قراءة في كتاب: "نظرية عالم متعدد الأقطاب"
مؤلف الكتاب: ألكسندر دوغينّ
العنوان: نظرية عالم متعدد الأقطاب
ترجمة: د. ثائر زين الدين، د. فريد حاتم الشحف
بيروت، الطبعة الأولى، 2023، عدد الصفحات 528.
الناشر: دار سؤال للنشر.
مراجعة: شوكت اشتي.
يوضح المؤلف أهمية نشر كتاب "نظرية عالم متعدد الأقطاب" باللغة العربية، كونه "يُمثّلُ سلاحًا مفاهيميًّا للمرحلة الأخيرة من نضال العالم الإسلامي من أجل الاستقلال عن العمليات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية"، الأمر الذي يُبرز بشكل مباشر أهمية المفاهيم وضرورتها في سياق الصراعات العالمية وتحوّل النظريات من "القطبيّة الأحاديّة" إلى "التعدّدية القطبية"، ما يجعل نظرية تعدد الأقطاب، موضوع الكتاب، تنظر إلى الحضارات بشكل مترابط من جهة، وتجعل من نتائج هذه النظرية ظهورًا فاعلًا جديدًا في العلاقات الدولية، أو بما يُعرف بأنه "الدولة – الحضارة" التي تتخطّى "الدولة القوميّة" للوصول إلى "نتاج تكامل" دول مختلفة تنتمي إلى حضارة مشتركة من جهة ثانية.
من هنا؛ تتوحّد الشعوب لاكتساب الإمكانات الكافية للعمل كقطب كامل. فالدولة لا يمكن بمفردها أن تشكّل قطبًا، ما يجعل تكامل الدول نقطة الارتكاز في نظرية عالم متعدد الأقطاب.
الإطار المفاهيمي
ينطلق المؤلف من بديهية علمية بأنه لا يوجد نظرية كاملة ونهائية لتحديد مفهوم "نظري" لعالم متعدد الأقطاب. لكن من الممكن تلمّس هذا المعنى مع مجموعة من الباحثين وعلماء السياسة. إذا إن نظرية عالم متعدد الأقطاب "تتعارض" مع نظام وستلفاليا - يُطلق هذا المصطلح على معاهدتي السلام التي وقعتا في 15 أيار 1648 و24 تشرين الأول 1648، واللتين أنهيتا حرب الثلاثين عامًا وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ودولة المناطق السبع المنخفضة- المبنيّ على مبدأ سيادة الدول "السيادة المطلقة للدول القوميّة"، وما يفترضه من مساواة قانونية كاملة لجميع الدول ذات السيادة. لكن الواقع العملي يدحض إمكان وجود هذه "السيادة"، وتلك المساواة.
أ - إن نظام "ثنائي القطب"، بعد الحرب العالمية الثانية، "نظام يالطا"، بقي محافظًا شكليًا على الاعتراف بالسيادة. وعلى هذا المبدأ أُسست الأمم المتحدة، وتواجدت ضمن هذا النظام "حركة عدم الانحياز" التي لم تستطع تكوين قوة ثالثة/"قطب ثالث". ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، بدأ تبلور نظام عالمي بديل، فكان نظامًا أحادي القطب، هي لحظة سياسية في هذا المسار، الأمر الذي يعني، مبدئيًا، استحالة استعادة القطبية الثنائية التي كانت سائدة، سواء لأسباب ايديولوجية أم استراتيجية.
لذلك ظهرت "نظريات"، أو لنقل فرضيات، مثل مقولة "نهاية التاريخ"، وكأن العالم أحادي القطب واقع مستقر تمامًا ودائم من جهة، وكأن أميركا "العالمية" هي "الإمبراطورية الجديدة" كاملة الهيمنة من جهة ثانية. وهذا رأي المحافظين الأميركيين الجدد، وإن اُحتفظ شكليًّا واسميًّا بفكرة السيادة التي هي مُعطلة واقعيًّا.
بـ - إن فكرة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب هو النقيض المباشر للنظام الأحادي القطب؛ لأنه يرتكز على مراعاة مواقف الآخرين من جهة، ويرفض هيمنة المركز من جهة ثانية، ويؤكد ضرورة وجود مراكز عدة من جهة ثالثة. وبهذا يصبح من غير الممكن وجود حلّ وسط بين النظامين. غير أن هذا التوصيف النظري لا يُلغي، عمليًا، أمرين: الأول، إن النظام الأحادي القطب هو الترتيب الفعلي للنظام القائم اليوم، من حيث المبدأ. والثاني، إن وجود هذا الترتيب لا يلغي بالمقابل قناعة البعض بإمكان نهاية هذا النظام الأحادي القريبة.
جـ - إن بعض الأميركيين يقترحون مُصطلحًا آخر هو "عالم لا قطبي"، بدلًا من الأحادية القطبية. يعتمد هذا المفهوم على أن عمليات العولمة ستستمر في التبلور والظهور وسيتوسع وجود النموذج الغربي بين جميع دول الأرض وشعوبها، الأمر الذي يجعل الهيمنة الغربية، قيمًا وفكرًا، مستمرة. لكن هذا النموذج سيُقلص دور الولايات المتحدة، كونها قوة وطنية ورائدًا للعولمة، ما سيؤدي إلى تبلور "الحكومة العالمية" التي سيشارك فيها ممثلو جميع البلدان. وهذا ما يدعو إلى تعاون "الدول الديمقراطية بصمت"، وإشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل مثل: المنظمات غير الحكومية، مجتمعات الانترنت. ومن الملاحظ أن هذا التوجّه، مدعوم من عدد من المجموعات السياسية والمالية المؤثرة، منها على سبيل المثال: عائلة روتشليد، جورج سوروس، ما يحوّل البشرية إلى "مجتمع مدني" عالمي بلا حدود، مع الاحتفاظ على الخصائص الثقافيّة لكل حضارة.
إن النظام غير القطبي المقترح لا يتوافق مع نظام العالم متعدد الأطراف، لأن الأخير لا يقبل "الهيمنة الغربية" ولا عالمية القيم التي يدعو إليها، ولأن النظام غير القطبي المقترح يفترض أن النموذج الأميركي "بوتقة الانصهار"، سوف يمتد إلى العالم بأسره. بينما تعددية الأطراف "متعاكسة" مع هذا الطرح، كونها تؤكد ضرورة الحفاظ على الخصائص الثقافية لكل حضارة وتقويتها، لا تذويبها.
د – إن البعض في أميركا، وخاصة في الحزب الجمهوري، وفي عهد أوباما في السياسة الخارجية، مبدئيًا، طرحوا مفهومًا آخر للنظام العالمي وهو عالم متعدد الأطراف/"تعددية الأطراف"، (الأطراف وليس الأقطاب). لكن هذا الطرح يتنافض مع دعوة المحافظين الجدد في أميركا، والتي تعتمد فكرة أحادية القطب، مبدئيًا، من جهة، ويتناقض مع فكرة عالم متعدد الأقطاب من جهة أخرى. يرتكز هذا الطرح على أن الولايات المتحدة الأميركية لا يُفترض في مجال العلاقات الدولية أن تعتمد كليًّا على قواها الذاتية الخاصة، ووضع جميع الحلفاء و"التابعين" أمام الأمر الواقع؛ بل يجب عليها الأخذ في الحسبان مواقف الشركاء وإقناعهم بقراراتها وتبريرها بالحوار؛ أي أن لا تتصرف "ديكتاتوريًا". لكن هذا الطرح، كان شكليًا، لأن سياسة أميركا في الممارسة العملية، خلال هذا الطرح، لم تكن تختلف عن "السلوك" الإمبريالي المباشر.
وعليه؛ فإنّ الإطار المفاهيمي، بما يطرحه من سلسلة من المصطلحات والمفاهيم والنظريات، يقدم لنا السمات الأساسية لنظام متعدد الأقطاب. هذه السمات تنطلق من أن النظام المتعدد الأقطاب هو نقيض جذري للنظام "السائد" المتمثل بالنظام الأحادي القطب، والذي تُعدّ الولايات المتحدة الأميركية رمزه الأول من جهة، ولا يتفق مع فكرة عالمية قيم الغرب من جهة ثانية. وهو في مواجهة مع ما تمثله الهيمنة الأميركية خاصة، والغرب عامة من ادّعاءات في السيطرة و"التفوق" من جهة ثالثة، ولا يعترف بأهلية دول "الشمال الغني" للعمل نيابة عن البشرية من جهة رابعة، وله موقف غير "إيجابي" من فكرة سيادة الدولة التي يمكن تحقيقها عبر "تحالف" مجموعة من الدول، وليس عبر دولة واحدة، كما يُبلورها، شكليًا ونظريًا وغير واقعيًا، "نظام وستفاليا" من جهة خامسة.
لكن، ومع كلّ هذه المعطيات، لا يمكن الادّعاء بوجود "نظرية" للتعددية القطبية/عالم متعدد الأقطاب. وهذا ما يفتح الآفاق حول التنظير في الموضوع المطروح، والنقاش فيه وحوله.
نظريات العلاقات الدولية
إن مراجعة النظريات الأساسية للعلاقات الدولية من المسائل الضرورية للشروع، واقعيًّا، في بسط نظرية العالم متعدد الأقطاب. وعليه؛ يوجد عدة مقاربات أو نماذج لتوصيف العلاقات الدولية، يمكن إدراجها مبدئيًّا ضمن اتّجاهين: الاتّجاه الأول، وضعي، يتضمن ثلاثة نماذج كلاسيكية: الواقعية، الليبرالية، الماركسية الجديدة. والثاني، يتمثل في ما بعد الوضعية.
1 - الاتّجاه الأول، يمكن توضيح نماذجه، باختصار، على النحو الآتي:
أ - الواقعية، يرى الواقعيون أن أساس العلاقات الدولية ومنطلقها هو الدولة الوطنية بكلّ حمولاتها، مثل سلطة ومصالح ووطنية وسيادة.. ومواجهة أي تهديد، منطلقين من نظام وستفاليا وحدود الدولة الوطنية، و"مشككين" بالعولمة وإفرازاتها. وهم في النتيجة يدافعون عن "حقائق الأمس".
ب - الليبرالية، يقف الليبراليون في نظرتهم للعلاقات الدولية على الطريق المعاكسة للواقعية؛ منطلقين من فكرة التغيير نحو الأفضل، والبحث عن نوع النظام السياسي في هذه الدولة. ويرون أن "الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضًا"؛ وبالتالي يمكن التغلب على "الأنانية القوميّة"؛ لأن الدولة بكلّ موجباتها، ليست الفاعل الأساس في العلاقات الدولية. من هنا يركزون على العولمة والمنظمات غير الحكومية، وصولًا إلى "الحكومة العالمية".
جـ - الماركسية الجديدة تتعارض مع النموذجين السابقين، وترتكز على الصراع الطبقي ومناهضة الرأسمالية والبرجوازية التي تتمركز عمليًا في "الشمال الغني"، مقابل بلدان العالم الثالث، حيث تتمركز "البروليتاريا العالمية المحرومة والفقيرة". وبالتالي، العولمة تزيد معاناة البروليتاريا، وقد أسهمت – أي العولمة- وعملت على تهجير البروليتاريا من بلدانها، غير أنها "شر لا بُد منه". لذلك طبقة البروليتاريا سيكون دورها تاريخيًا، كونها "طبقة المستقبل الثورية". من هنا؛ ترى الماركسية الجديدة بلدان شبه المحيط (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) نوعًا من "العالم الثاني"، غير أن هذه ظاهرة موقتة.
2 - الاتّجاه الثاني، أو ما بعد الوضعيّة، تتوافق نظرياته مع المجموعة التي حددها، أ. وندت والمتمثلة في نموذج: المثالية + الكلانية -الكلانية من الكل- ومن حقيقة أن النظرية هي خطاب مستقل يبني الواقع، وليس مجرد انعكاس على المستوى الذاتي للحال الوضعية، سواء في المجتمع والتاريخ والسياسة، وما إلى ذلك.. من هنا؛ يأتي المنهج الرئيسي القائم على "التفكيك"، أي الكشف عن بُنى العمليّة التي تخلق "العالم الموضوعي"، و"الذات" التي تُشكل وتؤسس هذا العالم الموضوعي، وذلك من خلال عملية الادارك ذاتها.
من هنا يستخلص المؤلف عددًا من السمات الأساسية المشتركة في جميع نظريات ما بعد الوضعية، سواء على المستوى المعرفي (أبستيمولوجي)، المنهجي، الأنطولوجي، المعياري من جهة، ويُقارن بين النقاط الرئيسة للوضعيّة، وما بعد الوضعيّة (ص. 74 - 75).
لقد كان مجال العلاقات الدوليّة، ولزمن طويل، "علمًا أميركيُّا". ومع أن دراسته أصبحت أكثر انتشارًا في المؤسسات والمعاهد العلميّة حول العالم، غير أنه ما يزال يحمل "بصمة" الوسطيّة الغربية عامة، والأميركية خاصة. وهكذا تُنقل المفاهيم الغربية النموذجية للديمقراطية والدمقرطة والحرية والمساواة إلى مجتمعات غير غربيّة. كما لو كانت هذه المفاهيم "شيئًا عالميًّا". لذلك ومن أجل تجاوز حدود الحضارة المتمحورة حول الغرب، يجب الوقوف على مسافة من جميع المفاهيم النظرية واستراتيجياتها المنهجية من جهة، ومعارضة هذه الوضعية السائدة حول النظريات الغربية في العلاقات الدولية من جهة ثانية. مع الإشارة إلى أن هذه المعارضة، يمكن أن تكون جزئية للنظريات ما بعد الوضعيّة. وفي الأحوال كافة، مسار هذا الاتّجاه يحتاج إلى المزيد من الدقة والاختصاص.
الأسس النظرية
إن بناء نظرية عالم متعدّد الأقطاب، يبدأ من تحليل عميق لنظام العلاقات الدولية. إذ إن نظريات ما بعد الوضعية تسعى لتجاوز "المركزية العرقيّة" و"تفكيك إرادة القوّة" القائمة على خطاب هيمنة الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة، ودحض مزاعم الغرب بكونه المنطلق، ومن دون هذا المنحى لن تصبح التعددية القطبية حقيقة.
يدّعي الغرب شمولية نظامه وقيمه وعالمية حضوره، معتمدًا إرادة القوّة تحت شعار "التنوير" و"التقدم" والعلمانية والعقل والحرية ودكتاتورية التكنولوجية.. ودعاة الهيمنة البارزون هم ممثلو الواقعية والليبراليّة. غير أن الأمر أكثر تعقيدًا مع النظرية الماركسية للعلاقات الدولية الخاصة؛ خاصة لجهة تماثلها مع المركزية الأوروبية للعصر الحديث، والخطاب الغربي، وحصر مسار التطور بمنطق واحد للتاريخ. وهذا يتناقض مع نظرية عالم متعدد الأقطاب.
لذلك؛ تبرز نظريات ما بعد الوضعية في تكوين نظرية العالم المتعدد الأقطاب، المنطلقة من تفكيك الهيمنة الغربية، كونها حضارة بين حضارات أخرى. ويظهر دور صموئيل هنتنغتون في رسم تخطيط لنظرية عالم متعدد الأقطاب، في خطوته المنهجية حول الحضارة/الحضارات فاعلًا أساسًا لعالم المستقبل. وبالتالي، فإن عدد الأقطاب في النظام العالمي يكون بقدر ما توجد حضارات، أي أن هناك تحولًا نوعيًا من فكرة الدولة القوميّة، كونها فاعلًا في النظام العالمي إلى الحضارة. غير أن هذا لا يُلغي إمكان "الصراع" أو "الصدام" بين الحضارات، الأمر الذي يتطلب مفهومًا أكثر وضوحًا لماهية الحضارة.
الحضارة، ضمن هذا التصور، ليست دولة ولا نظامًا ولا طبقة ولا مجتمعًا ولا مجموعة من الأفراد، هي مجتمع جماعي توحّده المشاركة في التقاليد نفسها: الروحية والتاريخية والثقافية والعقلية والرمزية التي غالبًا ما تكون دينية.... ويستوعب هنتنغتون مفهوم الحضارة، تمامًا كما يستوعب مفهوم الثقافة. من هنا؛ يتحدث عن ظاهرة "التحديث من دون التغريب"، السائدة أساسًا لعالم متعدد الأقطاب من جهة، ومحدّد من جهة أخرى، الحضارات المُقدر لها في وقت تاريخي معين، كي تصبح أقطابًا لعالم متعدد الأقطاب. فقد قسّمها إلى نوعين: الأولى، حضورها حتمي بلا منازع، عددها ستة، وهذه الحضارات هي الغربية، الأرثوذكسية (الأوراسية)، الإسلامية، الهندوسية، الصينية (الكونفوشيوسية)، واليابانية. والثانية هي حضارات محتمل لها أن تصبح أقطابًا لعالم متعدد القطاب، عددها ثلاثة، وهي: حضارة أميركا اللاتينية، البوذية، الإفريقية.
طبيعة الحضارات
يشرح المؤلف "طبيعة" كلّ من هذه الحضارات الغربية، ويراها الأكثر رسوخًا في الادّعاء بالفرادة العالمية الأرثوذكسية، أصلها أبيض وهي استمرار للجغرافيا السياسية للإمبراطورية البيزنطية التي كانت قوة عالمية، لكن تفصل بينها حدود الدولة القوميّة. ومع مسار التطور؛ أصبح لدى النخب والدوائر الفكرية فيها دراية متزايدة بالاختلافات بين أنظمة قيمها مع الحضارة الغربية، ما سبّب المزيد من المزاج المعادي للغربز وبينت أحداث 9 أيلول 2011، مدى إمكان أن يُصبح الصراع عُنفيًا. الهندوسية هي حضارة على وجه التحديد، الصينية لا تحدّد دينيًّا، بل توحدها ثقافة أخلاقية مشتركة وتركيبتها السكانية المثيرة للإعجاب هي مورد سياسيّ واقتصادي هائل، حيث حولهّا إلى منافس اقتصادي للغرب، واليابانية بالرغم من اندماجها في منطقة الغرب المعولم هي فريدة من نوعها.
أما الحضارات المحتملة، فتتوزع على النحو الآتي: أميركا اللاتينية المتعددة الثقافات تتمتع بإمكانات ديموغرفيّة وموارد سياسية واقتصادية كبيرة، البوذية ضبابية وغير واضحة، الإفريقية نظريًا يمكن أن تعي وحدتها.
نقد وحجج
إن مقولة هنتغتون حول الحضارات لبناء عالم متعدد الأقطاب (النهج الحضاري) تعرضت للنقد، سواء لجهة إن العولمة والتغريب والتحديث بمرور الوقت ستقضي على التنوعّات الثقافية والحضارية، أو لجهة أن هذه المقولة مشكوك فيها وغير واقعية من جهة ثانية. خاصة وأن هنتنغتون، هو جزء من الغرب ونخبته الفكرية. هذه الحجج النقدية، وغيرها، في النظر إلى الحضارات عنصرًا فاعلًا في العلاقات الدولية، ليست على الإطلاق عودة إلى ما قبل الحداثة، أي أن الحضارات هي إدخال الاختلاف النوعي في واقع العلاقات الدولية. وبالتالي هي ليست بالضرورة صراع - كما عند هنتنغتون- لأنه من المحتمل وجود حوار بين الحضارات، كما أصر الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي.
من هنا؛ يجب خلق الحضارات والانتقال من الحضارة بما هي واقع ثقافي اجتماعي إلى الحضارة العنصر الفاعل في عالم متعدد الأقطاب. وهذا المطلوب يمكن أن تقوم به ثلة أو مجموعة أو نخبة فكرية في العالم غير الغربي لبناء التعددية القطبية وتحويل الحضارة إلى مفهوم فاعل وهادف، مع ما يتطلبه هذا من توضيح، على النحو الآتي: أولًا، إن "حدود الحضارات" (الحدود بين الحضارات)، ليس بمعنى الحدود بين الدول. ثانيًا، إن تأكيد فكرة "التكامل" بين هذه الحضارات هو عمليًا معاكس لفكرة الهيمنة الغربية وفكرة "العولمة".
هذا التوجّه (النهج الحضاري) يوّلد عالمًا متعدد الأقطاب قائمًا على توازن قوة الحضارات المكونة لهذا العالم، أو ما يمكن تسميته بـ "نظام الفضاءات الكبير". ضمن هذا التوجّه لتأصيل الإطار النظري، لنظرية عالم متعدد الأقطاب، يناقش الكتاب موضوع المراجعىة، وبالتفصيل، عددًا من النظريات ليكشف ملاءمتها للنظرية المطروحة. وهذه "النظريات" هي: الواقعية، الليبرالية، المدرسة الانجليزية، الماركسية، الماركسية الجديدة، النقدية، ما بعد الحداثة، النسوية، علم الاجتماع التاريخي، المعياريّة، البنائيّة ومسألة السلطة والقرار والنخبة والجماهير.. ليصل إلى فكرة الحوار وصراع (الحرب) الحضارات وموقع الدبلوماسية والاقتصادية ووسائل الإعلام.. ما يؤسس لإعطاء الفكرة/المصطلح معناه المحدّد من جهة، ويوضح من جهة ثانية محتوى مفهوم "التعدديّة القطبيّة" ومبادئها الأساسية.
الجغرافيا السياسية/ جيوسياسة
الجيوسياسة ترتبط بالمكان والمساحة المكانية، وهي كمكان جغرافي تبدو "ثابتة" لا تتغير، الأمر الذي جعل "المنهج المكاني" حاضرًا بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر. من هنا؛ مراعاة السياق الجغرافي بدأ يدخل، تدريجيًا، في نظام التحليل السياسي في القرن العشرين، بالرغم من مقاومة علماء السياسة لهذا التوجّه. وعليه؛ يجري التمييز ضمن النهج الجيو سياسي، على أساس الثنائية بين اليابسة والبحر وبين ازدواجية الشعوب وما بين البدويّة والاستقرار وبين الرُحّل والحضر وبين الغابات والصحراء.
غير أن القرن العشرين أغنى التحليل السياسي، في البُعد الجيوسياسي، وأحدث تنظيمًا جديدًا للعمليات التاريخية، الأمر الذي أدى في نهايته إلى التفلت من إضفاء الطابع الفردي على العملية التاريخية (من نخب، طبقات...)، وظهر تصنيف "جديد"، يفرز ثلاث مراحل نظرية. هذا التصنيف لا يقل عُمقًا عن العامل المكاني، غير أنه قادم من أعماق الزمن نفسه، ويسهم في تحديد مسارات التطور التاريخي. وهذا ما يمكن تسميته بـ "النماذج الزمانية" وهي: - التقليدي ما قبل الحداثة، الحديث/الحداثة، والمجتمع ما بعد الحداثة، وهذا التقسيم يتوافق مع المصطلحات الاقتصادية: مجتمع ما قبل الصناعي/زراعي، مجتمع صناعي، مجتمع ما بعد الحداثة.
في إطار النقاش حول عالم متعدد الأقطاب، كونه مشروعًا "مفترحًا"، تظهر بوضوح ما يسميه المؤلف "حضارة اليابسة" منطلقًا لتوصيف مفهوم العولمة وعمليتها التي حققت سلسلة من الانتصارات في المعارك، ولكن العولمة لمّا تصل، حتّى الآن، إلى النصر النهائي في الحرب.
الطريق الجيوسياسيّة، تنظر إلى الدولة على أساس أنها نجاح إحدى القوتين العالميتين، الأمر الذي يجعل التعدديّة القطبيّة الجواب عن تحدي العولمة. بالرغم من كلّ ما يتضمنه مفهوم التعدديّة التقطبيّة من إتساع، وما يتطلبه من بحث ودراسات شاملة، غير أن التعدديّة القطبية تنطلق من الثقافة الغربية والقيم الغربية ولا تمثل سوى مجموعة واحدة من القيم، من بين الكثير من القيم الأخرى في العالم، وثقافة واحدة من بين مختلف الثقافات الأخرى في هذا العالم. وبالتالي، فإن المرحلة الرأسمالية ليست مرحلة ضرورية في مسار تطوّر المجتمع/المجتمعات، ما يجعل رؤية التعددية القطبيّة مختلفة تمامًا في مقاربة اليابسة/ الأرض عن رؤية الثنائيّة القطبيّة" التي كانت سائدة.
لقد بُني العالم الثنائي القطب على المبدأ الايديولوجي: اشتراكي/ رأسمالي، فكان إطارًا بين متنافسين في مسار التنوير والتقدم. وهذا، برأي المؤلف، لا يمكن تخيله في التعددية القطبية التي تُعدّ اتّجاهًا موجّهًا لجيوسياسة اليابسة نحو المستقبل.
المنطلقات والأصول
إن التعدديّة القطبيّة هي إحدى الأشكال الاستراتيجية النشطة لـ "حضارة اليابسة" التي تعمد العوالم إلى تهميشها. من هنا تعدّ "الأوراسيّة" الجديدة إطارًا كوكبيًا هو الأقرب إلى نظرية التعددية القطبيّة، بما يتضمنه من قبول تعدد القيم ورفض إذلال الثقافات الأخرى والإقرار بحقوق الشعوب والعدالة الاجتماعية.... كما يستعرض الكتاب موضوع المراجعة، بتفصيل دقيق وإسهاب، مجموعة من النظريات والمدارس والأفكار لتوضيح "الأصول الايديولوجية لفلسفة التعدديّة" وأسسها الاستراتيجية والخطوات العملية لبنائها ومأسستها.
صراع دائم
إن المبارزة الكونية بين الولايات المتحدة/الأطلسية وروسيا/الأوراسيّة جسدت ازدواجية: البحر/اليابسة. كما أن انهيار الاتحاد السوفياتي وتخلّي الاتحاد الروسي عن الايديولوجيّة الشيوعيّة، وعدّه بلدًا "ديمقراطيًا"، هو إعلان واضح وصريح بتفوق الجيوسياسة (الجغرافيا السياسية) على الايديولوجيا. لكن الاتحاد الروسي لم يستطع الاندماج، كما توقع، في "سكن جماعي كوكبي" واحد، أو مع "الوطن الأوروبي المشترك". وبالتالي، لم تنفع محاولات "غورباتشوف" و"يلتسن" الداعين للإصلاح والاندماج مع "الغرب". ففي حين تمزق الاتحاد السوفياتي بقي الغرب موحدًا.
من هنا، كشف المؤلف "الخطأ التاريخي" عند غورباتشوف ويلتسن في الاتحاد السوفياتي السابق، واللذين اعتمدا "المنهج الأحادي" و"الحصري"، وغير النقدي لمسار التقدم. كما أنهما لم يعتمدا على مراعاة الموجود في المجتمع، لجهة استقرار "النماذج التاريخية"، وبخاصة استقرار نموذج "المجتمع التقليدي". بمعنى آخر، اعتقدا إن المجتمعات يمكنها وبسرعة الانتقال من المستوى الزراعي إلى المستوى الصناعي، ثمّ إلى مستوى ما بعد الصناعي.
لقد استطاع الاتحاد السوفياتي السابق "اللحاق"، من حيث المبدأ، بركب القرن الماضي، لكنّه عندما اتضح، عمليًا، أن هذا لم يكن ناجحًا، سقطت موسكو في اليأس، وسعت إلى الغرب على ركبتيها راضخة طالبة المساعدة في تحديث البلاد. غير أنّ هذا لم يتحقّق.
من هنا؛ فإن عملية الانتقال من مجتمع صناعي إلى مجتمع ما بعد صناعي هو ليس استمرارًا كميًا خالصًا للتنمية، لكنّه مرحلة جديدة تمامًا، لها تفاصيلها النوعية. ويُظهر الرسم البياني ص. (357)، صورة للنماذج التاريخية والأقطاب الجيوسياسة التي تصف توازن القوى في بداية القرن الحادي والعشرين. لذلك؛ المواجهة بين "النظام الأطلسي"/الولايات المتحدة الأميركية و"النظام الأوراسي"/الاتحاد السوفياتي/الروسي. هو صراع بين نظامين ومشروعين مختلفين، هما البر والبحر، أي أن هذا الصراع هو تجسيد حيّ لصراع اليابسة والبحر، وهو سيمتد إلى أجل غير مسمى.
بالنتيجة، حلت الحداثة، "المجتمع الحديث"، محل "المجتمع التقليدي"، مجتمع ما قبل الحداثة. لكن يظهر اليوم نموذج جديد، يسمّى عادة "ما بعد الحداثة". وهذا ما يمكن أن نعدّ انتصارًا للاتّجاه الليبرالي في مواجهة كلّ من النموجين التاريخيين، سواء نموذج إيديولوجية التحديث القوميّة الفاشية أو نموذج ‘يديولوجية التحديث الاشتراكية/الماركسية. لكن السؤال المركزي يتمثل في الآتي: هل هذا الانتصار يُعدّ مستقرًا ودائمًا؟ وإلى أي مدى ستبقى هذه الهيمنة؟
ملاحظات تأسيسية
إن الكتاب، موضوع المراجعة، غني جدًا، لما يتضمنه من معطيات، وأفكار وتوجهات.... فقد يندرج، مجازًا في فضاء الفلسفة السياسية أو تحديد مسارات الاسترايجيات أو رسم السياسات الكبرى... غير أنه، في الأحوال كافة، فيه رؤية ثاقبة في قراءة الواقع، ومحاولة استشراف المستقبل من جهة، ومدخل لحوارات متداخلة من جهة ثانية، الأمر الذي يجعل نقله للغة العربية مسألة على قدر كبير من الأهمية. من هنا، واستنادًا إلى هذه الأرضية، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات الأولية والمتداخلة والجد مختصرة، على النحو الآتي:
- الولوج إلى عالم متعدد الأقطاب، ليس بالأمر السهل أو السلس، كون الفكرة، بحد ذاتها، ما تزال بحاجة إلى المزيد من التدقيق والبحث، وتطرح العديد من التساؤلات حول مدى إمكان تجسيدها.
- إن عالم متعدد الأقطاب، يبدو، وإلى حد ما، أقرب " للتجربد"؛ خاصة وإن "المُشترك" بين هؤلاء الأقطاب لا يبدو أنه "واضح"، من جيث المبدأ. فهل مناهضة الهيمنة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، كافيًا؟ وكيف؟ وما هي المشاريع لتقاطع هذه الأقطاب لتقوية مسار رفض الهيمنة الغربية؟
- إن فكرة الدولة التي تبدو "مرتبكة" في ما كان يُعرف، بـ"العالم الثالث"، بحسب التتقسيم القديم للعالم (الأول، الثاني، الثالث)، ازدادت هشاشة وخواءً وفسادًا وتبعية....حيث فشل العالم الثالث في ترسيخها. فهل يمكن "تجاوزها"؟ وما هو البديل؟ وما هو موقع هذه الدولة في عالم متعدد الأقطاب؟ وما هو شكل هذه الدولة؟
- إن فكرة السيادة (سيادة الدولة) غدت كلامًا شفويًا. وهذه مسألة لا لُبس فيها. وإشارة الكتاب إلى هذه المسألة كانت واضحة ومميزة. لكن كيف يمكن للدول إقامة التوازن بين السيادة وفكرة عالم متعدد الأقطاب؟
- إن الحضارة/الحضارات عامل أساس في بلورة عالم متعدد الأقطاب، كما وضّح الكتاب. لكن هذه "الحضارات" المذكورة في متن الكتاب تحمل في بنيتها ومساراته وهياكلها العديد من التناقضات. فكيف يمكن أن تسهم في قيام عالم متعدد الأقطاب؟
- إن ما قدمه الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، اخترق العالم والعولمة نموذجه، فكيف يمكن "التفلت" من هذه الهيمنة؟ وما البدائل في عالم متعدد الأقطاب؟ هنا قد تكون فكرة المقاومة، بكلّ أشكالها، إحدى أهم الطُرائق للمواجهة، سواء داخليًّا لبناء الدولة أو للتصدي للهيمنة الخارجيّة.
وفي الحالين هذا يطرح سؤالًا عن العلاقة مع الأقطاب في العالم المتعدد الأقطاب؟