عن طموحات بوتين.. والفرق بين الحنين والواقع
أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرات عديدة، إلى أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان خطأً جيوسياسيا، ورغم أن هذه الكلمات تفسر غالبا كدلالة على رغبته بإعادة إحياء هذه القوة العظمى، إلا أن أسباب الاعتقاد بذلك قليلة حقيقةً.
هل يريد فلاديمير بوتين حقا إعادة إحياء الاتحاد السوفييتي؟ لا أحد لديه القدرة على إثبات عكس ذلك. وعلى كل حال لا أحد يستطيع أن يبرهن أن باراك أوباما لم يكن يريد أن يحول الولايات المتحدة إلى سيدة للعالم، ولا حتى بأن هيلاري كلينتون لم تسعى لأن تصبح الدلاي لاما الجديد. إنه شيء مختلف أن يشعر الرئيس بوتين بالحنين إلى العهد السوفييتي والذي يعتبر أمرا طبيعيا لشخص في عمره وبتاريخه. فالكثيرون يشعرون بالحنين لسنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولطالما يتذكّرون تلك الأشياء الجميلة في تلك المرحلة من عمرهم.
لنضع الأحلام والرغبات جانبا ولنضع السؤال التالي أمامنا، هل يستطيع بوتين واقعيا أن يخطط لإعادة إحياء الاتحاد السوفييتي؟ الجواب هو بوضوح، لا! باعتبار أن القادة الروس هم قادة عقلاء وواقعيون ويعلمون جيدا إمكانيات روسيا الحالية وطبيعة النظام العالمي هذه الأيام.
أولا: كان الاتحاد السوفييتي يعتمد على قاعدة الإيديولوجيا الشيوعية الفعالة، والتي كان لها، على الأقل في النصف الأول من القرن العشرين، ملايين الداعمين حول العالم.
عقيدة الكرملين الحالية تعتمد مبدأ السيادة وتكافح الثورات الملونة التي تحاول عزل الأنظمة حول العالم، وتصد محاولات الإيديولوجيات الجديدة دخول روسيا، وهذه المساعي بالنسبة للكرملين، أهم من نشر إيديولوجيته الخاصة للخارج.
ثانيا، كان للاتحاد السوفياتي منذ تأسيسه نموذج تحديث فريد من نوعه. لقد كان يعتمد الظروف القاسية وبلا رحمة، ولكنه في نواح كثيرة، ومنها النواحي الاجتماعية والسياسية كان فعالا جدا. أكثر مثال واضح لهذه القدرة هو، القدرات التي أظهرها في الحرب العالمية الثانية، وفي برنامج الفضاء السوفيتي. اليوم هذا النظام الفريد لم يعد موجودا - وأصبحت روسيا دولة رأسمالية، حتى ولو كان تحولها من الشيوعية غير مكتمل بعد.
ثالثا، ببساطة لا توجد الإرادة السياسية والالتزام اللازمين لبدء استعادة الاتحاد السوفياتي السابق. بعد إعادة توحيد ألمانيا، قدمت برلين ما يسمى "ضريبة التضامن" لتسهيل اندماج ألمانيا الشرقية السابقة مع جمهورية ألمانيا الاتحادية. تقبل المجتمع الألماني هذا العبء الإضافي دون كثير من المعارضة. ومع ذلك، فإن فكرة "ضريبة تضامن" جديدة لضم جمهوريات جديدة إلى روسيا الإتحادية لا تجد الكثير من الحماس في موسكو.
هل هذا يعني أن روسيا لا تحاول الحفاظ على نفوذها على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق؟ بالطبع لا. الجمهوريات السوفيتية السابقة ليست هي نفسها بالنسبة لروسيا كما كانت المستعمرات البريطانية في أفريقيا بالنسبة للمملكة المتحدة. مستوى التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي السوفياتي يجعل هذه الجمهوريات أكثر مماثلة لأيرلندا واسكتلندا بالنسبة لبريطانيا.
وكانت وقائع سياسات الكرملين مع الدول المجاورة على مدى السنوات الـ25 الماضية إلى حد كبير سلسلة من المحاولات لخلق حزام من الدول الصديقة على طول حدود روسيا، للحفاظ على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي لها جذور عميقة في تاريخ هذه المنطقة الشاسعة.
التداعيات على المدى الطويل والتي ظهرت أمثلة عليها في أزمات جورجيا وأوكرانيا تجعل هذا الهدف أكثر صعوبة في التحقيق، وبعيدا أكثر من أي وقت مضى عن الحقيقة، ولكن حتى هذه الصراعات لا تغير من حقيقة أساسية: روسيا يمكنها أن تكون أمنة وتشعر بالرخاء فقط إذا كانت محاطة بدول مستقرة ونابضة بالحياة ولها مع موسكو علاقات ودية.
أحدث محاولة لمقاربة هذه المهمة الشاقة، هي مفهوم الاتحاد الاقتصادية الأوراسي. فهل ينبغي أن يكون الغرب قلقا إزاء هذا؟ هل هذه محاولة مقنّعة لإحياء الاتحاد السوفيتي؟
مرة أخرى، الجواب هو "لا!". الاتحاد الاقتصادية الأوراسي هو مشروع إقتصادي بالمقام الأول، ولا يسعى لفرض العقائد والأيديولوجيات السياسية على أعضائه، وهو يسعى للتكامل الاقتصادي الأوراسي جنبا إلى جنب مع التحول العميق للدول الأعضاء باتجاه السوق الحر، والابتكار الاجتماعي والتعددية السياسية. وفي هذه الحالة، روسيا ستبلغ أهدافها بالرفاه والقوة لها ولجيرانها من أعذاء هذا الإتحاد دون تكاليف العنف والقمع والدماء.