اكتفاء الفلاحين الذاتي - الطريق لاستعادة الهوية الروسية
المشكلة الرئيسة في المجتمع الروسي الحديث لا تكمن في الأسباب الاجتماعية أو الاقتصادية، بل هي في أزمة الهوية. هذه المشكلة قديمة جدا، أزمة هوية ظهرت في البداية لدى النخبة، وزادت حدتها تدريجيا بشكل خاص بعد إصلاحات بطرس الأول، وانتشرت هذه الأزمة أكثر من غيرها لتعم قطاعات مجتمعنا، في المقام الأول، انتشرت لدى من يسمى بـ"المثقفين"، وبعد ذلك لدى الجماهير، الذين فقدوا وضعهم كشعب، وأصبحوا حشدا. الغوغاء هي في جوهرها كابوس سياسي لأي حضارة، وهذا بالتحديد ما تحولت إليه ممارساتنا السياسية في تسعينات القرن الماضي. الأوليغارشية في الجزء الأعلى، والكتلة المجزأة فاقدة الهوية والمصدومة في الأسفل.
النخب والالكتل المصدومة، منعت الشعب من إظهار وضعهم الشخصي. ذاتية للشعب، بالتحديد الشعب وليس الكتل، هي المحرك التاريخي لروسيا. الحديث لا يدور عن الديمقراطية "حكم الشعب" وليس عن الحرية الليبرالية للفرد، الحديث يدور عن سياق الوجود التاريخي لروسيا، وبالتحديد عن أصالة هوية الشعب. المهم ليس الإرادة المشتركة للأفراد، بل روح الشعب. هنا من الضروري الإشارة إلى أن روسيا، كدولة امبراطورية، لم تكن أبدا دولة قومية، ولكنها كانت دائما مساحة ازدهار الأعراق والثقافات في أوراسيا. وبطبيعة الحال، الهوية والذاتية لكل دولة مهمة للدولة الروسية، دون هذا، وجود الإمبراطورية في الشكل الذي نحن بحاجة إليه، من المستحيل. ومع ذلك، فإن الشعب الروسي هو القوة المركزية للدولة الأوروآسيوية، والتي تآكلت هويتها بشدة خلال القرن الماضي.
ما هي سبل خروج الشعب كذاتية من الأزمة؟ كيف يمكن اعادة الشعب لأصالة الهوية؟ أولا، يجب على النخبة في الدولة الروسية، فهم معنى ذاتية وهوية شعوب روسيا-أوراسيا على محمل الجد، أولا وقبل كل شيء، هوية الشعب الروسي، ونعني بهذا ليس فقط الفهم الشامل للتاريخ الروسي، ولكن أيضا فهم الفلسفة الروسية والثقافة والجغرافيا السياسية، الخ.
النخب التي لا تعتقد بأهمية مثل هذه القضايا، هي ليست كفؤة لمهام الإدارة. ثانيا، يجب القضاء على الإغتراب الثقافي والاقتصادي جذريا. فليس هناك "وصفات" غربية مناسبة لروسيا. يمكننا أن نرى هذا الأمر بوضوح من أمثلة تاريخنا. الثقافة والاقتصاد يجب أن تخدم الهوية، وألا تخالف المعايير الأخلاقية للطوائف التقليدية. وبطبيعة الحال، الهيكل الاجتماعي للدولة لا يمكن أن يكون رأسماليا، والثقافة والتعليم يجب أن تطور مفهوم الهوية والانتماء للأمة وتاريخها.
ولكن الأهم من ذلك، ضرورة إحياء سمة الحياة الروسية، وهذا ممكن فقط عبر تطوير ما يسمى الحكم المطلق للفلاحين. الوجود الحقيقي لشعوب أوراسيا من المستحيل إحياؤه في المدن على الطراز الغربي. ونستنتج من ذلك - إذا كنا نريد الحفاظ على الهوية، وإحياء الأمة، يجب علينا أولا إحياء القرية. للقيام بذلك، يجب على الدولة جعل التنمية الريفية أولوية. وتنفيذ برامج تنمية البنية التحتية، والطب، والتعليم، وحماية النظام. القرية يجب ألا تكون رمزا للتخلف الاقتصادي والثقافي. المجال الاجتماعي الحكومي يجب أن يركز على تطوير المناخ الاجتماعي وجاذبية القرية. الآن هناك أمثلة كثيرة من الناس الذين غادروا المدينة إلى الريف ويعيشون حياة كاملة، وفي ظل عملية التنمية المكثفة وواسعة النطاق، الانتقال سيكون شاملا.
يمكن وصل القرى عبر "الشبكة الآسيوية"، والتي قد تكون بديلا جيدا للإنترنت المؤمرك. والذي يعتبر مجرد وجوده، تهديدا للأمن الجيوسياسي لروسيا. وينبغي أن تكون هذه الشبكة مفصولة عن الغرب، ولا تتداخل مع الانترنت الغربي. وأفضل خيار لتنفيذ ذلك، هو فرض تسجيل الدخول بجواز السفر. كما لا بد من وجود رقابة قوية على الشبكة، ما سيحولها من مدفع في يد العدو، إلى أداة مريحة للاتصالات، والتي، في جملة أمور أخرى، يمكن عبرها تنفيذ أنواع عديدة من العمل عبر التواصل البعيد. التقنيات الحديثة تسمح بأتمتة ونشر المعدات والآلات في المناطق الريفية، والحد من العديد من المخاطر المناخية. على سبيل المثال، ظهرت في الصين تكنولوجيا مماثلة للطباعة ثلاثية الأبعاد، تسمح بـ"طباعة" المنازل ومرافق البنية التحتية.
الجانب الاقتصادي لهذه القضية يتطلب تحقيق التكامل بين هذه المشاريع والنظام التجاري للبلد. أنصار الاقتصاد الحر، بطبيعة الحال، سيتحدثون عن عدم كفاءة الاقتصاد، ولكن هذا فقط لأنهم يقفون إلأى جانب العولمة الليبرالية. الجهات الفاعلة في العولمة هي في المقام الأول الشركات الغربية المتعددة الجنسيات، والتي تهدف لاستعباد جميع الناس في العالم كمستهلكين لمنتجاتها، وخفض عدد سكان العالم. ومع ذلك، فإن تطوير الاكتفاء الذاتي الفلاحي، سيسهل إلى حد كبير قضايا الأمن الغذائي في البلاد، وسيدمج الجميع في النظام الاقتصادي للدولة ليس كمستهلكين، بل كمنتجين للسلع.
من المهم الابتعاد عن وجهة النظر المادية، وعن مفهوم أن السلعة هي أساس الاقتصاد، والتوصل إلى مفهوم أن الإنسان هو الأساس. وبطبيعة الحال، مثل هذا النهج، سيؤتي بثماره بسرعة كبيرة. الانسان الذي يعمل في أرضه، ويعيش في بيته، وليس كجزء من شركة دولية، سيكون رجل دولة عظيم ووطني، خلافا لمحبي الجلوس في المكاتب. وفي حال قامت المدارس بنشر المعلومات السياسية والتدريب العسكري، فإن نمو الوعي الوطني سيكون هائلا. ولكن كل هذا لن يكون ممكنا، دون العودة إلى الأديان التقليدية في روسيا وأوراسيا مرة أخرى. لا ينبغي فرض مثل هذه العودة، ولكن لا بد من القضاء على العوائق التي تحول دون ذلك.
على الحكومة أن تلتفت بكل جدية، إلى إعادة إعمار الكنائس المدمرة ومباني ومعابد الديانات التقليدية الأخرى. وما لا يمكن إعماره وترميمه، يجب إعادة بنائه من جديد. كما يجب نشر برامج دعم القيم التقليدية في وسائل الإعلام وفي التعليم. بطبيعة الحال، تنفيذ هذه التدابير يتطلب إعادة هيكلة كلية للاقتصاد والحياة في روسيا. التنازل عن النمط الغربي، لصالح النمط التقليدي، مثل ما كانت عليه الأمور في عهد يطريركية موسكو، ولكن مع بعض التعديلات التكنولوجية. فهذا هو الأسلوب الوحيد لاستعادة هوية الشعب، عبر انعاش الضروريات الجيوسياسية والديموغرافية.