ناغورنو قرة باغ: قراءة في سلوكيات الأطراف التي تحرك الأزمة من جديد
تعني كلمة ناغورني بالروسية جبال أو مرتفعات وتعني كلمة قرة باغ الحديقة السوداء ولذلك يمكن ترجمة الاسم ب "جبال الحديقة السوداء". يقع إقليم ناغورنو قرة باغ ضمن الأراضي الأذرية وتبلغ مساحته 4800 كم2 ويقطنه حوالي 145 ألف نسمة غالبيتهم من الأرمن الذين ينتمون إلى الكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية.
بدأ الصراع على هذا الإقليم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانفصال الجمهوريات السوفيتية القديمة عن الاتحاد السوفييتي، ومن تلك الدول التي حصلت على استقلالها أرمينيا وأذربيجان المتجاورتان، واللتان أصبحتا بعد حصولهما على استقلالها تنتميان إلى مجموعتين دولتين مختلفتين وانتماءات مختلفة، وربما كان هذا الانتماء الجديد والاختلاف في التموضع هو ما زاد من تسعير نيران الحرب بينهما وليس فقط الخلاف حول إقليم ناغورنو قرة باغ.
لأذربيجان علاقات قوية بتركيا وصلت إلى درجة متطورة من التعاون المشترك في جميع النواحي العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، إلى درجة جعلت الرئيس الأذري السابق حيدر علييف يصرح بأن الأذر والأتراك شعب واحد في دولتين.
أرمينا التي تنظر إلى تركيا كدولة ذات تاريخ معاد للأرمن وتطلب منها اعتذارا على ما سببته للشعب الأرميني من آلام وخاصة عمليات الذبح والتهجير التي قامت بها السلطنة العثمانية، تقف في الجانب الآخر وترى في الدولة التركية خصماً يستمر في إظهار العداء لأرمينيا وشعبها.
الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يقدمون الدعم لأذربيجان على قاعدة ثابتة لديهم وهي العمل الدؤوب لزعزعة الأمن والاستقرار على حدود روسيا في جميع الأماكن، حيث تمثل منطقة النزاع حول إقليم ناغورنو قرة باغ ما تمثله من أهمية إستراتيجية على حدود روسيا الجنوبية وفي منطقة بحر قزوين.
روسيا الاتحادية هي الدولة التي تسعى بالمقابل إلى إطفاء النيران في حديقتها الجنوبية بوسائل دبلوماسية لتأمين الاستقرار في هذا المحيط الاستراتيجي الهام والذي يشكل جزءا مهما من أوراسيا التي تملك الكثير من المقومات الطبيعية والتاريخية لتشكيل فضاء آسيوي يقدم خدمات متنوعة لجميع شعوب هذا الفضاء ويؤسس لعلاقات قوية بين أبنائه.
نرى أن هذه المقدمة التاريخية ضرورية لنستطيع فهم ما سنوضحه لا حقاً حول أسباب الصراع الذي اندلع أخيرا في إقليم ناغورنو قرة باغ في 2/4/2016. ففي صباح هذا اليوم قامت القوات الأذرية بالهجوم على الإقليم مستخدمة مختلف الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدفعية ثقيلة ما أوقع عشرات القتلى والجرحى من الطرفين نتيجة لهذا الهجوم.
إن إثارة هذا النزاع في هذا الوقت يدعو لمعرفة الأطراف التي حركته وخاصة بهذه الشدة، ولفهم الخلفيات السياسية والفكرية، لنتمكن من اقتراح مفهوم جديد للتعامل مع هذه الأطراف والرد عليها.
الناطق الصحفي باسم رئاسة الإقليم اعتبر أن "تركيا قد تكون متورطة في تصعيد النزاع في المنطقة". ومن هنا سنبدأ بتقديم فرضياتنا حول الأطراف التي حركت هذا النزاع.
إن الحلف الأمريكي الغربي التركي بأكمله يملك ما يكفي من الأسباب التي تدفعه لإشعال فتيل النزاع ، فالولايات المتحدة وحلفاؤها الأطلسيون تلقوا "صفعة" لم يكونوا يتوقعونها من قبل روسيا، عندما نجحت القوات الروسية في تغيير اتجاه سير المعارك في سوريا، وأيضا عندما استطاعت هذه القوات مع حلفائها القضاء على أعداد كبيرة من الإرهابيين مما أدى إلى انحسار واضح للإرهاب في وقت قصير نسبيا. على عكس التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي أدى فعليا إلى انتشار الإرهاب أكثر في كل من سوريا والعراق. هذا النجاح الذي أظهر روسيا كقوة عالمية تملك القدرة على القرار الفعال في الوقت الذي تشاء، قد يكون حرك عند أمريكا وحلفائها رغبة في إرسال رسالة من نوع ما إلى روسيا بأنها لن تٌترك بلا رد، وأن هذا الحلف الغربي الأمريكي ما زال يملك من الأوراق ما يستطيع من خلاله إزعاج روسيا والتأثير على قراراتها.
ولكني أعتقد أن التوجه الأمريكي في هذه المرحلة يدل على الرغبة في عدم زيادة أماكن التوتر، بل إن الإدارة الحالية تعمل على العكس من ذلك على تهدئة وترحيل المشاكل إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية، ليستطيع الرئيس باراك أوباما تقديم فترة حكمة بأنها عملت على الانسحاب من مناطق الحروب كما وعد في حملاته الانتخابية، الأمر الذي سيقدم صورة للمواطن الأمريكي بأن حكومة الحزب الديمقراطي تسعى لتحقيق السلام العالمي (إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا) وتعمل على تقليص وجودها خارج الولايات المتحدة، الأمر الذي سيشكل دعما للمرشح الديمقراطي الجديد ويزيد من فرص نجاح الحزب الديمقراطي في الانتخابات القادمة.
الدول الغربية لديها من المشاكل ما يكفيها الآن، سواء من الناحية الاقتصادية أم من الناحية الأمنية، وليس منطقيا أن تسعى لإشعال حرب جديدة قد يكون لها آثارها الجانبية ليس فقط على محيطها المجاور بل على العالم برمته.
الجهة الوحيدة التي تملك ما يكفي من الأسباب لتكون وراء هذه الأحداث هي تركيا. هذه الدولة التي انتقلت من صفر مشاكل قبل خمس سنوات إلى صفر أصدقاء في الوقت الحاضر. هذه الدولة التي تحولت من بلد ينعم بالاستقرار السياسي والأمني إلى مستنقع للإرهاب الذي جلبته لنفسها مرتين. مرة عندما شجعت كل إرهابيي العالم للحضور إلى أراضيها لتزجهم في الحرب السورية ولتحقق بذلك طموحاتها الجيوسياسية بإعادة تحقيق الحلم العثماني القديم من خلال سيطرتها على الدول المجاورة باستخدام المجموعات الإرهابية , ومرة أخرى من خلال السياسة الرعناء لحكومة حزب العدالة والتنمية بمعاداتها لشريحة وازنة من شعبها وهم الأكراد وانقلابها على جميع الاتفاقيات التي أبرمتها معهم بل وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية وحتى طلب سحب الحصانة البرلمانية عن النواب الأكراد المنتخبين بشكل ديمقراطي ومعلن. إن هذا الافتراض لم يعد افتراضاً بعد أن أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزمه دعم أذربيجان حتى النهاية وإلى أبعد الحدود.
إن افتعال الأزمة الجديدة في إقليم ناغارنو قرة باغ من قبل تركيا يدل على الحالة المأساوية التي وصلت إليها القيادة التركية، التي لم تعد تجد لديها آفاقا مستقبلية، لا لتحقيق أي من المكاسب ولا حتى للحفاظ على الأوضاع الداخلية التي كانت سائدة سابقا داخل تركيا. إنها تشعر أنها "لم يعد لديها أوراقا لتخسرها أكثر" فتقدمت خطوة إلى الأمام ( كما فعلت حليفتها السعودية بتدخلها في اليمن) فلعلها "كما تظن" تستطيع الضغط على الحكومة الروسية من خلال إظهار قوتها العسكرية ومن خلال إظهار أنها تملك المزيد من الأوراق لتضغط من خلالها وتحقق مكسبا ما من خلال إعادة تصنيفها مع حلف الرابحين بدلا من حلف الخاسرين الذي تنتمي له مع السعودية بجدارة واضحة.
إن ما نريد التأكيد عليه هو طريقة التفكير، وطبيعة أولئك الذين ينتمون إلى "الإسلام السياسي" الذي تمثله حركة الأخوان المسلمين التي تنتمي لها حكومة العدالة والتنمية. فلعل هذا الفهم يساعدنا في فهم التحركات التركية التي تنطلق جميعها من خلال هذا الانتماء لحركة الأخوان المسلمين. إن تاريخ الأخوان المسلمين يقول أنهم لا يتورعون عن تبرير أي قول يدعم خططهم ولو كان لا يتمتع بأي قدر من المصداقية، ولا يتورعون عن أي فعل يحقق مصالحهم مهما كان بعيدا عن المنطق والعقلانية وبغض النظر عن حسابات الحلفاء والأصدقاء. إنهم ينقلبون دائماً على شركائهم وحلفائهم عندما تسنح الفرصة لتحقيق مصالحهم المرسومة في الخفاء. ألم يحدث هذا عندما انقلبت حكومة العدالة والتنمية على حليفها السوري التي كانت تقيم معه أفضل العلاقات في بداية الأزمة السورية وبدون سابق إنذار؟ ألم يحدث هذا مع الحلفاء الغربيين عندما أغرقت تركيا الدول الغربية بسيل من اللاجئين السوريين لتضغط على هذه الدول بالوقوف إلى جانبها لتحقيق أهدافها في سوريا؟ وعندما لم تستطع تحقيق ذلك، نتيجة لظروف دولية أكبر من قدرة حلفائها، ألم تضغط على حلفائها الغربيين وساومت على ورقة اللاجئين للحصول على المال؟ ألم تنقلب حكومة العدالة والتنمية على شريكها الروسي الذي كانت تقيم معه علاقات إستراتيجية عندما ظنت أن الفرصة مؤاتية لجر حلفائها إلى معركة مع روسيا عندما أسقطت طائرة السوخوي الروسية؟
إنهم لا يملكون قيما عندما يتعلق الأمر بتحقيق المخططات التي تخدم مصالحهم، بل ولا يقدرون الإشارات الإيجابية التي يقدمها لهم الآخرون كإشارات حسن نية، بل ويظنوها ضعفاً، إنهم لا يفهمون كل طرق الحوار التي تستند إلى القيم، ويعتقدون أن القوة هي الطريق الوحيد لتحقيق المصالح. ولكنهم وللأسف لا يدركون أن القوة تحتاج إلى الحكمة معها وإلا فإنها ستكون وبالا على أصحابها.