مراكز الفكر والدراسات بين الضرورة الاستراتيجية والرهانات المستقبلية في الجزائر

Source: Pixabay.com/3dman_eu
22.02.2017

يقع على كاهل الطلبة والباحثين والأساتذة  في الجامعات الجزائرية عموما صياغة أطر عملية كمخرجات لجهودهم البحثية المتعاقبة والتي عملوا عليها طوال سنوات دراستهم  وتكوينهم على مستوى أقسامهم ومخابرهم البيداغوجية والعلمية والتي تلقوا فيها مختلف الأدوات البحثية النظرية والمنهجية التي تمكنهم من بناء برامج بحثية خاصة تحلل وتستشرف للظاهرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الظواهر الأخرى التي يعيشونها في بلدانهم كمساهمة تدخل في إطار ما يسمى "بالحوكمة" ،هذه الأخيرة التي تعد دائرة كبيرة من عمليات الإدارة التي تساهم فيها العديد من القطاعات الحكومية وغيرها من الفواعل داخل الدولة والمجتمع. وهذا ما نراه في واقع القوى المحترمة على المستوى الدولي والإقليمي من الدول التي تُشرك العديد من القطاعات في عملية صنع القرار على المستوى الداخلي والخارجي ،وما يهمنا في "دائرة الإدارة " هذه دور العلماء والباحثين في مختلف التخصصات الأكاديمية الذي يُترجم في مخرجات مخابر ومعاهد ومراكز الدراسة التي تلعب دور الاستشارة بالنسبة لصانعي القرار في أجهزة الدولة المختلفة بل ويتعداها في بعض الدول إلى القطاع الخاص والشركات بمختلف أشكالها والتي تعتمد على دراسات هذه المخابر والمعاهد العلمية لبناء توجهها التجاري أو الخدماتي نحو المجتمع
لهذا فمن الضروري أن تعتمد الدولة أيضا على مشاريع بحثية تقيٍّم وتقوِّم سياساتها واستراتيجياتها عبر بناء شراكة مع مراكز البحث والمخابر البحثية التابعة للكليات والأقسام في الجامعات ،وهذا الطرح ليس تقليدا لبعض الدول التي تنتهجه ولكن كإلزامية بالنسبة للدولة التي تحتاج جهازا استشاريَّا موسعا ومتكونا من مخرجات الجامعة التي تدعمها هذه الدولة ،فأن يضع الباحث مشروعا لاقتدار دولته فلن يجد مجالا لطرح هذا المشروع سوى في مثل هذه المعاهد والمراكز المختصة ،وهذه الأخيرة تعد رابطا بين الباحث والدولة ،التي من المفروض أن تعتمد على هذه الدورة الحيوية التي ستساهم في تنمية الواقع الاقتصادي والسياسي وحتى الأكاديمي ...
ما يهمني كباحث من خلال كتابتي لهذا المقال المتواضع هو واقع حركية مخابر الدراسات ومراكز البحث في بلدي الجزائر خاصة في ظل هذا الظرف السياسي والاقتصادي الخاص الذي تمر به الجزائر ،والذي يستدعي تحليلا خاصا للظاهرة  الاقتصادية التي تعيشها الجزائر عقب انخفاض أسعار البترول وقرار الحكومة الجزائرية بانتهاج التقشف كسياسة لاستدراك ما يمكن استدراكه رجوعا لاعتماد الاقتصاد الجزائري على الريع النفطي كمدخل أساسي  .. هنا تكمن الضرورة لابتكار مصادر دخل مستدامة اعتمادا على جهود الباحثين من أبناء الجامعات الجزائرية ،عبر وسائط أكاديمية لديها شراكة مع الدولة الجزائرية ويمكنها رسم مسارات مستقبلية بديلة تمكن الجزائر من تجاوز أي أزمة قد تصادفها ،فمراكز الفكر والدراسات تقدم في بعض التجارب الديمقراطية النصح والمشورة في هيئة بدائل سياسات تطرحها من خلال ما تتيحه من ساحات للنقاش ،أو ما تنشره من دراسات وأبحاث ،أو عبر ملخص سياسات يتم تقديمه مباشرة إلى صناع القرار للتأثير فيهم ،وتقوم بأدوار ووظائف عديدة للتأثير في عملية صنع السياسة ،فلا ينحصر دورها في تقديم بدائل السياسات وإنما تباشر أيضا دورها كمخزون استراتيجي يمد الحكومة بالكوادر البشرية اللازمة وتضطلع بتقييم سياسات الحكومة بما يعود بالتأثير الإيجابي على عملية صنع القرار ،كما تهدف إلى رفع وعي الجمهور بقضايا السياسة العامة الملحة ،ويتأثر دورها في صناعة السياسات العامة بمجموعتين من العوامل انخفاضا وارتفاعا .عوامل ترتبط بطبيعة النظام السياسي وعوامل أخرى ترتبط بطبيعة مراكز الفكر وتكوينها وعلاقتها ،فظهور مراكز الفكر جاء نتيجة الاحتياج المجتمعي والتطور المعرفي اللذين أفرزا بدورهما تحديات أمام صانع القرار وسط تعقد عملية صنع السياسة العامة ،كما أن دور مراكز الفكر هذه تطور مع الوقت إلى أن أصبح من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للدول ،فمراكز البحث والفكر ظاهرة مستمرة بل من المتوقع أن يزيد دورها مع مرور الوقت وزيادة التحديات التنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية عموما ،فدور تلك المراكز سيصبح أحد مقومات عملية التحول الديمقراطي ،وربما يمتد ليصبح شرطا من الشروط  التي تضعها المؤسسات الدولية للحكم على فاعلية عملية التحول الآخذة في النمو ،ولن يقتصر دورها في عملية صنع السياسة العامة بل ستتدخل في عملية التنفيذ ويزداد دورها في عملية التقييم ،كما أنها ستتحول من مورد للقوى البشرية في الحكومات المختلفة لتصبح المصدر الوحيد في ظل ارتفاع كفاءة رأس المال البشري لتلك الموارد ،ولن يصبح التمويل أحد مشاكل تلك الكيانات الصاعدة خاصة في إطار تزايد إيمان قادة العالم بأهمية الخطط والدراسات والتوصيات المقدمة من جانبها ،ومع تعقد التحديات الناتجة يوما بعد يوم داخليا وخارجيا ،محليا وإقليميا ودوليا وعالميا ،ستتراجع القيود التي قد تحول دون تنامي دورها كطبيعة النظام السياسي على سبيل المثال ،ولاسيما في ظل قدرتها على التواصل دوليا وعالميا ،حيث ستصبح مع مرور الوقت أحد الفاعلين الدوليين ،خاصة مع قدرتها على تطوير أدواتها وقنواتها في التأثير في عملية صنع السياسة العامة مستفيدة من الوسائل التكنولوجية الحديثة. ولهذا يتوجب على صناع القرار في الدولة أن يعتمدوا على هذه الوسائط الأكاديمية المنتجة كجهاز استشاري يعمل بالشراكة مع مؤسسات الدولة المختلفة كل وتخصُّصها ،بل وسنذهب أكثر من ذلك عندما نوصي بضرورة ربط الشراكة بين الأحزاب السياسية المحلية مثلا في الجزائر وبين مخابر البحث المختصة في صنع السياسات ودراسة المواقف وتحليل الظواهر لتتمكن هذه الأحزاب من صياغة برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنمية قدراتها على مخاطبة الشعب ومعرفة اهتماماته وتوجهاته. والملاحظ في الجزائر أن دور مراكز البحث فيها لا يخرج من الدائرة المغلقة في الإنتاج العلمي والبحثي أي أن كل الجهود البحثية التي تقوم بها معاهد ومراكز البحث تدور في حيز مغلق فتوصيات بعض الملتقيات التي تنظمها هذه المخابر الجامعية تبقى حبيسة أدراج أرشيف المخبر الأكاديمي ،بالرغم من أن الدولة تصرف ميزانيات كبرى على هذه المخابر إلا أن صلة التواصل بينها وبين هذه المراكز مقطوعة ،فكل الدراسات والمقالات والتوصيات وغيرها من مخرجات البحث العلمي المنوط بهذه المخابر إنتاجها لا تصل لصناع القرار والفاعلين في الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقطاعات الاستراتيجية الأخرى في الدولة والنظام السياسي .فالنشاط المسجل لبعض المخابر الجامعية الممولة من طرف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تحليل مختلف الظواهر المحلية والدولية يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أو أن تصل توصيات هذه الأعمال والنشاطات العلمية والأكاديمية لصناع القرار في شكل تقارير دورية "شهرية أو سنوية" مرسلة من مخابر الدراسات المعنمدة وطنيا إلى الجهة الوصية بهذه النشاطات في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي  كإجراء روتيني لتقييم عمل هذه المخابر الممولة من خزينة الدولة ولتبليغ توصيات هذه النشاطات للجهات الوصية في شكل تقارير ومنشورات علمية ،لترسم الدولة في نهاية الأمر خريطة المخابر التي تعمل وفق معايير الجودة العلمية والكفاءات وتستند إليها في المستقبل في حال مواجهتها لأي تحدي مهما كان شكله ونوعه.