"الربيع العربي" يكشف أزمات الحكومات الوطنية 1-2
أدى تسارع الأحداث العالمية في السنوات الأخيرة،(الأزمة الأوكرانية وإجراء الاستفتاء حول استقلال اسكتلندا والنزعات الانفصالية في أوربا وخاصة في اسبانيا) إلى إحياء الحديث والنقاش حول فكرة النظام والأسلوب الأفضل للحكومات الوطنية، ويجعل تطور الأحداث العربية كالحروب في الشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وتوسع تنظيم "داعش" في الكثير من البلدان، وهذه النقاشات مهمة جدا بالنسبة للعالم العربي.
البحث حول نماذج أزمات الحكومات الوطنية في الشرق الاوسط كان جوهر مقال للباحث فيتالي ناومكين بعنوان " حضارات وأزمات الشرق الأوسط" .
يناقش هذا المقال مشكلتين أساسيتين اليوم وهما: أولا إذا قبلنا أن ما يحصل الآن هو إنهاء نظام سايكس بيكو، فما هو النظام البديل الذي سيحل محله؟، وثانيا هل يعتبر تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في العراق و الشام) نظاما بديلا في المنطقة؟، ليس فقط مشروعا مهددا للأنظمة الحالية، بل طارحا نظاما جديدا قابلا للتطبيق ؟
تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة في المقام الأول تحليل نماذج أنظمة الحكومات العربية القائمة حاليا ودراستها في شكل موضوعي
الحكومات الوطنية في العالم العربي: نماذج محددة
أصبح معروفا عند المهتمين والخبراء في الجيوسياسة أن موضوع نهاية اتفاق سايكس بيكو هو ليس فقط إلغاء الحدود التي وضعتها القوى الأوربية، إنما في جوهره هو إنهاء للأنظمة التي ظهرت في عهد الاستعمار، بعض النظر عن طبيعة العلاقة التي نشأ من خلالها هذا النظام أو ماهي السلطة الاستعمارية التي أنشأته.
والواقع أن المؤسسات الحكومية الحديثة الأساسية في دول مثل لبنان، سوريا، العراق، الأردن، الجزائر، وكذلك في ليبيا، قد تم إنشاؤها من قبل أو تحت ضغط الأوروبيين. حتى في مصر أو تونس، حيث بدأت الإصلاحات في فترة ما قبل الاستعمار، كان الوجود الغربي له تأثير كبير على البنية السياسية فيها.
ومع هذا، فإن السلطات الاستعمارية نفسها لم تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ التحديث السريع في المجال الاجتماعي والسياسي، بالعكس تماما (وخاصة في ظل الاستعمار البريطاني) فقد سعت إلى تقوية النظام القبلي التقليدي أو الزراعي في المجتمعات المحلية التي كانت تسيطر عليها.
ويتجلى هذا الاتجاه بشكل واضح في بعض الدول التي حصلت على استقلالها بعد الملكيات الخليجية، حيث تدخلت الحكومة البريطانية مباشرة في العلاقات والصراعات القبلية والعائلية. ساعدها في ذلك بعض القوى في هذه الدول مثل البرجوازية المسيحية في لبنان أو المكون السني في العراق، وتم الحديث صراحة في البرلمان البريطاني عن ضرورة دعم الخلافات القبلية والعرقية في السودان.
في هذا السياق، فإن شكل الأنظمة التي حدثت الإدارة فيها، لكنها حافظت على الهوية التراثية، والمليئة بالتناقضات الاجتماعية، تمثل أغلب أنظمة الادارة في الدول العربية بتناقضاتها ومشاكلها الداخلية.
وحتى حركات التحرر الوطني التي نمت في شكل ملحوظ بعد الحرب العالمية الأولى، كانت نتاج المشاريع المحدثة وتعتمد من الناحية النظرية على الفكر الاجتماعي والسياسي الأوروبي، وحتى التي تمكنت منها أن تصبح فاعلة ومؤثرة في الحياة السياسية في البلدان المعنية، لم تحاول إدخال أو تطبيق بدائل تعارض السياسات والانظمة المدعومة غربيا، بل على العكس سعت إلى أن تكون تابعة كليا لهذه الحكومات الغربية. فالمسألة اذا بالنسبة لهم لم تكن تقتصر على الحصول على حقوق متساوية مع الأوروبيين، ففي الجزائر وتونس ولبنان كانت هناك نقاشات حقيقية فيما اذا يتم العمل على الاستقلال أو على حكم ذاتي واسع الصلاحية أو على الاندماج بشكل كلي مع الدولة المستعمرة.
كل هذا مهد إلى التصميم لإقامة حكومات وطنية في المشرق العربي وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أن تطبيقها واجه عقبتين:
الأولى أن فكرة وجود أدوات واتجاه لبناء الدولة المستقلة كانت ضعيفة في الشعور الوطني، وبالأصل يختلف مفهوم الأمة أو القومية عند الأوربيين ( على الأقل من الناحية الاجتماعية او الانتروبيولوجية) عن مفهوم الأمة في العالم العربي، ولذلك فإن معظم المشاريع الوطنية لتحديث الأنظمة في البلدان العربية بدأت بعد الاستقلال.
كانت من أولى تبعات هذا الوضع ظهور إيديولوجيات جديدة لإسلوب بناء الدولة غير التابعة، وخاصة في ظروف حصلت فيها الكثير من الدول على استقلالها في ظل النظام العالمي السياسي الجديد الذي فرض تغييرا حقيقيا في الإيديولوجيات والهويات القومية.
وهذه الأيديولوجيات المتنافسة الرئيسية هي: العروبة (الناصرية، البعثية، الماركسية في جنوب اليمن) والإقليمية (فكرة سوريا الكبرى، الهلال الخصيب، ووادي النيل والمغرب العربي، وما شابه ذلك) وفكرة قومية الدولة (وخصوصا في تونس)، الاتجاه الرابع هو فكرة الإسلاموية أو الأمة الدينية التي تطبق المفاهيم الإسلامية، وقد تناول الخطاب القومي الأوربي هذه الفكرة، وكذلك ظهرت اتجاهات أكثر هامشية تأخذ منحى عرقي أو إثني ( الأمازيغ، الكرد، … )، أو مفهوم الحكومات المحلية في الأقاليم (طرابلس وبرقة في ليبيا وما إلى ذلك).
وفي حالات معينة فإن هذه الايديوبوجيات لا تتنافس مع بعضها و حسب، إنما تكمل بعضها الآخر كما تغني بعضها البعض بالأفكار، فالثقافة المصرية تتكامل مع فكرة العروبة.
كل هذه الأيديولوجيات الناشئة، ومهما كانت جذورها، فهي طُورت في إطار الفكر الاجتماعي والسياسي الأوروبي، حيث سعى واضعو هذه الايديولوجيات إلى بناء فكرة ووصف الواقعية الإقليمية. ولهذا السبب فإن في معظم هذه المفاهيم، كان العنصر والسؤال الأبرز في عموم البنيات الفكرية (جزئيا أو كليا) حول الأمة، تفسير فكرة الأيديولوجيات الأوروبية الكبيرة بأي شكل من الأشكال .
في الوقت نفسه كان نقل المفاهيم الأوروبية إلى الشرق الأوسط، يتطلب في شكل واضح تكيفها مع خصائص الطبقات في المجتمع. لذلك، تناولت السياسات العربية في معظمها أفكار اليسار في السياسة العامة، ورفضت فكرة الصراع بين الطبقات، محاولة بناء دولة المؤسسات العامة ولكن من دون القضاء كليا على القطاع الخاص. ولكن في معظم نماذج التحرر الاقتصادي العربي بقيت حصة القطاع العام عالية تقريبا، والعكس بالعكس، لجميع النماذج من التحرر الاقتصادي، ظلت عالية جدا. ويمكن القول إنه في الظروف المحلية ليس من السهولة تطبيق الخطاب اليساري المتطرف في هذه المجتمعات.
ومع ذلك، على الرغم من الاتجاهات المختلفة من هذه الأيديولوجيات الهجينة، فإنه عمليا، لم تقوم أي منها بإنكار العضوية في العالم العربي والإسلامي، وتجلى ذلك رسميا في عضوية هذه الدول في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي . بالطبع، من الناحية العملية، قد تختلف الهوية العربية عن الهوية الاسلامية، فيمكن فهم الإسلام كأساس مهم في النظام الاجتماعي والسياسي كله (مثلا: المملكة العربية السعودية)، ويمكن فهمه واعتباره فقط كجزء من التراث الثقافي للمجتمع (الفكر البعثي في سوريا، فكر بورقيبة في تونس، وما إلى ذلك). وبالمثل، يمكن اعتبار العضوية في العالم العربي كدلالة حضارية رئيسية (الفكر البعثي في سوريا)، ويمكن كذلك اعتبارها دلالة مساوية لغيرها من الدلائل ( المتوسطية، الأفريقية، والإسلامية، الخ)..
هذا الفهم العام لمفهوم عضوية أو هوية الحضارة العربية الاسلامية في ظل هيمنة الايديولوجيات الهجينة المختلفة فيما بينها، يؤدي إلى الحديث عن نموذج بناء الدولة من الناحية الايديولوجية.
النتيجة الثانية لعدم اكتمال مفهوم الامة ( او وجود الايديولوجيات الهجينة) هو عجز الحكومات الشرعية في هذه الاقاليم.
وجود كل واحدة من هذه الدول أو الحكومات على حدة لم يكن غير مشروط، ولا يعتبر أمرا طبيعيا تماما، ولذلك فإن المناقشات والأفكار حول دمج أو توحد هنا، أو انفصال هناك لم تتوقف ولن تنتهي، بعض المشاريع عمل على الجمع بين عدة ولايات أو بلدان في اتحاد أو كونفدرالية، ومع ذلك في معظم الحالات، ظلت هذه المشاريع دون تنفيذ. مع بعض الاستثناءات التي كان منها ماهو مؤقت وليس ناجح جدا، كقيام الجمهورية العربية المتحدة في عام 1958، أو جمهورية اليمن المؤلفة من شمال وجنوب اليمن، ومنها ماهو ناجح جدا، مثل الإمارات العربية المتحدة. وإذا كان ظهور مشاريع الدمج أو التقسيم يرجع إلى البحث عن الهوية الوطنية، وهذا ما تناوله الفكر السياسي العربي في الثلثين الأولين من القرن العشرين، فقد تمثلت أسباب عدم تنفيذها على وجه التحديد في تفاصيل الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة . في هذا الواقع، كان هناك مجموعة معينة من الدول معظمها معترف بها تماما، في كل واحدة منها قد وضعت الأنظمة السياسية والهياكل الاقتصادية والاجتماعية المستقاة من الخارج بشكل مختلف عن الأخرى (كالفرق بين المملكة العربية السعودية،و سوريا ).
ومن الواضح أن التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتزامنة في الدول العربية كانت بدرجات متفاوتة وبطرق مختلفة. في دول الخليج، في البداية ظهر الانسجام النسبي بين المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث أدت الزيادة في عائدات النفط، والحاجة إلى الاندماج في النظام العالمي إلى حقيقة أن التحديث والتطور الاقتصادي تقدم بفارق كبير عن المجال السياسي. في الجمهوريات العربية المستوردة للنفط، وكذلك في الجزائر، كان الوضع عكس ذلك تماما، فالمؤسسات السياسية الحديثة والمتطورة والمعاصرة كانت تعمل في مجتمع تقليدي إلى حد كبير. وأخيرا المغرب والأردن، حيث جمعت ملامح النظام السياسي والاجتماعي بين التقليد والحداثة.
ويعود هذا التباين وعدم الانسجام في التطور إلى حقيقة تزايد وتعدد الكينونات العربية المجزأة.
وقد أدى ارتفاع مستويات الدخل ونوعية حياة السكان في العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة (في فترة السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة والنمو في أسعار النفط والغاز) إلى زيادة في القوة الشرائية للناس وزيادة في الطلب على شراء السلع الغربية. نتج عن ذلك من ناحية سياسية اجتماعية ظهور أدوات "القوة الناعمة" من قبل الدول الغربية، وانتشار بعض عناصر نمط الحياة الغربي والقيم الغربية، مما أدى إلى التهديد بتآكل التقاليد والعلاقات الاجتماعية، وتعزيز التفتت الاجتماعي.
ومما حفز هذه التجزئة، الطبيعة البيروقراطية لمعظم الأنظمة العربية، حيث أصبحت القدرة على إنتاج الثروة لاتكون عن طريق قطاع الاعمال أو الشركات المبتكرة والناجحة، إنما لمن عنده إمكانية الوصول إلى مراكز السلطة السياسية، وهذا بدوره عزز النظام العائلي والعشائري في مجتمعات هذه الدول.
بيد أنه وبشكل ممنهج إلى حد كبير وللمحافظة على التجزئة والتقسيم، تم تكريس الطائفية، والنزاعات الداخلية العشائرية وكان ذلك جزءا من آليات استراتيجية واعية، للسماح والحفاظ على الاستبداد، ومنع تطور الوعي المدني، وتم وضع وتوزيع المواطنين بطرق مختلفة وفقا لانتماءاتهم الدينية في بلدان مختلفة، والنتيجة كانت دائما قمع التعددية واستمرار الديكتاتورية.
وفي الدول المستوردة للنفط وكذلك جزئيا في ليبيا والجزائر فإن التقسيم الطائفي والتفتت الاجتماعي تأثر بالخطابات الايديولوجية المختلفة المستخدمة من قبل النخب الحاكمة لتحقيق أهداف معينة، جنبا إلى جنب مع سياسة اقتصادية ليبرالية مدروسة وهادفة الى تشكيل مجتمع استهلاكي، ونتيجة لهذه السياسات ظهرت أعراض خطيرة وأزمات في المجتمعات العربية، وشعور متزايد بالحرمان النسبي، وهذا كان من الأسباب الرئيسية لأحداث الربيع العربي.
نتيجة أخرى من عدم الانسجام في التنمية الاجتماعية والسياسية هي ظهور اختلالات مؤسسية في بعض مؤسسات الدولة (الجيش، القوى البيروقراطية، وبعض المؤسسات التي تقدم الدعم الاجتماعي والاقتصادي للسكان والتنمية) التي تمكنت من أن تكون أكثر تطورا بكثير من مؤسسات أخرى مثل (الأحزاب السياسية والبرلمانات وغيرها من المؤسسات المدنية المجتمع).
في الواقع، إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث للعالم العربي من خلال منظور تطور المؤسسات، سنلاحظ عددا من خطوات التطور الرئيسية :
الأولى: المؤسسات التي نشأت في الحقبة الاستعمارية والسنوات الأولى من الاستقلال، عندما تم إنشاء المؤسسات الأساسية في الحكم، استنادا إلى فئات اجتماعية مميزة (تقدم عادة من قبل السكان المحليين، ولكن في بعض الحالات (الجزائر، وإلى حد أقل، تونس، ليبيا) كانت بإشراف الأوروبيين).
الثانية - وهي فترة " نمو الفكر السلطوي" في الأعوام 1950-1970 تميزت بتعزيز مؤسسات الدولة، وظهور الجمهوريات الرئاسية، ونشوء أنظمة الحزب الواحد، وتعزيز مفهوم المؤسسات الحكومية على اختلاف أنواعها.
ارتبطت نهاية هذه الفترة في معظم الحالات بحدوث أزمات وخاصة بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران عام 1967، فضلا عن الوضع الدولي المتغير، الذي أجبر الأنطمة على إجراء إصلاحات اقتصادية ليبرالية في السبعينات.
الفترة الثالثة (1980-2010) وتميزت الأنظمة بأنها هجينة بين السلطوية والديمقراطية، وحيث ترافق ظهور نظام التعددية الحزبية، مع ظهور أنظمة الحزب المهيمن، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني في عدد من البلدان، وتسييس هياكل القوة والنفوذ بشكل جزئي.
ارتبط التحرر النسبي في المجال السياسي في هذه الفترة بعدد من العوامل والأهداف؛ منها أن هذه الفترة شهدت دخول وتفعيل الجيل المولود في حقبة الاستقلال في السبعينات. وكذلك انتشر الفكر الاسلامي ومطالبته بالمشاركة السياسية. وانهيار نظام القطبية الثنائية والدخول السوفييتي في أفغانستان والثورة الإسلامية في إيران.
من أهم العناصر التي ساهمت بتطوير الانظمة في هذه الحقبة كان التطور التدريجي لمؤسسات المجتمع المدني بين أعوام 1990-2000 الناجمة عن نمو رفاهية المواطنين، وأصبحت الدول أكثر انفتاحا، واختلاف النظرة إلى الطبقات المتعلمة من المجتمع وتطور القيم وقواعد السلوك والعادات.
وبشكل جزئي ترافق ظهور المؤسسات الحاكمة للمجتمع في هذه الحقبة بتعاظم دور المؤسسات الاجتماعية وتطور نظام التعليم وغير ذلك من المنظمات، على سبيل المثال، ازداد عدد المنظمات التطوعية المسجلة في الدول العربية في الفترة 1995-2007 من 120 ألفا الى 250 الفا، جيث تركز نشاطها في الأصل أساسا على الخدمات الاجتماعية (الرعاية ودعم للفقراء والمشاريع الاجتماعية) .
وكذلك تطورت وسائل انتشار المعلومات والاعلام بشكل كبير وخاصة بسبب الانترنت كما ظهرت المنظمات غير الحكومية المستقلة المدافعة عن حقوق المرأة، وبدأت حركات الاضراب الشامل وخاصة في عام 2008 بدعم من المجتمع المدني وسحقت من قبل السلطة.
ومع ذلك، فإن تطور المجتمع المدني أثر في البلدان بدرجات متفاوتة، وكان هذا التأثير ضعيفا بشكل عام في بعض الحالات. على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج الأخرى، لم يسمح للمنظمات المدنية المستقلة بتنظيم نفسها او العمل، حيث ينتشر حكم القبلية أو الفئات الاجتماعية التقليدية الأخرى.
التحقيب ( التقسيم الزمني للمراحل) وهو يصنف كنموذج مثالي لدراسة واقعية الأفكار السياسية للحكومات في الأقاليم المختلفة. ومع ذلك فإن الأمور كانت تختلف من دولة لدولة، ففي تونس كانت مؤسسة الجيش بعيدة عن السياسة مما سمح للمؤسسات المدنية بالتطور أكثر مما حدث في بلدان أخرى.
أيضا فترة النضال من أجل استقلال النقابات والتي تعتبر ثاني أكبر المنظمات المدنية للبلد (حيث كان حزب "الدستور الجديد" هو الأكبر)، الذي كان يمثل قناة التواصل والتفاعل بين الدولة والمواطنين.
أما في الجزائر، فعلى الرغم من كل الإصلاحات والتحديثات في المجتمع، إلا أن العلاقات التقليدية، القبلية لا تزال تحكم المجالات الاجتماعية والسياسية، على المستويات المحلية والإقليمية. أما في الملكيات مثل المغرب أو الأردن، فقد تمت تنمية وتنشيط المؤسسات الديمقراطية الحديثة (خاصة في المغرب) وذلك بفضل السلطات الملكية من أجل كسب ولاء المجتمع. في سوريا كذلك لم تتحقق حرية المجالات السياسية، وكذلك في العراق فرضت الديمقراطية من خلال التدخل الاجنبي أما في النظام الليبي الذي بناه القذافي فقد كانت المؤسسات السياسية هي نتاج المؤتمرات الشعبية، وأخذت بأغلبها الطابع القبلي التقليدي، أما بالنسبة للممالك شبه الجزيرة العربية، أخذت مؤسساتها السياسية الطابع القبلي، وسمح عامل النفط بتكريس هذه الميزة حيث أدت الموارد النفطية إلى رخاء اقتصادي أدى بدوه الى إضعاف حركات المجتمع المدني.
أدى تفتت المجتمعات العربية بالتزامن مع عدم الانسجام في التنمية المؤسسية وطبيعة الأنظمة الانتقائية لتشكيل ما يسمى تنوع الحكومات في الاقليم الواحد، ومنها:
أولا ما يسمى الدولة التاريخية، حيث الوظائف البيروقراطية التقليدية كأداة للسلطة السياسية ورعاية استخدامات النخبة الحاكمة لتوحيد موقفها وتحقيق مصالحها في جميع مناحى الحياة. وثانيا وهي (الدولة الحديثة)، والتي هي عبارة عن تكتل مؤسسات بيروقراطية مستقلة أو شبه مستقلة. تكنوقراط الدولة هذا، تلقى في معظم الحالات التعليم الغربي وركز على تطور البرجوازية المحلية. وبالتالي فإنه يؤدي وظيفتين هامتين: تخطيط وتمويل وإنشاء مؤسسات جديدة والبنية التحتية الاقتصادية؛ وتنظيم المشاريع، ومراقبة التمويل والبيروقراطية في مجال الدعم الاجتماعي للسكان. مفهوم "الدولة الثانية" يلعب دورا رئيسيا في دعم هذا النوع من العلاقات والحقوق السياسية التي يكفلها وضع الدمج. وأخيرا، "الدولة الثالثة" - تتركز في الواقع بجهازها القمعي، وهي الطائفة المغلقة، والتي تحمي النخبة الحاكمة، وتسيطر على مختلف مؤسسات الدولة.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن توسيع المشاركة السياسية الأكثر نجاحا كانت في تلك البلدان التي تطورت فيها مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء بشكل جيد، وخاصة في تونس والمغرب. وفي الأنظمة الديمقراطية التي يضطلع فيها المجتمع المدني بدور هام مثل تونس فهنا يكون محرك العملية الديمقراطية ذاتيا من داخل المجتمع، أما في البلدان التي تكون فيها سلطة الدولة قوية بالنسبة لتأثير المجتمع المدني تكون الديمقراطية ضعيفة ومن السهل الالتفاف عليها. وهذا الأمر ينطبق على مصر، الجزائر، ومعظم ممالك الخليج، حيث كانت الدعوة التي وجهها المجتمع ضعيفة إلى حد ما. بسبب طبيعة مؤسسات الدولة، ففي دول الخليج كانت السلطة الحاكمة مطلقة ساعدها في ذلك أنها تتمتع بشرعية أكبر من الجمهورية. وأخيرا، كانت تلك البلدان حيث التنمية المؤسساتية ضعيفة عموما، فقد أدت الثورات إلى تدمير الدولة. وهذا ينطبق على ليبيا، وأيضا إلى حد ما في اليمن والعراق وسوريا.
في بعض الحالات، فإن التعايش بين مؤسسات سلطة الدولة وجماعات عرقية ودينية معينة (العلويين في سوريا، والأكراد في كردستان العراق، والشيعة في جنوب بغداد والسنة في وسط العراق)، أوجد كفاحا من أجل الحفاظ على الوضع القائم ( كما حصل في سوريا والعراق) ، وكذلك يمكن الحديث هنا عن البحرين حيث الصراع بين الحكومة والمعارضة يستند إلى أسس معينة، إلا أن صغر حجم البحرين يزيد من إمكانية السيطرة على التأثيرات الخارجية. ومع ذلك، في ليبيا واليمن، حيث يقوم نظام العلاقات السياسية ويتغير بتغير التوازنات بين الجماعات القبلية والإقليمية والطائفية (في اليمن) ، ما أدى إلى نتائج كارثية.
إن توسيع المشاركة السياسية، بغض النظر عما إذا كانت وقعت ضمن إطار مؤسساتي، كما هو الحال في مصر، وتونس أو المغرب، أو خارج هذا الإطار - كما هو الحال في ليبيا، في كلا الحالتين هذا يعني مشاركة الطبقات السياسية التقليدية في المجتمع وبناء عليه، بداية تحول العلاقات السياسية إلى الشكل التقليدي.
في الحالات التي تمر فيها هذه العملية بشكل سياسي - دون تدمير المؤسسات - فإنها على المدى الطويل يجب أن تؤدي إلى تنسيق العلاقات الاجتماعية والسياسية وتحسين كفاءة الدولة. ببساطة، يجب التغلب على وضع، "تعدد الحكومات" - بحيث تكون حكومة واحدة قوية ومتينة، حتى ولو كانت من ناحية الشكل أكثر تقليدية، ولكن في البنية المؤسساتية أكثر ديمقراطية.
من الناحية النظرية، فإن زيادة كفاءة المؤسسات في المستقبل يجب أن يكون مفتاح التحديث الاجتماعي، وتحرير العلاقات الاجتماعية، وفي نهاية المطاف، التحول من التقليدية الى الحداثة.
ولعل المثال الأكثر إثارة للاهتمام في هذا الصدد اليوم هو تونس، حيث أدى إنشاء المؤسسات وحصول انتخابات حرة وتحقق التعددية الحزبية وحرية الصحافة، الى خلق الظروف لتدخل منظمات المجتمع المدني في السياسة. ونتيجة لذلك، فإن العديد من المشاكل الاجتماعية والمحرمات سابقا، أصبح ممكن طرحها للنقاش العام – مثل العنصرية وعدم المساواة بين الجنسين وحقوق المثليين، ومسؤولية الدولة في الطبقات الضعيفة اجتماعيا، الخ.
ومع ذلك، فإن تنشيط الحياة الاجتماعية لم يمنع ارتباط العلاقات السياسية بالمجتمع التقليدي، وخاصة على المستوى المحلي، حيث استمرت النزاعات القبلية، وتنشيط فكرة الهوية المحلية (على وجه الخصوص، انتشرت للغاية المطالبة بعائدات صادرات الموارد الطبيعية في الميزانيات المحلية والإقليمية) وزيادة نفوذ العامل الديني.
في الحالات التي كان فيها تطور العملية السياسية صعبا، كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن، ويتحول توسيع المشاركة السياسية إلى دمار للبلد، أو على الأقل تدهور حالة الدولة، أدت هذه التحركات والثورات إلى تأثر السياسة بالوضع التقليدي للمجتمع بشكل مطلق. تبعا لهذه الحالة يمكن أن ذكر نمو القبلية (كما في ليبيا)، أو النعرات الطائفية (كما هو الحال في سوريا)، أو مزيج من الاثنين معا (كما هو الحال في اليمن والعراق). الواقع السياسي في هذه البلدان هو في مرحلة نصف العمر، وحتى في حال وجود أي تقدم في التسوية السلمية سيتم الالتفاف عليه، وسوف يبقى العنصر التقليدي يلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية.
فاسيلي كوزنيتسوف باحث في العلوم التاريخية، رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية.
وليد سالم: كاتب فلسطيني