نكبة فلسطين: ماذا تبقّى في الذاكرة العربية؟
تمرّ هذه الأيام الذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين، تلك النكبة التي لا تزال ماثلة في الضمير والعقل العربي، لا يزال الضحايا يدفعون الثمن، ولا يزال المحتلّ قائماً فوق الأرض بل ويتمدّد، ويزداد توحشاً عسكرياً وسياسياً في المنطقة والعالم.
وفي الذكرى الـ68 تعيش أغلب البلاد العربية حالة نسيان أو تناس واضحين لفلسطين، فلم تعد هي بالنسبة للجميع القضية المركزية، واحتلت نتائج زلزال ما سُمّي "الربيع العربي"، مكانها، وانشغل الجميع بمشاكله وحروبه الداخلية وحلت "داعش" التي نسمّيها إسرائيل العربية محلّ "إسرائيل" في العداء وحتمية المقاومة!
دعونا في هذه الذكرى للنكبة نعيد البحث في أبجديات الصراع وأصوله، وفي ظني لن يتمّ ذلك دون البحث في حقيقة ما جرى في حرب العام 1948، ولماذا حدثت النكبة رغم الجيوش العربية السبعة التي احتشدت؟ ولماذا لا تزال النكبة حاضرة في الواقع العربي بنتائجها وحقائقها؟
في البدء كان وعد بلفور
في البداية يحدّثنا التاريخ أنّ جذور حرب 1948 – النكبة، بدأت منذ العام 1917، عام وعد بلفور، ثم جاءت الحلقة الثانية عام 1920 – عندما وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري في نهاية حزيران/يونيو 1920، ثم حوّلتها إلى الحكم المدني، وعيّنت اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أول "مندوبا ساميا" لها على فلسطين (1920 – 1925)، حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانياً على الأرض، وتابع المندوبون "السامون" المسيرة نفسها، غير أنّ أكثرهم سوءاً ودهاء ونجاحاً في التنفيذ كان آرثر واكهوب (1931 – 1938)، حيث وصل المشروع الصهيوني في عهده إلى درجات خطيرة، ويذكر المؤرّخون أنّ فلسطين عاشت تحت الاحتلال البريطاني مؤامرة رهيبة، فحرم أهل فلسطين من بناء مؤسساتهم الدستورية وحكم أنفسهم، ووضعوا تحت الحكم البريطاني المباشر، وأعطى المندوبون السامون صلاحيات مطلقة.
وضيّقت بريطانيا على الفلسطينيين سبل العيش وكسب الرزق، وشجعت الفساد، وسعت لتعميق الانقسامات العائلية والطائفية وإشغال أبناء فلسطين ببعضهم، وفي المقابل شجعت الهجرة اليهودية، فزاد عدد اليهود من 55 ألفًا (%8 من السكان) سنة 1918 إلى 650 ألفًا (31% من السكان) سنة 1948.
ورغم الجهود اليهودية البريطانية المضنية للحصول على الأرض، فإنّ اليهود لم يتمكّنوا من الحصول سوى على نحو 6.5% من فلسطين بحلول عام 1948، وكان معظمها إما أراضي حكومية أو أراضي باعها إقطاعيون غير فلسطينيين كانوا يقيمون في لبنان وسورية وغيرهما من البلاد العربية، وقد بنى اليهود على هذه الأراضي 291 مستوطنة.
وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات البريطانية تسعى حثيثاً لنزع أسلحة الفلسطينيين، وتقتل أحياناً من يحوز سلاحاً نارياً، بل تسجن لسنوات من يملك رصاصات أو خنجراً أو سكيناً طويلاً، فإنها غضّت الطرف، بل شجّعت سراً تسليح اليهود لأنفسهم، وتشكيلهم قوات عسكرية وتدريبها، بلغ عددها مع اندلاع حرب 1948 أكثر من سبعين ألف مقاتل (64 ألف مقاتل من الهاغاناه، وخمسة آلاف من الأراغون، وألفين من الشتيرن… وغيرها)، وهو عدد يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش العربية السبعة التي شاركت في حرب 1948.
المذابح والجولات الأولى
أما بالنسبة لتسلسل وقائع الحرب ومقدّماتها فيحدّثنا التاريخ الذي يجب أن يُلمّ به الجميع اليوم في ظلّ هذا "الربيع العربي" الكاذب الذي أنسانا فلسطين، يحدّثنا فيقول بأنّ الهزيمة عام 1948 تمّت على النحو التالي:
1 ـ صدور قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين يوم 29/11/1947، حين وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار رقم 181 الذي يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية، ورحب الصهاينة بمشروع التقسيم، بينما شعر العرب والفلسطينيون بالإجحاف.
2. تصاعدت حدة القتال بعد قرار التقسيم، وفي بداية عام 1948، تمّ تشكيل جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وبحلول كانون الثاني/يناير 1948، كانت منظمتا الأراغون وشتيرن قد لجأتا إلى استخدام السيارات المفخخة (4 كانون الثاني/يناير ام تفجير مركز الحكومة في يافا، ما أسفر عن مقتل 26 مدنياً فلسطينياً)، وفي آذار/مارس 1948، قام المقاتلون الفلسطينيون غير النظاميين بنسف مقرّ الوكالة اليهودية في القدس، مما أدّى إلى مقتل 11 يهودياً وجرح 86.
3. استشهاد عبد القادر الحسيني في القسطل يوم 8/4/1948.
4. مذبحة دير ياسين يوم 9/4/1948، التي قتل فيها 253 فلسطينياً وهجر الباقون مع تدمير البيوت والحقول، الأمر الذي أصاب العديد من المدن والقرى بالرعب فسقطت تباعاً - طبريا وحيفا يوم 19/4/1948، بيسان وصفد ويافا 22/4/1948، ثم توالى السقوط…
5. في 12 نيسان/أبريل 1948، تقرّ الجامعة العربية بزحف الجيوش العربية إلى فلسطين، واللجنة السياسية تؤكد أنّ الجيوش لن تتدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع في 15 أيار/مايو، وكان الانتداب البريطاني على فلسطين ينتهي بنهاية يوم 14 أيار/مايو 1948، وفي اليوم التالي أصبح إعلان قيام "دولة إسرائيل" ساري المفعول، ومباشرة بدأت الحرب بين الكيان الجديد والدول العربية المجاورة.
6. المعارك في فلسطين بدأت في أيار/مايو 1948، بعد الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان العصابات الصهيونية قيام "دولة إسرائيل" على المساحات الخاضعة لسيطرتها في فلسطين، وتدفقت الجيوش العربية من مصر وسورية والعراق وإمارة شرق الأردن إلى فلسطين، ونجحت القوات العربية في تحقيق انتصارات كبيرة،
وفي السادس عشر من أيار/مايو 1948، اعترف رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان بـ"دولة إسرائيل" ودخلت أول وحدة من القوات النظامية المصرية حدود فلسطين وهاجمت هذه القوات مستعمرتي كفار داروم ونيريم الصهيونيتين في النقب، كما عبرت ثلاثة ألوية تابعة للجيش الأردني نهر الأردن إلى فلسطين، واستعادت القوات النظامية اللبنانية قريتي المالكية وقدس على الحدود اللبنانية وحرّرتهما من عصابات الهاغاناه الصهيونية.
7. استمرت المعارك على هذا النحو حتى تدخلت القوى الدولية وفرضت الهدنة الأولى من 11/6 إلى 8/7/1948، ثم اشتعلت المعارك لتعقد هدنة ثانية من 18/7 إلى 10/11/1948، ثم عاد القتال ليستمرّ حتى 7 يناير/كانون الثاني 1949، موعد الهدنة الثالثة، وما بين هذه الهدن كانت "إسرائيل" تتسلح وتتسع وتقوى والعرب يتفرّقون ويتراجعون لتنتهي الحرب بتوقيع مصر لاتفاق هدنة في 24 شباط/فبراير 1949، تلاها لبنان 23 آذار/مارس 1949، ثم الأردن في 3 نيسان/أبريل 1949، فسورية 20 تموز/يوليو 1949، ودائماً كانت مصر هي البادئة سواء بالحرب أو بالاستسلام وحتماً سيتبعها العرب حتى يومنا هذا!.
أكبر نتائج الهزيمة المباشرة
كان من نتائج هذه الحرب سهولة احتلال الصهاينة لأغلب مدن الشمال الفلسطيني مع اللد والرملة والنقب، الذي كان يشكل لوحده نصف مساحة فلسطين، وذلك نتيجة انكسار الجيوش العربية بعد الأشهر الستة الأولى من القتال، التي عانت فيها العصابات الصهيونية، ثم استطاعت أن تستعيد زمام المبادرة وتنتصر نتيجة التفرّق العربي وعدم التنسيق بين الجيوش، وعدم الاستعداد الجيّد للقتال وغلبة القرار السياسي على القرار العسكري وغيرها من الأسباب "الدروس" التي لم نستوعبها حتى يومنا هذا 2016، ولا زلنا نقع في ذات الأخطاء والخطايا!
من النتائج المؤلمة أيضاً لهذه الحرب إجبار حوالى 800 ألف فلسطيني على الفرار والهجرة القسرية من ديارهم من أصل مليون ومائتين وتسعين ألف فلسطيني أي نحو 60 من أهل فلسطين، وذلك نتيجة ارتكاب الصهاينة 34 مذبحة مروّعة، أثرت سلباً على روحية الصمود الفلسطيني، وكان من النتائج الخطيرة لهذه الحرب المؤلمة سقوط 78% من أراضي فلسطين في أيدي الصهاينة، فضلاً عن دمار قرابة الـ400 قرية ومدينة مع تهويدها بالكامل.
هذا ما جرى… والذي ينبغي أن يظلّ محفوراً في الذاكرة العربية، فهذه الحرب لا تزال مستمرة، ولم تنته بعد، رغم مرور 68 عاماً، كلّ الشواهد والمؤامرات والداعشيات "إسرائيلية" المنشأ والوظيفة وإرهابها من سورية إلى سيناء وليبيا، يؤكد ذلك، وفي المقابل الانتفاضات المستمرة للشعب الفلسطيني وآخرها انتفاضة السكاكين تؤكد ذلك، رغم انشغال العرب بـ"ثورات ربيعهم" التي نسيت فلسطين تماماً! ترى هل نقدر عربياً وإسلامياً على الفهم… ثم على المواجهة الجادّة؟ ذلك هو السؤال!