إسرائيل تنتهج سياسات جديدة: آلاف المقدسيين مهدّدون بالتهجير المُمنهج

30.05.2016

ما زال الفلسطينيون بشكل عام، والمقدسيون منهم بشكل خاص، يعانون من النكبة في الذكرى الثامنة والستين لوقوعها. فاسرائيل لم تتوقف يوماً عن استحداث طرق جديدة لتهجير المقدسيين من ديارهم بهدف التحكم بنسبة الوجود الفلسطيني بالمقارنة مع الوجود اليهودي في القدس.

وتُعدّ سياسة سحب الإقامات من المقدسيين ومنعهم من حق السكن في القدس من أهم أساليب التهجير القسري المستخدمة في المدينة منذ احتلالها. وتستغل سلطة الاحتلال الهبّة الأخيرة في الأرض الفلسطينية المحتلة لإدخال تعديلٍ جديدٍ وخطير في سياستها المعهودة لناحية سحب الإقامة من السكان المقدسيين بهدف افراغ القدس الشرقية من الفلسطينيين. حيث سحبت وزارة الداخلية مؤخراً إقامات ثلاثة شبان متهمين بإلقاء حجارة على سيارة في القدس. ويأتي سحب هذه الإقامات بناءً على معيار جديد يُسمى «خرق الولاء». وبحسب هذا لمعيار، فإن المقدسي يجب أن يدين بالولاء لدولة إسرائيل، حتى يتمكن من الاستمرار بالسكن في القدس.

مفهوم «خرق الولاء» لدولة إسرائيل بات يُستَخدم كذريعة لإلغاء إقامة المقدسيين الفلسطينيين ومسوغًا لهدم منازل أسرهم. وفي حين أن الحكومة الإسرائيلية تصف هذه الإجراءات بـ «التدابير الاعتيادية» لإنفاذ القانون، إلا أن الواضح أنها جزءٌ من سياسة إسرائيل المستمرة في التهجير القسري، بهدف إحداث تغييرات ديموغرافية في المدى البعيد، والحفاظ على غالبيةٍ يهودية ساحقة في القدس. هذا المفهوم ما هو إلا استمرار لما دأبَ النظامُ القانوني الإسرائيلي والمؤسسةُ العسكرية منذ العام 1948 على اتباعه لتقليل عدد الفلسطينيين في المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، من خلال استخدام القوة المسلحة والقيود المفروضة على الأحوال المدنية للفلسطينيين، وعلى البناء ونزع الملكيات العقارية وغيرها من الإجراءات التعسفية الأخرى. لكن الخطوة الإسرائيلية الأخيرة بمثابة نقطةَ تحوّل في السياسة الاسرائيلية التهجيرية، والتي من المُرجَّح أن تُسفرَ عن ترحيل آلاف السكان.

"مركز الحياة"
سياسةُ سحب الإقامة التي تطبقها إسرائيل بلا هوادة ترتكز على الاعتقاد القائل بأن الفلسطينيين في القدس ليسوا إلا مهاجرين أجانب يمكن ترحيلهم بسهولة إلى خارجَ ما تعتبره إسرائيل سيادتَها الإقليمية. فبعدما احتلت إسرائيلُ القدسَ الشرقيةَ في حرب 1967 وضمتها بشكل غير قانوني، صنفت المقدسيين الفلسطينيين «كمقيمين» لا كمواطنيين اسرائيليين في إسرائيل، وبالتالي حجبت عنهم حق التصويت في البرلمان الإسرائيلي، وذلك لتجنب إضافة أعدادٍ كبيرة من غير اليهود إلى مواطنيها. ومنذ العام 1967 سحبت وزارة الداخلية، بموافقة المحكمة العليا الإسرائيلية، أكثر من 14000 إقامة في القدس، معظم تلك الاقامات الغي بعد ما سُمي «عملية السلام» التي انطلقت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

استغلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الأزمات العابرة تدريجياً لسحب اقامات المقدسيين. وثمة قضيتان بارزتان ساهمتا في وضع أُسس نظام إلغاء الإقامة المعمول به حاليًا. القضية الأولى هي قضية الناشط مبارك عوض، الذي انتقل إلى الولايات المتحدة في العام 1970 وتزوج مواطنةً أميركية هناك. كان عوض ناشطًا في الترويج لأساليب المقاومة السلمية قبل الانتفاضة الشعبية الأولى وأثناءها بين عامي 1987 و1991. وفي العام 1987، قدَّم طلبًا إلى وزارة الداخلية لتجديد بطاقة هويته المقدسية، ولكنه اكتشف أن إقامته الإسرائيلية أُلغيت بسبب إقامته في الولايات المتحدة وحصوله على الجنسية الأميركية. على أثر ذلك قدَّم عوض التماسًا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بيَّن فيه أن حقَّه في العيش في مسقط رأسه لا ينبغي أن يُلغى بسبب إقامته في الخارج. وقال إنه ينبغي منحُ المقدسيين الفلسطينيين إقامةً لا تبطل أو تُلغى لأنهم ببساطة ليسوا مهاجرين إلى إسرائيل. غير أن المحكمة العليا ردَّت حجته، وأيدت إلغاء إقامته، وقالت، في بيان يجافي المنطق، إن وجهات نظره السياسية ودعوته الى حل الدولة الواحدة والعصيان المدني كانت من الاعتبارات التي أخذتها وزارة الداخلية في الحسبان حين قررت سحب إقامته. وبرغم أن المحكمة لم تبنِ قرارها صراحةً على هذا الرأي، الا انها ارتكزت إليه كثيرًا في حكمها. وقد شكَّلت هذه القضيةُ سابقةً قضائية، حيث قررت المحكمة إمكانيةَ سحب إقامة اي مواطن مقدسي إذا لم تعد إسرائيل «مركز حياته». ولقد استُخدمت هذه السابقة القانونية في وقت لاحق لسحب إقامة آلاف المقدسيين.

وفي العام 1995، أصدرت المحكمة العليا حكمًا مفصليًا آخر ضد فتحية الشقاقي، زوجة فتحي الشقاقي مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي». واضطرت فتحية الشقاقي، وهي من مقيمي القدس، إلى الانتقال قسرًا مع زوجها المرحَّل إلى سوريا في العام 1988. وبعد ست سنوات عادت فتحية إلى القدس وحاولت أن تجدد هويتها وأن تسجِّل أطفالها الثلاثة، لكن وزارة الداخلية رفضت طلبها وأمرتها بمغادرة البلاد. وقبل هذا القرار، سحبت إسرائيل إقامة المقدسيين بموجب مرسوم مكتوب وضعته وزارة الداخلية في حال غاب المقيم لمدة سبع سنوات متتالية أو حصل على إقامة دائمة أو جنسية أجنبية. وبرغم أن أيًا من هذه الشروط لا ينطبق على فتحية الشقاقي، الا ان المحكمة العليا سحبت إقامتها على اعتبار أنها عاشت في الخارج مع زوجها ولم يعد «مركز حياتها» في إسرائيل.

يبدو أن هاتين القضيتين اختيرتا بعناية من قبل سلطة الاحتلال الاسرائيلي، حيث أن اغلبية المجتمع الإسرائيلي اليهودي لم يكن ليتعاطف مع أكاديمي يُحرّض على العصيان المدني أو مع زوجة أحد المجاهدين. ولكن بعدما أصبحت هاتان القضيتان سابقتين قضائيتين، بات المقدسيون الفلسطينيون كلُّهم مهددين، وخسر آلاف السكان الفلسطينيين القاطنين خارج حدود بلدية القدس في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو في الخارج إقاماتهم. وضحايا التهجير القسري الكُثر هؤلاء لم يشاركوا بالضرورة في أي نشاط سياسي، بل ارتكز قرار سحب إقامتهم إلى معيار «مركز الحياة» فقط.

«خرق الولاء»
استخدمت اسرائيل مفهوم «خرق الولاء» كذريعة اخرى لسحب اقامة المقدسيين. ففي العام 2006، أصدرت وزارة الداخلية الإسرائيلية قراراً بسحب إقامات ثلاثة أعضاء منتخبين في المجلس التشريعي الفلسطيني ووزير شؤون القدس الفلسطيني تحت ادعاء بأنهم قد «أخلّوا بالحد الأدنى المطلوب من الولاء لدولة إسرائيل» بسبب انتخابهم في المجلس التشريعي الفلسطيني، وبسبب انتسابهم لحركة «حماس». وقد استنكرت وقتها منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والفلسطينية اعتبار مفهوم «الولاء» معيارًا قانونيًا جديدًا لتحديد الحالة المدنية، ولا تزال القضيةُ منظورةً أمام المحكمة العليا الإسرائيلية.

أتاحت الهبّة الاخيرة التي اندلعت مؤخرًا في الأرض الفلسطينية المحتلة لإسرائيل فرصةً لاتخاذ إجراءات من دون الحاجة لانتظار حكم المحكمة العليا. ففي 14 تشرين الأول 2015، أصدرت «الحكومة الأمنية» الإسرائيلية قرارًا يقضي «بإلغاء حق الإقامة الدائمة للإرهابيين»، وذلك من دون تعريف مفهوم «الإرهابي». وبعد أسبوعٍ واحد، أبلغت وزارة الداخلية أربعةَ فلسطينيين، ثلاثة منهم متهمون بإلقاء الحجارة، أن وزير الداخلية يدرس استخدامَ سلطته التقديرية لإلغاء إقاماتهم لأن الأعمال «الإجرامية» التي اتهموا بارتكابها تُظهر بوضوح «خرق ولائهم» لدولة إسرائيل. وأصدرت وزارة الداخلية في كانون الثاني 2016، قرارات رسمية ألغت بموجبها إقامة الشبان المقدسيين الأربعة.

ومن الجدير بالذكر أن القانون الإنساني الدولي ينص على عدم توقع الولاء من السكان القابعين تحت الاحتلال. وبالتالي فإن تبرير إلغاء الإقامة بسبب «خرق الولاء» مخالفٌ للقانون الدولي. فضلًا عن أن إلغاء إقامة المشتبه في ارتكابه أعمالَ عنفٍ غيرُ مبرر لأن النظام القضائي الجنائي الإسرائيلي يعاقب بالفعل على أعمال العنف ـ وكثير من الأعمال غير العنفية ـ التي ينفذها الفلسطينيون.
النضال لوقف التهجير القسري

بات التهجير القسري في القدس وفي مناطق أخرى من الضفة الغربية جزءًا من النظام القانوني في إسرائيل، إذ يتجلى في القوانين والأوامر الإدارية وقرارات المحاكم الإسرائيلية. وفي حالة القدس، لا تنظر المؤسسات الإدارية والقانونية الإسرائيلية في الحجج والمرافعات المبنية على أساس القانون الدولي، لأن إسرائيل تعتبر القدس أرضًا إسرائيلية وليست أرضًا محتلة. ومن وجهةِ نظرٍ قانونية وتاريخية أوسع، يُعدّ التهجير القسري جريمةَ حرب إذا ارتُكبَ على أرضٍ محتلة، ويُعدّ جريمةً ضد الإنسانية إذا ارتُكبَ على نطاق واسع أو على نحو ممنهج. إن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية والاجراءات الاخرى التي سبقتها تنسجم ومعيار التهجير الممنهج الذي يرقى إلى كونه جريمةً ضد الإنسانية.

يستهدف جُلّ النضال في قاعات المحاكم الإسرائيلية حالياً العمل من اجل استعادة اقامة المقدسيين في القدس، ولكن للاسف لم يحصد هذا العمل اي تقدم حتى الآن. حيث فشلت محاولات العديد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية في مرافعاتها أمام المحكمة العليا الإسرائيلية باقناع المحكمة بأن المقدسيين ليسوا مهاجرين بل سكانٌ أصليون لهم حقٌ غير مشروط في العيش في مدينتهم. وفي حين تُصرّ المحكمة العليا الإسرائيلية بأن حق المقدسيين الفلسطينيين في العيش في القدس الشرقية ينبغي أن يظل خاضعًا لسلطة وزير الداخلية التقديرية، تعكف الحكومة اليمينية الحالية في إسرائيل على استخدام هذه السلطة التقديرية لتسريع وتيرة ترحيل أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيين عن القدس.

لا توجد تدابير مضادة واضحة على المستويات الديبلوماسية والدولية لمواجهة تدابير إسرائيل العقابية. فقد حصلت «منظمة التحرير الفلسطينية» على اعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وانضمت بعدها إلى عدد من معاهدات حقوق الإنسان واتفاقيات القانون الدولي الإنساني المهمة بما فيها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وبرغم ذلك، لم يتضح بعد كيف تعتزم دولة فلسطين أن تستفيد من مكانتها الدولية الجديدة ومن هذه المعاهدات لمحاربة قرارات سحب الإقامات في القدس.

حقوق الفلسطينيين في القدس تحتاج اهتمامًا أكثر بكثير، فلا بد أن تتلقى إسرائيل رسالةً قوية من المؤسسات القانونية الدولية والدوائر الديبلوماسية مفادها أن المجتمع الدولي يعتبر القدسَ، بغض النظر عن التعريف الإسرائيلي، أرضًا محتلة ويعتبر ترحيلَ سكانها جريمة. إن قضيةَ سحب إقامات المقدسيين تتطلب حيزًا على جدول الأعمال. ينبغي على منظمات المجتمع المدني والمحامين والمسؤولين الفلسطينيين ومنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية أن يغتنموا الزخم المتولد من انضمام فلسطين إلى عدد من معاهدات حقوق الإنسان من أجل زيادة الضغط الذي يمارسونه على المجتمع الدولي. لقد آن الأوان لأن يفي المجتمع الدولي بالتزامه باتخاذ التدابير المتاحة كافة لوضع حدٍ لجريمة الترحيل القسري، ومحاسبة المسؤولين عن هذه السياسات، وعكس آثارها بتعويض ضحاياها، بما في ذلك حقهم في العودة إلى ديارهم.

جريدة "السفير"