أردوغان وبوتين: مرحلة جديدة
قبل شهور قليلة اتهم الرئيس الروسي تركيا بـ «طعن بلاده في الظهر» لإسقاطها الطائرة الحربية الروسية في تشرين الثاني 2015. وقررت موسكو معاقبة أنقرة بفرض حظر على استيراد المنتجات الزراعية التركية وتعليق السياحة معها والتضييق على رجال الأعمال الاتراك والعمالة التركية في روسيا. وأشعلت وسائل إعلام البلدين حملات ضارية تبادلت خلالها ما يسمى بنشر «الغسيل القذر». فوسائل الإعلام الروسية لم «تُقصّر» في وصف نظام أردوغان بالنظام الداعم لتنظيم «داعش» في سوريا، وعرضت شرائط فيديو أعدّتها وزارة الدفاع الروسية توضح هذا الدعم، وتوضح أيضاً تعامل أنقرة مع «داعش» في مجال النفط. من جانبها، شنّت وسائل إعلام تركية حملة على الرئيس الروسي، مُعتبرة إياه تجسيداً للحكم التسلطي. لكن كل هذا تلاشى بمجرد اعتذار أردوغان عن حادث الطائرة الروسية. ولعب الانقلاب الفاشل في تركيا دوراً مُعجّلاً لعقد لقاء بين بوتين وأردوغان. فبدلاً من أيلول المقبل على هامش «قمة العشرين» في الصين، تقرر عقد قمة ثنائية بين الرئيسين في التاسع من آب في بطرسبورغ. وتُردد وسائل إعلام روسية أن هذا التعجيل كان بطلب من أردوغان نفسه.
إن قائمة القضايا التي يتعين التوافق أو التقارب بشأنها خلال لقاء الرئيسين مهمة. فلدينا مشروع خط أنابيب الغاز «السيل التركي» الجديد، الذي عُلق تنفيذه ومثّل خسارة للبلدين. فالروس كانوا يراهنون على نقل كمية الغاز التي كانت مخصصة لمشروع «السيل الجنوبي» الذي عارضه الاتحاد الأوروبي، بواسطة خط الأنابيب الجديد عبر البحر الأسود باتجاه الأراضي التركية، منها 14 مليار متر مكعب سوف تبقى في تركيا، فيما تذهب الكمية المتبقية باتجاه اليونان ومنها إلى أوروبا. وتنفيذ هذا المشروع كان سيقلل بشكل كبير من حاجة روسيا إلى أوكرانيا في نقل غازها الطبيعي إلى الأسواق الأوروبية. أنقرة، بدورها، كانت تراهن على أن خط أنابيب نقل الغاز الروسي الجديد إليها وعبرها سيمنحها فرصة التحول مستقبلاً إلى وسيط كبير لبيع الغاز الطبيعي الروسي، حيث سيمر الغاز عبرها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. واليوم تجري محاولات إحياء «السيل التركي» الجديد، حيث زار وفد حكومي تركي موسكو مؤخراً لهذا الغرض. وفي حال الاتفاق بين الجانبين على تنفيذه، فإن هذا سيمثل عاملاً ضاغطاً للبلدين على الاتحاد الأوروبي، بجانب كونه من المشاريع الرابحة لكل منهما.
لا يخفى أن العقوبات الاقتصادية، التي فرضتها روسيا على تركيا، أثّرت سلباً على بعض قطاعات الاقتصاد التركي، منها السياحة والبناء والصادرات الغذائية. وبلغت خسائر تركيا من جراء هذه العقوبات، بحسب تقديرات، نحو 10 مليارات دولار، بجانب تراجع عدد السياح الروس إلى المنتجعات التركية بأكثر من 80 في المئة. وتضررت موسكو أيضاً من العقوبات التي فرضتها على تركيا، وإن بدرجة أقل. فحظر السلع الغذائية والفواكه والخضروات التركية أدى إلى ارتفاع الاسعار الداخلية في روسيا. ويبدو أن البلدين اليوم شرعا في وضع اللمسات الأخيرة لعودة العلاقات الاقتصادية إلى سابق عهدها، عندما وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو 35 مليار دولار.
\
إن الأزمة السورية في تداعياتها المختلفة، بما فيها العامل الكردي ومحاربة الإرهاب، ستكون، من دون شك، على أجندة مباحثات الرئيسين في بطرسبورغ. فمن المعروف أن العامل الكردي يُقلق أردوغان كثيراً، وكان أحد الأسباب الرئيسية في توتر علاقاته مع واشنطن التي تدعم أكراد سوريا في محاربة «داعش». والمشكلة هنا أمام الرئيس التركي، تكمن في أن موسكو أيضاً تعتبر أكراد سوريا قوة رئيسية في محاربة «داعش» وغيرها من منظمات إرهابية في سوريا. ويبدو أن الروس يراهنون كثيراً على أن يكون موقف أردوغان من الأزمة السورية قد جرت عليه تغيُّرات ملموسة خلال الشهور الأخيرة، تسمح باقترابه من الموقف الروسي لحل هذه الأزمة. وستُجري موسكو، في غالب الظن، اختباراً لمدى استعداد أردوغان للتخلي عن مطلب رحيل الرئيس السوري كشرط للانتقال السياسي في سوريا. وسيكشف اللقاء أيضاً ما إذا كان أردوغان سيركز أكثر في الفترة القادمة على مشاكله الداخلية، ولكن بعد ضمان عدم استخدام الورقة الكردية ضد بلاده، تاركاً بذلك مصير الأسد والانتقال السياسي في سوريا لكل من موسكو وواشنطن بالدرجة الأولى.
نعتقد أن الرئيس الروسي لن يفوّت أيضاً فرصة الاستفادة من «برودة» العلاقات بين تركيا والغرب عامة، وبينها وبين «حلف شمال الأطلسي» خاصة. فمصلحة موسكو تتمثل، على أقل تقدير، في «تحييد» مواقف تركيا في ظل توسع هذا الحلف وزيادة انتشار قواته ومعداته العسكرية بالقرب من الحدود الروسية في شرق أوروبا ودول البلطيق وبداية انتشار الدرع الصاروخية الأميركية الأطلسية حول روسيا. فمن المعروف أن تركيا، عضو «حلف شمال الأطلسي»، كانت دائماً تمثل قلقاً للاتحاد السوفياتي السابق، ولا تزال كذلك بالنسبة إلى روسيا. ويرتبط مع ذلك موقف أنقرة الداعم لأوكرانيا بشأن القرم، وما يتردد في موسكو من دعمها لبعض منظمات تتار القرم، التي تعتبرها روسيا مُتطرفة.
إن المرحلة الجديدة للعلاقات بين روسيا وتركيا ستعكس، برأينا، مدى براغماتية البلدين كمدخل لتحقيق المصالح المتشابكة بينهما. بالطبع، ستحاول موسكو الحصول من أردوغان على أقصى ما يمكن من مكاسب سياسية واقتصادية، وربما جيوسياسية أيضاً. فالروس لديهم تصور أن الرئيس التركي ليس بالقوة السابقة، خاصة بعد الانقلاب الفاشل. وربما ستكون العــلاقات المستقبلية بين روســـيا وتركيا محكومة، بدرجة ما، بصيغة مفادها «أن توتر العلاقات التركـــية الغربية، يزيد بالضرورة من تقارب أنقرة مع موسكو». أما إجـــراءات أردوغان داخل تركـــيا، فلن تشـــغل في الغالب موسكو كثيراً، كما هو الحال بالنسبة إلى واشنطن والاتحـــاد الأوروبي.
جريدة "السفير"