عن فهم "داعش" والراديكالية

29.06.2016

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة التي لا تكتفي بالحديث عن العصر النقي للإسلام، بل تحاول العودة إليه والى طقوسه وممارساته، منتقلة بفكرة اليوتوبيا من كونها سعياً نحو مستقبل مثالي إلى رجوع نحو ماضٍ مثاليٍّ متخيل. بدت "داعش" وكأنّها تجسيدٌ لشرٍ غير مفهوم، قوةٌ بملامح دينية / فاشية لا تتحدى فقط المثل الليبرالية و "العقلانية"، بل تنشط كنسخة واقعية للجوكر، الشرير الفاتن في أفلام "الرجل الوطواط"، الذي تحرّكه رغبة تهديم النظام وإحلال الفوضى.

الفكرة والسياق
اندفع كثيرون في الغرب للكتابة عن "داعش". ووسط قلّة المعطيات والبيانات الحقيقية عن طبيعة التنظيم وإمكانيّاته وتركيبته، توفّرت مساحة واسعة للخيال والمغامرة، أنتجت مجموعةً جديدةً من خبراء "التطرف الإسلامي" الملتحقين بسوقٍ متوسّع، لكنّها سمحت أحياناً بطرح أسئلةٍ مهمة عن عالم ما بعد - الدولة الوطنية، حيث تسهم العولمة في خلق شبكات فوق - وطنية تتحدى العلاقات التقليدية بين الأمن والجغرافيا.. أسئلة تعيد تناول معاني السلطة والهوية والنظام التي تكتسب بدورها لبوساتٍ جديدة وسريعة التّحوّل.

أحد أهم جوانب الجدل الذي أثارته ظاهرة "داعش" هو ذاك المعنيّ بعلاقة الإيديولوجيا، في هذه الحالة يوتوبيا "الخلافة على منهج أهل الحديث" التي يتبناها "داعش"، والعنف والتطرّف. وهو جدل أحيا الاستقطاب الفكريّ والأكاديمي بين مدرسة تعتقد أنّ "الأفكار" مهمّة جداً ولها أولوية على العوامل الأخرى التي تسمح بنشوء هذا النّوع من الظواهر، ومدرسة تعتقد أنّ الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر أهمية من الأفكار، لأنّها هي التي تسمح في سياق زمانيّ / مكانيّ محدد لهذه الفكرة أو تلك بالازدهار.

عكست المقالة الشهيرة التي نشرتها مجلة "أتلانتيك" الأميركية عام 2015 بعنوان "ما الذي يريده داعش في الحقيقة؟"، تصوّرات المدرسة الأولى التي ترى أن متبنيات التنظيم العقائدية والنصوص الدينية التي يحتكم إليها، والميثولوجيا القياميّة التي يتحدث عنها في منشوراته عن جيش الشام ومعركة دابق، تقول ما يكفي عن حقيقة هذا التنظيم (كلمة "تنظيم" توحي بثبات وستاتيكية لا تنسجم مع حقيقة أن الحركة الجهادية شهدت تحولات وتناسخت بعدة أشكال على مدار سنوات طويلة منذ كتَب سيد قطب أطروحته عن الجاهلية المعاصرة).

وفي سياق هذا النقاش انتعشت التنظيرات حول مدى "إسلامية" داعش، واندفع أصحاب التصورّات الجوهرانية عن الإسلام (وكأنّه معطى قائم بذاته خارج الزمان والمكان)، إمّا إلى التأكيد على أنّ "داعش" يعكس ويجسد ذلك المعطى بأنقى صوره، أو لنفي أنّه يمثِّل "الإسلام الحقيقي"، وهو موقف دفاعي ينطلق من المسلّمة الخاطئة ذاتها التي ينطلق منها "داعش"، أي مسلّمة أنّ هناك إسلاما له صورة معيّنة ثابتة، هو "الحقيقي" وغيره نسخ مشوهة.

في المقابل، فإنّ أطروحة الأكاديميّ الفرنسيّ، أوليفيه روا، عن أنّ "داعش" في الحقيقة لا يعبّر عن التّطرّف الإسلامي بقدر ما يعبر عن "أسلمة التطرّف"، تجسد موقفاً شائعاً لدى المدرسة الثانية، التي ترى ضرورة الفصل بين الظروف المنشِئة للميل الراديكالي (أي رغبة تحدي الوضع القائم وإنْ بأدوات عنفية)، وبين الإيديولوجيات والأفكار التي يتقَنّع بها هذا الميل. وهناك من يرى أن "إسلامية" داعش هي مصادفة زمنية تتعلق بوجود تيّار إيديولوجي إسلامي بلور مقولات عن الحقّ والباطل والهويّة والعدالة تسمح بتنظيم الميول الراديكالية العنفيّة في فعل سياسي - عسكري موجّه نحو غرض معين. وأنّه في زمن وظرف آخر ربما كان التنظيم سيبرز كحركة يسارية متطرفة على غرار الخمْير الحمر الكمبودية التي تسبب زعيمها، بول بوت، مباشرة أو غير مباشرة بمقتل حوالي 25 في المئة من سكّان بلاده في سعيه لإقامة نظام شيوعي "عادل"، أو "الدرب المضيء" (Shining Path) التي ظهرت في بيرو كحركة مناوئة لنظام "الديموقراطية البرجوازية" وتسعى لاستبداله بـ "ديكتاتورية البروليتاريا"، مستخدمةً السيارات المفخخة وحرب العصابات التي أنتجت عدة مجازر بين المدنيين.

الجهادية بين الفكرة والواقع
قد يبدو هذا الجدل أكاديمياً وفلسفياً للوهلة الأولى، ولا علاقة مباشرة له بالواقع على الأرض اليوم، ولذلك غالبا ما يترفّع عنه أو يتجاهله أولئك المشتغلون بالسياسة اليوميّة أو المعنيون بالجهد العسكري أو الاستخباراتي المباشِر لمحاربة التنظيم. غير أنّ هذا الانطباع قاصر الى حدٍّ كبيرٍ، أوّلاً من حيث تصوّره أن ما هو فكري وفلسفي لا جدوى سياسية له، وثانياً في تجاهله للعلاقة المهمة بين الطريقة التي نفهم بها "داعش" وغيره من التنظيمات الجهادية الصاعدة، وبين صياغة الخيارات السياسية المستقبلية لمواجهة النزعات الجهادية. من دون أن نفهم كيف تنشأ تلك الجماعات وما هي أهدافها وتصوراتها، والسياقات التي تعمل فيها وتسمح لها بالسيطرة على مناطق مختلفة، بل وتجاوز الحدود الدولية وتحدّي وجود كيانات لدولِ قائمة منذ حوالي القرن من الزمن، فإنّ من الصعب على أيّ خيارات سياسية أن تخرج من دائرة التأثير المرحلي القصير الأمد.

يدفع تصنيف "داعش" والجهاديّة كقضايا أمنية، كما هو سائد اليوم، نحو تكريس فكرة الحلّ الأمنيّ كطريق وحيد للمعالجة. لكنّ هذا الحل الذي استخدم لمواجهة الجماعة الجهاديّة في مصر خلال الثمانينيات، لم يمنع من انتقال الكثير من الجهاديين المصريين إلى أفغانستان لينضمّوا إلى تنظيم "قاعدة الجهاد". ومن هناك ظهر الزرقاوي وجماعته لينتقلوا إلى العراق، ومن تنظيم الزرقاوي ظهر الجولاني ليشكل "جبهة النّصرة" في سوريا، وبرز "داعش" الذي احتلّ أراضي في العراق وسوريا ولديه موطئُ قدمٍ في ليبيا.. بمعنى أنّ "الفكرة الجهادية" كانت تتدحرج من مكان لآخر وتتلوّن بألوان مختلفة حسب طبيعة المكان وظروفه، وهي تنحسر في المكان الذي يستعصي عليها أمنياً، لتنتقل إلى مكان آخر تمتلك فيه حريّة حركة أكبر، وفي غضون ذلك تتحول من جماعات محدودة تقاتل الأنظمة وتهْجر المجتمع، إلى تنظيمات معقّدة تحتل أراضي وتضفي على نفسها صفات الدولة.

إنّ فهم الجهاديّة لا يمكنه أن يتجاهل "الفكرة" وتطورها وانتقالاتها، لكنّه مضطر أيضاً إلى التعامل مع السياق: فالجهادية عموماً فشلت في إسقاط أيّ نظام سياسي قاتلته، لكنّها قدّمت لمعظم النّظم السّياسيّة في المنطقة فرصةً لتشديد القبضة الأمنيّة وإدامة حالات الطوارئ التي خدمت في إعادة إنتاج السلطويّة "كضرورة لحفظ النظام الاجتماعي"، ولتتحول تلك السلطويّة إلى "عقيدة مقبولة" ولديها خطابها السياسي والثقافي المتمحور حول غاية منع الفوضى. لكنّ الجهادية حقّقت أفضل اختراقاتها في فضاءات فشل الدولة، عندما لم تمتلك هذه القوّة العسكريّة والأمنية الكافية لهزيمتها وإمساك النظام العام بشكل يدفع السكّان إلى إدراك مخاطر الالتحاق بالخيار الجهادي. ففي زمن ضعف الدولة وتفككها، أو انحسارها المتزايد وبروز طابعها الفئوي، وبخاصة إن كان استبداديّاً، ومع غياب شبكات اجتماعية فاعلة للإدارة الذاتيّة، تقدّم الجماعات الجهادية فرصاً بديلة لإعادة فرض النّظام والقيام ببعض مهمّات الحكم. وبسبب طابعها كحركات تؤمن بالشّهادة والعنف كوسائل مشروعة، فإنّها تستطيع هزيمة أيّ اتجاهات أخرى، ليس بالضرورة بسبب شعبيتها، بل غالباً بسبب قدرتها على ممارسة البطش المبرَّر عقائدياً، وامتلاكها إيديولوجيا تحكمها غاية محددة، خَلاصية: "إقامة الدولة الإسلامية النقيّة على نهج النبي وأصحابه".

بعيداً عن جدل اليمين واليسار
بالنتيجة، لا يمكن فصل الفكرة عن السياق، وتصوّر "الجهادية" اليوم بمعزل عن الحروب الأهلية وتفكك الدول وتراجع الهويات الوطنية وفراغات السلطة والمعنى الناشئة، وهي الفراغات التي تسمح للمشروع الجهاديّ بتجديد نفسه وبالتوسّع، كما تسمح لخطاب السلطوية الجديدة في مرحلة ما بعد الربيع العربي بالصّعود.

إنّ هناك حاجة لفهم هذه العلاقة المركبة بين "داعش" الحركة، و "داعش" السياق، بمعزل عن المركزية اليمينية - الغربية غير المهتمّة عموماً بالظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة المولِّدة لفشل الدولة وغياب آليات بديلة بنّاءة لتأمين احتياجات السكّان، والمنشِدة لأطروحة المساواة بين "الراديكالية" و "الجهادية"، وهي مساواة تسفر في النهاية إلى تغليب فكرة الحلّ الأمني. غاية هذا الموقف هو حفظ توازنات وعلاقات القوة القائمة، عبر إلحاق صفة الراديكالية بأيّ موقف يسائل ويتحدّى تلك التوازنات، وبشكل يضع تياراً ذا خصائص تدميرية عدمية مثل "داعش" على قدم المساواة مع الحركات التي تسعى لطرح أنماط بديلة للنّموذج النيوليبرالي السائد.

وبنفس القدر، هنالك حاجة للتّخلي عن الموقف المترفّع لليسار التقليدي الذي يرى في دراسة وفهم الجهادية تنازلاً عن مثله الحداثوية أو التحاقاً بالمشروع الاستشراقي، متجاهلاً حقيقة أنّنا نتحدث عن تنظيمات أصبحت مساحة انتشارها ونطاق سيطرتها أكبر بكثير مما تمتّعت به القوى اليسارية في عز سطوتها، وأنها ظواهر تؤشر إلى "عالم اليوم" المأزوم بعمق: انهيار الدولة الوطنية، وتضعضع مُثُل النهضوية الحداثية الغربية الليبرالية هي نفسها، أي ما يمكن اعتباره من مفاعيل العولمة. لا يفترض أن يكون حدث سقوط الموصل والصراع الطائفي الذي انفلت بعده، وعمليّات تهجير واسترقاق الأقلّيّات غير المسلمة في المنطقة، أقلّ إثارة للصّدمة من هزيمة حزيران/ يونيو 1967، والّتي غالباً ما يؤرخ لها كبداية لانحدار الإيديولوجيات العلمانية، اليسارية والقومية، وصعود الإسلام السّياسي. إنّ تلك الأحداث تُعبّر عن أزمة مركبة، مجتمعيّة وثقافيّة وسياسيّة، لا يمكن الهروب من مواجهتها باللجوء إلى المعجم التقليدي لعصر ما ـ بعد الدولة الاستعمارية، في زمن تفكك أو انحدار تلك الدولة.

"السفير العربي"