مأساوية. كان يمكن تخيّل بعض أجزاء الحوار المفقود، خصوصاً حين الاستماع لمن غادروا الصالة. مثلاً، وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرلوت قال بلا تحفّظ «لدي مخاوف من استجابة الشعب البريطاني»، قبل أن يضيف «من حقهم التصويت بحرية، لكن يقع على عاتقهم عبء كبير من المسؤولية. كُلّي أمل أنهم سيصوتون لمصلحة البقاء، وستكون مساهمة كبيرة منهم في هذه اللحظة التاريخية».
اللحظة التاريخية تعني أيضاً جميع المعنيين بالسياسة الخارجية الأوروبية. الخلاصة كانت حاضرة في دراسة مفصلة، أعدها باحثون في «مركز الإصلاح الأوروبي». لاحظت الدراسة أنه مع خروج بريطانيا «يصبح الاتحاد الأوروبي أقل نشاطاً على الساحة العالمية، فعلى الرغم من الخطاب المتشكك، فقد نظرت الحكومة البريطانية، من كلا الحزبين، للاتحاد الأوروبي كأداة مهمة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية»، لافتة إلى أن «احتمال استخدام الاتحاد لسياسة العقوبات كأداة للضغط على الدول، مثل روسيا، سيكون أقل إذا لم تكن بريطانيا موجودة للدفاع عنها» في غرفة صناعة السياسة الأوروبية المشتركة.
مع بعض التجاوز، يمكن قراءة تلك الفقرة بوضع أميركا بدل بريطانيا. الحلف الوثيق بين الجانبين أحد الأسباب الجوهرية التي دعت واشنطن للتدخل في الاستفتاء، مكررة أنها صديق مخلص يريد للبريطانيين الخير الأوروبي. معادلة التأثير تلك كانت واضحة منذ بدء عملية دخول بريطانيا إلى التكتّل. حينما أعدّت حكومتها في العام 1960 دراسة سرية حول الآفاق المستقبلية، أوصت بأن سعي بريطانيا للعضوية يجب ألا يضعها أبداً في موقع المفاضلة بين واشنطن وأوروبا.
ربما لن تحتفل موسكو لدواعي اللباقات الديبلوماسية، لكنها ستكون لحظة شماتة وزهو كبيرة لها إذا خرجت بريطانيا، الدولة التي تضع كلّ ثقلها لمواصلة العقوبات الاقتصادية الأوروبية على روسيا. تلك العقوبات المؤلمة والمؤثرة جاءت بداية كرد فعل على الصراع في أوكرانيا، لكنّ الإجماع الأوروبي تصدّع مع تزايد الدول الداعية للمهادنة. عقوبات استولدت عقوبات مضادة، وهناك دول تخسر أكثر من غيرها. لندن تعترف بالانقسام الأوروبي، لكنها أصرّت على مواصلة تبني الموقف المتصلّب، ما جعلها الآن الدولة الأهم التي ترفض تخفيف العقوبات.
ليس غريباً أيضاً أن هذا الموقف بالذات يدعم أولويات واشنطن، فهي لم تخف سعيها لمحاصرة النفوذ الروسي في مجاله التقليدي. صحيح أن الصراع على خلفية الأزمة الأوكرانية جاء نتيجة مشروع الأوروبيين للتوسع شرقاً، تحت عنوان «اتفاقيات الشراكة»، لكن الولايات المتحدة لم تكن لحظة خارج اللعبة، أو بالأحرى هناك شكوك بأنها كانت خلف مقودها.
ظهر ذلك حينما بدأ الصراع يخرج عن نطاق السيطرة. مرة بعد شتائم مشينة للاتحاد الأوروبي، وردت في شريط صوتي لفكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأميركي، نطق بالمخفي بعض أكثر المتحفظين. وقتها قال هيرمان فان رومبوي، الرئيس السابق للمجلس الاوروبي، بعدما حصر في الزاوية إنه «كان من الأفضل لو بقي الأميركيون في بيوتهم». حتى لو بقي الأميركيون في بيوتهم، لكن لهم حاجة ليكونوا في الحرم السياسي للبيت الأوروبي ما دامت بريطانيا فيه.
على كل حال، أهمية التأثير في السياسة الأوروبية المشتركة هي إحدى حجج حكومة بريطانيا في حملتها للبقاء الأوروبي. على ذلك الأساس، كتب رئيس الحكومة ديفيد كاميرون يحذّر شعبه: «أول شيء سنفعله في حال الخروج هو تأسيس خلية ديبلوماسية للتأثير على دول الاتحاد قبل اجتماعاتها في بروكسل، ثم سنبقى بضعة أسابيع بعد ذلك ونحن نخمّن حول ما حدث في الاجتماعات وكيف سيؤثر ذلك علينا».
غازلاً على المنوال نفسه، في مقالات «احذر خطر الخروج» المتزايدة، كتب وزير الخارجية البريطاني السابق وليام هيغ: «لقد ربحنا معظم المعارك ليكون لدينا نوع آخر من العضوية الأوروبية، ربما علينا المحاربة أكثر، لكن الربح أسهل بكثير هنا، مقارنة مع معارك جديدة تتشكل في عقول الآخرين» في حال الخروج.
التحالفات كانت تختلف وفقاً للمعارك والمصالح. ما يصح مع روسيا، ليس بالضرورة أن يصح مع اللاعبين أنفسهم مع سوريا مثلاً. لولا وجود بريطانيا وفرنسا في جبهة واحدة، مصرّة وتضغط بكل قوتها، لما كان أمكن، على الأرجح، إسقاط حظر السلاح الأوروبي من أجل توريد الأسلحة للمعارضة السورية.
لن تكون السياسة الخارجية الأميركية هي الوحيدة الخاسرة، إذا واصلت غالبية البريطانيين عنادها لكل سيل التحذيرات. إذا كان من شيء يمكن التنويه به، مع كل التعقيدات، فهي هذه الشجاعة والجرأة في قول «لا» للعالم بأجمعه تقريباً. حلفاء لندن سيخسرون، والقائمة تشمل معسكر الحلفاء التاريخيين، على رأسهم السعودية ودول الخليج العربي. المخاطر لا تشمل فقط الاستثمارات الهائلة التي وضعوها في بريطانيا، مع توقعات بتراجع الجنيه الاسترليني وقيمة الأصول الاستثمارية. المسألة تمسّ أيضاً تراجع القدرة، المتراجعة أصلاً، على التأثير في القرارات الأوروبية، رغم أن فرنسا تقدّم نفسها وكيلاً للمصالح لمن يهمّه أمر عقد صفقات السلاح والاستثمار معها.
المحرك الأوروبي سيتأثر طبعاً، البرمجة كلها ستختلف، رغم أن الاتجاه الدقيق ليس واضحاً. ربما يلخص العنوان المعبّر، لدراسة «المركز الأوروبي للإصلاح»: «أوروبا بعد الخروج البريطاني: إطلاق العنان أم التراجع؟».
الأعين ستتجه لما سيفعله الأوروبيون تجاه السياسة الدفاعية، خصوصاً مع التجرؤ على طرح أفكار الجيش الأوروبي في برلين وبروكسل. المعاهدات الأوروبية تعطي مهمة الأمن الأوروبي لحلف «الأطلسي»، ويبدو أن هناك تململاً في بدايته. بريطانيا تعارض ذلك جملة وتفصيلاً، ومجرد ذكره كان يكهرب كاميرون.
تخلص الدراسة إلى أنه «من دون بريطانيا قد يكون هناك معارضة أقل لإنشاء سياسة دفاعية أوروبية، ومن دون بريطانيا بوصفها جسراً قد تصبح العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والناتو أكثر صعوبة». ربما من المفيد ذكر الضجة الأخيرة حول انتقادات نادرة وجهها وزير الخارجية الألماني لمناورات «الناتو» في الشرق، معتبراً أن استفزاز روسيا لن يجلب «لا الأمن ولا الردع».
عناوين الاعتراض السابقة، بمجملها، جعلت تفاوض كاميرون مع الأوروبيين يتمحور حول الوقوف ضد جعل الاتحاد السياسي قدراً للمشروع الأوروبي. يقول لمواطنيه إن بريطانيا مستثناة، وستعاند لجعل التركيز منصبًّا على «السوق المشتركة». الوضع سيتغيّر حكماً إذا زالت المكابح البريطانية، وإن ليس معروفاً بدقة السرعة التي سيسير بها المحرّك الأوروبي.
هواجس بريطانيا كانت حاضرة دوماً، ولها أساس عملي. بدأ الاتحاد ينضج مع تبني العملة الموحدة، ليكتشف الأوروبيون أنه لا يمكن إيجاد «بنك مركزي» من دون تحقيق اتحاد مصرفي ثم نقدي وصولاً إلى اقتصادي. ربما تتأخر خطوة على أخرى، لكن الواقع يقول إن الوجهة إلى مزيد من الاندماج تبدو حتمية، طبعاً إذا نجح الاتحاد بالخروج من مستنقع المدّ اليميني المتطرف.
بعد التسوية بين كاميرون والأوروبيين، حول وضع خاص لبريطانيا، سألت «السفير» رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز إن كان ذلك بداية النهاية لحلم الفدرالية الأوروبية. رغم الحساسية الآنية للقضية، لم يتردد في القول إن «الاتحاد باتجاه تقارب دائم يبقى الهدف بالنسبة للتكتل الأوروبي، بريطانيا طلبت ألا تكون قانونياً ملزمة بذلك، وهي الدولة الوحيدة التي طلبت ذلك».
جريدة "السفير"