زرع الاستراتيجية الأمريكية في مستقبل الصين

22.04.2016

تاريخيا، تحدد ثلاث ضرورات وطنية جيوسياسة الصين، وهي: الحفاظ على وحدة الصين كما كانت في عهد اسرة هان، والسيطرة على المناطق الحدودية للبلاد وحماية السواحل. قبل فترة بسيطة، نشر "ستراتفور" معلومات تفيد بأن النمو الاقتصادي في الصين، بالإضافة إلى هذه الضرورات، تمخض عن إهتمام رئيسي جديد للأمن القومي، وهو الحفاظ على طرق التجارة الرئيسية وحماية الموارد والأسواق الخارجية من الحظر الأجنبي. على الرغم من أن هذه الضرورة الجديدة ليس لها أي تأثير على موقف الصين تجاه الدول المجاورة أو تجاه الولايات المتحدة، فهي ستثير في السنوات المقبلة، تغييرات في تكاليف وعائدات مختلف مسارات العمل.

هذه الضرورة تتطلب من الصين اتخاذ موقف أكثر نشاطا، على وجه الخصوص، لتوسيع قدراتها وإنجازاتها البحرية، الأمر الذي سيخلق حتما صراعا مع الولايات المتحدة، التي تعتبر الحد من نمو صين، هدفا وطنيا لها. وسيجب على الولايات المتحدة الرد على جهود الصين، من أجل مواصلة السيطرة على المحيطات لمنع ظهور قوة عظمى إقليمية أخرى.

التوترات بين البلدين أمر لا مفر منه. نتائج هذه التوترات. ستخرج عن نطاق ما يسمى التحليل الجيوسياسي الأساسي، الذي يرتبط بـ"المبادئ الأساسية"، المدعمة بالمعوقات والمتطلبات الهيكلية، التي تحدد مسار السياسة الدولية. المبادئ الأساسية، تؤكد على سبيل المثال، أن الأوضاع في أوروبا في العام 1900، كانت تفيد بحتمية وقوع حرب. لكنها لا تفسر سبب اندلاع الحرب في العام 1914، وليس في العام 1905 أو 1920. وهي أيضا لا تفسر سلوك ألمانيا في الحربين العالميتين. أو رد فعل بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة على تحركات ألمانيا. وعلاوة على ذلك، وفقا للمبادئ الأساسية، طالما أن ثروة وقوة الصين ستستمر في النمو، فعلاقتها مع الولايات المتحدة ستتميز بروح المنافسة والصراع. لكنها لا تتنبأ بما إذا كانت الصين ستبدأ الحرب ضد الولايات المتحدة، أو أن بلدا سيتفق مع الآخر على المدى الطويل، أو أن الجانبين سيتوصلان إلى قاسم المشترك.

الاستراتيجية الكبرى
لفهم هذه الأسئلة، من الضروري الخروج عن أطر القيود القاعدية ومتطلبات المبادئ الأساسية، والنظر في كيفية تقييم الدول لمحيطها، وكيفية تطويرها للسياسات المناسبة. وبعبارة أخرى، يجب أخذ الاستراتيجية الكبيرة بعين الاعتبار، على وجه الخصوص، المتبعة من قبل الولايات المتحدة.

نحن نركز على استراتيجية الولايات المتحدة، بسبب أن تفوقها العسكري وثقلها الاقتصادي ونفوذها السياسي، يعني أن قراراتها، أكثر من أي متغيرات خارجية أخرى، من شأنها أن تحدد مسار تصرفات الصين على المدى الطويل. هذا لا يعني أن الصين ليست مهتمة في بلدان مثل روسيا واليابان والهند، ولكن بما أن الحقائق الجغرافية والتاريخية والاقتصادية الأساسية التي تشكل سلوك الصين، فتحت لقادة البلد إمكانيات المناورة، فإن العامل الأهم في تحديد اختيارهم للاستراتيجية، سيكون الولايات المتحدة الأمريكية. وعلاوة على ذلك، بكونها الدولة الأقوى في النظام العالمي والأكثر حماية في التاريخ، الولايات المتحدة لديها حرية في اختيار استراتيجيتها، أكثر من حرية البلدان الأخرى. ولفهم مستقبل الأمن في شرق آسيا، من الضروري تحديد الخيارات الاستراتيجية المتاحة للولايات المتحدة، وتقييم أثرها المحتمل على نمو الصين.

الاستراتيجيات الأربع الرئيسية
اليوم، يمكن للولايات المتحدة الاختيار من بين المذاهب الأربعة الرئيسية للاستراتيجية الكبرى: الانعزالية، توازن القوى الخارجية، التدخل الانتقائي، والهيمنة خارج الإقليم.

الإستراتيجة الانعزالية، تعني عدم التدخل في القضايا الأمنية خارج نطاق الولايات المتحدة وجيرانها المباشرين. وخيار الانعزالية من غير المرجح أن يكون مقبولا للولايات المتحدة، بسبب أنه باعتبارها القوة الوحيدة في العالم، هي تتحمل مسؤولية حماية الممرات البحرية، التي يعتمد عليها النظام الاقتصادي الدولي. ومع ذلك، فإن هذا المفهوم يحظى بشعبية لدى المواطن الأمريكي، بحيث يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار في السياسة الخارجية الأميركية المستقبلية. التأثير الطويل للإنعزالية، إلى حد كبير ناتج عن قوة منطقها: لأن الولايات المتحدة محمية باثنين من المحيطات وبقوة عسكرية ساحقة (بما في ذلك الأسلحة النووية)، وانصار الانعزالية يتساءلون: لماذا على الولايات المتحدة إرسال مواردها الثمينة لحفظ السلام في المناطق النائية.

الاستراتيجية العالمية الثانية المحتملة، والتي يربطها خبراء العلاقات الدولية عادة بتوازن القوى في الخارج، تكمن في النحو التالي. الولايات المتحدة تنأى بنفسها عسكريا عن المناطق الأخرى، باستثناء الحالات النادرة، مثل احتمال ظهور قوى عظمى محتملة في واحدة من أكثر المناطق الجغرافية الثلاث أهمية: أوروبا، شرق آسيا، والشرق الأوسط. أنصار التوازن الخارجي يعتقدون أن على الولايات المتحدة أن تتدخل، فقط في حال عدم تمكن القوات المساعدة في المناطق الأخرى، من مواجهة القوة العظمى الصاعدة.

الاستراتيجية الأساسية الثالثة هي التدخل الانتقائي. وفقا لهذه الاستراتيجية، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل بنشاط للحفاظ على السلام ومنع صعود القوى العظمى المحتملة في أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، ولكن عليها أن تتجنب التدخل المباشر في مناطق أخرى، أقل أهمية من الناحية الجغرافية السياسية. وخلافا لاستراتيجية التوازن في الخارج، تتطلب استراتيجية التدخل الانتقائي دعم الولايات المتحدة النشط لوجودها الآمن والقوي خارج أراضيها، وليس فقط الإعتماد على الشركاء الإقليميين لردع القوة العظمى المحتملة في أجزاء أخرى من العالم.

الاستراتيجية الأخيرة تحمل اسم الهيمنة العالمية، أو الهيمنة عبر الإقليمية أو استراتيجية الردع الهجومي. جوهر الاستراتيجية يكمن في أن الولايات المتحدة بما أنها "أمة لا غنى عنها"، لديها حق وواجب التدخل للدفاع عن مصالحها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في المناطق أو الصراعات التي لا تمثل تهديدا خطيرا على الأمن القومي الأمريكي. في العقود الأخيرة، كانت هذه الاستراتيجية واضحة في نهج السياسات الخارجية للولايات المتحدة في مختلف المجالات، مثل المحافظين الجدد والأممية الليبرالية، والتي تختلف فيما يتعلق بالمؤسسات الدولية واستخدام القوة العسكرية الأمريكية، ولكن ما يوحدها في نهاية المطاف، هو الالتزام بالحفاظ على السلام في العالم واستخدام الولايات المتحدة النشط للقوة، من أجل تغيير النظام الدولي لجعله يتفق مع تصورها ورغبتها.

منذ نهاية "الحرب الباردة"، كانت الاستراتيجية المذكورة، مع تغييرات طفيفة، أساس السياسة الخارجية الأميركية. ولكن من الضروري أن ندرك أن كل هذه الطرق، على الأقل من الناحية النظرية أو في جزء منها، قابلة للحياة. فعلى عكس منافسيها، الولايات المتحدة لديها مجموعة واسعة نسبيا من نماذج السلوك، لأنه من الناحية العسكرية، وكذلك جغرافيا واقتصاديا، هي أقل تقييدا من غيرها. بالنسبة للولايات المتحدة، لا توجد أساسا عوائق تمنعها من اعتماد سياسة عسكرية واقتصادية أكثر ليبرالية فيما يتعلق بالمنافسين المحتملين، وخاصة إذا كانت الفوائد تفوق التكاليف. وعلاوة على ذلك، في الوقت الذي تحافظ فيه الولايات المتحدة إلى حد كبير على التفوق الاقتصادي والعسكري، هي تحافظ على إمكانية التصرف بشراسة -بغض النظر عن كون الوسائل عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، أو مزيج من الاثنتين معا- للدفاع عن مصالحها على نطاق عالمي. محفزات الولايات المتحدة لاختيار الاستراتيجية، أمر منفصل تمام. من المهم فقط أن نلاحظ أن إمكانية استخدام الاستراتيجيات المخنلفة متاح للولايات المتحدة أكثر من أي من منافسيها، بما في ذلك الصين.

العواقب بالنسبة للصين
من المستحيل التنبؤ بالأسلوب الذي ستتبعه الولايات المتحدة مع الصين في العقود المقبلة، خصوصا ان سلوك الولايات المتحدة تجاه الصين، سيؤثر على القرارات والتحركات للصينية. ولكن يمكن النظر في عدد من السيناريوهات الأساسية.

خطأ سياسة الانعزالية أو التوازن الخارجي، الذي ارتكبته الولايات المتحدة في استراتيجيتها العالمية، من المرجح أن يسهم في تطويق استراتيجي أكثر سلمية للصين. مثل هذا التطويق لن يسمح فقط للصين بالتركيز على حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، ولكن أيضا سيقلل من المخاطر التي قد تنشأ عن استخدام الصين لاستراتيجية أكثر حزما في مجال الأمن الإقليمي في المستقبل القريب. وفي الوقت نفسه، يمكن لمثل هذه الاستراتيجية الأمريكية أن تخفف من شعور انعدام الأمن بالنسبة للصين، الذي يصدر عن تهديدات القوات البحرية الأمريكية. وهذا سيجعلها تتصرف بعدوانية أقل، وسيحول دون استفزاز منافسيها في المنطقة مثل اليابان وفيتنام. بشكل عام، بسبب ضعف سلطة الولايات المتحدة في المنطقة، من شأن الاستراتيجية الانعزالية الأميركية أو استراتيجية التوازن الخارجي، أن تزيد من احتمال صعود الصين خلال 5 إلى 10 سنوات. رغم أن هذا الأمر على المدى القصير، يمكن أن يضعف أمن الصين، ما يقلل من احتمال حدوث صراعات إقليمية.

على النقيض من ذلك، استراتيجية التدخل الانتقائي أو استراتيجية الهيمنة العالمية، التي تتطلب تعزيزا نشطا للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، من المرجح أن تسفر عن ردع وتقييد الصين اقتصاديا واستراتيجيا، وستعرقل تحقيق الصين لأهدافها السياسية والاقتصادية الداخلية، وسيحول دون تحولها إلى منافس مساو للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، هذه الاستراتيجية ستزيد من خطر التوترات، التي قد تتحول إلى صراع مفتوح مع الصين، بين الولايات المتحدة والصين مباشرة، أو بين الوسطاء، مثل كوريا الشمالية ودول جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى.

وبالنظر إلى المبادئ الاستراتيجية الرئيسية الأساسية للولايات المتحدة منذ نهاية "الحرب الباردة" (المتجذرة حتى الآن في المؤسسة السياسية الأمريكية)، فإن الاستراتيجيات المماثلة للتدخل الانتقائي والهيمنة العالمية، هي أكثر شيوعا من استراتيجيات التوازن الخارجي أو الانعزالية، على الأقل حتى الآن . المبادئ الاستراتيجية الرئيسية الأساسية، خاصة تلك التي تنطوي على تكاليف مسبقة كبيرة، مثل الوجود العسكري العالمي الحالي للولايات المتحدة، غالبا ما تتطلب التزامات كبيرة، مع مرور الوقت يصبح من الصعب تجنبها. حتى لو أن الولايات المتحدة تسعى حتما إلى احتواء الصين، وكأنها قوة عظمى إقليمية محتملة -الأمر الذي تقوم به الولايات المتحدة بالفعل- فإن نتيجة هذه المواجهة غير واضحة حتى الآن.

بغض النظر عن الاستراتيجية التي ستختارها الولايات المتحدة تجاه الصين، فإن العواقب ستكون متناقضة. الولايات المتحدة الأقل عدوانية، قد تواجه بسياسة أكثر صرامة من قبل الصين (على سبيل المثال، الأمر يعتمد على تحركات اليابان)، أو قد يكون لهذه الإستراتيجية تأثير عكسي: ضعف قضايا الأمن الخارجي، في الوقت الذي ستوجه فيه الحكومة الصينية قواها لمواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.

تحركات الولايات المتحدة الأكثر عدوانية، قد تسفر عن عواقب مختلطة. خلاصة القول أنه بأخذ العلاقات الجيوسياسية الرئيسية بين الولايات المتحدة والصين بعين الإعتبار، يمكن للعواقب المختلفة أن تحدث أيا كانت طبيعتها. تحديد ما هي النتيجة الأكثر ترجيحا وكيف ستتطور العلاقة بين البلدين، يتطلب متابعة وعناية مستمرتين. وينبغي إيلاء الاهتمام ليس لتصريحات السلطات، ولكن لكيفية تطور البيئة الاستراتيجية التي تعمل فيها.