روسيا وتركيا وإصلاح العلاقات التدريجي
لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سان بطرسبرغ علامة جيدة على تطوير العلاقات الثنائية الروسية التركية.
في يوم 9 أغسطس وفي قصر قسطنطين في سان بطرسبرغ، التقى أخيرا رئيسا روسيا وتركيا، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، بعد أشهر من التوتر. وجرى اللقاء في جو دافئ وودي، وكأنه لم يسبق ذلك اللقاء حوالي سنة من العداوة الحقيقية والاتهامات المتبادلة. ونتيجة لذلك أعلنت كل من روسيا وتركيا الاستعادة الكاملة للعلاقات الودية السابقة واستأنفت المشاريع الإستراتيجية الرئيسية، وأعلن عن الرغبة في زيادة التعاون بين البلدين إلى مستوى جديد.
ومع ذلك، لم يكن هناك كما يبدو أية إعلانات متميزة. فقد اتفق الجانبان على الرفع التدريجي للعقوبات واستئناف بعض المشاريع. لم يتم اتخاذ قرارات بشأن المشاكل الرئيسية مثل الصراع في سوريا، واستعادة نظام الدخول بدون تأشيرة للمواطنين الأتراك، والتعاون السياسي في حل النزاعات في القوقاز والشرق الأوسط، أو التعويض عن الطائرة الروسية التي سقطت في نوفمبر 2014.
منذ بداية الأزمة الروسية التركية، شهدت تركيا اضطرابا كبيرا. فقد واجهت البلاد مشاكل أمنية خطيرة على حدودها الجنوبية ونموا غير مسبوق للنشاط الإرهابي نتيجة لسياسة قصيرة النظر في الشرق الأوسط ونتيجة للأزمة الاقتصادية وسوء العلاقات مع الشركاء التقليديين وخاصة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أدركت أنقرة أخيرا بحلول مارس أن موقف واشنطن في سوريا ليس بذلك التأثير المطلوب. ومما يدل على هذا أيضا الانقلاب العسكري في 15 يوليو والذي كان من بين المتورطين فيه بعض قادة قاعدة انجرليك العسكرية، حيث تنتشر قوات حلف شمال الأطلسي.
بعد الانقلاب، تمكن أردوغان من توجيه غضب السكان ضد خصومه السياسيين الرئيسيين. وقد مكنه ذلك من أن يحرر نفسه من اللوم على تدمير القاذفة الروسية وتحول الاتهام إلى حركة حزم، المنظمة العالمية لفتح الله غولن، وهو زعيم ديني تركي مقيم في الولايات المتحدة.
تمر العلاقات التركية الأمريكية حاليا بأسوأ حالاتها منذ عام 1974. علاقات أنقرة مع أوروبا قد تدهورت أيضا. في عام 2016 أصبح من الواضح بشكل قاطع أن تركيا لن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي. وما أثر على موقف الأوروبيين أكثر، تدفق المهاجرين من سوريا، والذي توجه نحو أوروبا بدعم ضمني من السلطات التركية.
كان لبروكسل دورا في تأجيج الصراع السوري الذي خلق هؤلاء اللاجئين، ولكن وقع اللوم على تركيا في كل شيء. للدلالة على العلاقة المتغيرة بين تركيا وأوروبا، أصدر البرلمان الألماني قرارا بالإجماع بالاعتراف بمأساة عام 1915 واعتبارها إبادة جماعية للأرمن. [في أبريل عام 1915، بدأت الحكومة العثمانية في تركيا بتنفيذ إبادة 1.5 مليون من المواطنين الأرمن، وهو الحدث الذي لا يزال مسألة خلافية عميقة في السياسة التركية اليوم - ملاحظة المحرر]. أردوغان كسياسي محنك، ليس لديه أي خيار في هذا الوضع غير مراجعة سياسته والبحث عن شركاء جدد.
في موسكو، وفي ظل العقوبات الغربية منذ عام 2014، تم قبول مبادرات المصالحة التركية مع الشكر والتقدير. نتيجة لذلك كانت أول زيارة دولية للرئيس التركي بعد الانقلاب إلى روسيا. يرى معظم المحللين أن الزيارة هي محاولة لإثبات للعالم أن لدى تركيا سياستها الخارجية المستقلة.
كانت وسائل الإعلام في العالم تراقب بقلق بالغ التحضيرات للزيارة. كان ينظر في الغرب إلى هذه الزيارة كما لو انها خيانة من قبل تركيا بعد تطلعها الطويل لأن تكون متكاملة في أوروبا. في حين كان ينظر إلى روسيا على أنها عنصر أجنبي, حيث كان الغرب قد وضع آمالا كبيرة على تركيا.
هناك ملحوظة واحدة في اجتماع بطرسبورغ حيث دعا الزعيم التركي بوتين مرارا بصديقي العزيز. وهذا يعتبر إلى حد ما خارج البروتوكول الدبلوماسي للعلاقات بين البلدين، والتي كانت في الآونة الأخيرة على حافة النزاع المسلح.
بقية القرارات كان يمكن التنبؤ بها تماما وكان قد سبق نوقشت من قبل المسؤولين الروس والأتراك لفترة طويلة قبل القمة. وكانت النتيجة الرئيسية هي عودة الطرفين إلى الحوار في إطار الشراكة الاستراتيجية، واستئناف الاجتماعات السنوية على أعلى مستوى سياسي. هذا يفتح آفاقا كبيرة لكلا البلدين من اجل التعاون الاقتصادي والسياسي في المستقبل ولكنه لا يعد شيئا جديدا في الوقت الحاضر.
أعلن بوتين خطة لتطوير العلاقات حتى عام 2019، وهو ما يعني رفع تدريجي للعقوبات وتعزيز الاتصالات في جميع المجالات. هذا يعني أنه لن يكون هناك أي رفع فوري للحظر على الواردات الزراعية التركية، وإطلاق رحلات الطيران أو إدخال نظام التأشيرة الحرة من جانب روسيا. ووفقا لبوتين، ستتم إزالة كافة القيود تدريجيا وبعد تطور العلاقات الثنائية.
ويوضح هذا القرار أن موسكو سوف تراقب عن كثب كيف تحافظ أنقرة على وعودها. وبالتوازي مع توقيع العقود التجارية (والتي تعود بالفائدة على روسيا في المقام الأول)، سوف يتم منح الجانب التركي موقعا في السوق الروسية. أولا، اتفقت تركيا وروسيا ببدء التنفيذ الفوري لمشروع خط أنابيب الغاز "السيل التركي". وهذا يستلزم زيادة تصدير الغاز إلى تركيا وبناء خط أنابيب إلى أوروبا. واتفق الجانبان على استئناف بناء أول محطة للطاقة النووية في تركية، والذي توقف بعد وقوع الحادث مع الطائرة الروسية.
وجرت خلال اللقاء مناقشة مسائل التعاون التقني العسكري أيضا ولكن لم تعلن أية تفاصيل عن ذلك. وعدت تركيا خلال اللقاءات بإلقاء نظرة فاحصة على بعض الأنواع الجديدة من الأسلحة التي كان أداؤها جيدا في سوريا، والعمل على إبرام عقود طويلة الأجل، موسكو ستفتح فرصا جديدة للأعمال التجارية التركية في روسيا.
وفيما يتعلق بأهم مشكلة في العلاقات الثنائية أي بتسوية الأزمة السورية، فيبدو أنه لم يتم منحها الاهتمام الواجب في الاجتماع. ومن المؤكد أنها نوقشت على هامش القمة وحضر النقاش مجموعة أوسع من المشاركين كرئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف. ومع ذلك، لم تظهر تسويات مقبولة خلال الاجتماع باستثناء بعض الوعود ببذل كل جهد ممكن لمحاربة الإرهاب.
في الواقع، لم يكن لدى أي من الجانبين الكثير ليتفاخروا به. فازت مؤخرا تشكيلات مسلحة متحالفة مع تركيا ببعض الانتصارات الإستراتيجية الهامة إلى الجنوب من حلب. واستنادا إلى مصادر سورية، فقد تم القيام بذلك من دون أية مساعدات كبيرة من أنقرة. بعد الانقلاب تم الأخذ بعين الاعتبار اجتماع سان بطرسبرغ القادم، حيث حاولت أنقرة الحد من مشاركتها في الصراع.
في المقابل، خفضت القوات الروسية من دعمها للسلطات السورية في الأشهر الأخيرة. وقد أدى هذا لاستعادة المبادرة من قبل المسلحين وازدياد في الخسائر الروسية. في المقابل حققت القوات الموالية للولايات المتحدة في سوريا - والأكراد في المقام الأول - نجاحات كبيرة في القتال ضد "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، والتي قد تسرع تفكك البلاد على شاكلة الطراز العراقي وقد يؤدي ذلك إلى ظهور دولة كردية مستقلة بحكم الأمر الواقع على الحدود مع تركيا.
ينظر إلى هذا الاحتمال سلبا في كل من روسيا وتركيا لأنه قد يؤدي إلى إطالة أمد الصراع ونمو الإرهاب. موسكو وأنقرة بحاجة إلى سوريا مستقرة قادرة على التعامل بمفردها مع مشاكلها. وهكذا، يمكن للقضية السورية أن توفر فرصة فريدة لتظهير آفاق التعاون الإقليمي الروسي التركي.
قبل يوم واحد من قمة سان بطرسبرغ، عقد قادة أذربيجان وإيران وروسيا اجتماعا قرروا فيه الانضمام إلى القوى التي تقاتل الإرهاب. في سان بطرسبرغ، أعرب بوتين وأردوغان أيضا عن الأمل في استمرار التعاون الثلاثي الذي يشمل روسيا وتركيا وأذربيجان.
كل ذلك ليس سوى خطوات أولى يمكن ان تؤدي إلى خطة إستراتيجية طويلة الأجل لتسوية النزاعات في الشرق الأوسط والقوقاز في شكل ثلاثي (أنقرة وموسكو وطهران)، بمشاركة باكو كموقع محايد.