ما وراء الرد الصاروخي السوري على إسرائيل
يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الإسراء "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا", والآية تقول بوضوح أن هناك إفسادين كبيرين وعلوا كبيرا واحدا، ولا نريد الخوض في التاريخ والحديث عن الافساد الأول ولكننا نريد التأكيد على ما نعيشه في هذه الأيام من إفساد كبير وعلو كبير لم يشهد له التاريخ مثالا تتميز به إسرائيل على الساحة الدولية والمحلية كمقدمة للدخول في موضوعنا السياسي حول أهمية الرد الصاروخي السوري وآثار هذا الرد على نتائج الحرب السورية.
إسرائيل تعيش هذه الأيام غرورا كبيرا نتيجة استثنائها من تطبيق القانون الدولي، ولا أحد في هذا العالم – إلا قليل من أحرار العالم – يتجرأ على أن يسمي الأسماء بمسمياتها عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، والجميع يلف ويدور ليخترع قصصا وحكايات عن دفاع إسرائيل عن نفسها وحقها في الدفاع عن أمنها وشعبها، في الوقت الذي تقوم فيه بإبادة شعب آخر، وحتى المنظمات الدولية تجبر غلى سحب تقاريرها إذا كان التقرير يتكلم عن عدوان إسرائيلي (تقرير الأسكوا الذي يدين اسرائيل بتطبيق العنصرية على الشعب الفلسطيني والذي تم إجبار أمين عام الأسكوا ريما خلف على سحبه بالأمس 17/3/2017 فاستقالت احتجاجا على سحب التقرير).
لم يعد أحد يصدق في سوريا أن ما يسمى ب "الثورة السورية" قامت من أجل تأمين الديمقراطية والحرية للسوريين، بل لعل الكثيرين يعرفون اليوم أن إسرائيل هي التي دبرت وخططت مع حليفها الأمريكي وحلفائها الغربيين والإقليميين لتدمير الدولة السورية وجيشها وإمكانياتها لتحقيق أهداف إسرائيل الاستراتيجية بإنهاء أية مقاومة على حدودها الشمالية عن طريق استخدام أدواتها التكفيرية في المنطقة والعالم, وهاهم الكثيرون ممن يدعون قيادة "الثورة" يتباركون بزيارة إسرائيل، وها هي مختلف الفصائل السورية المعارضة التي تقاتل الدولة السورية في الجنوب السوري تنسق علنا مع الكيان الصهيوني، ولم يكن استهداف مقرات الدفاع الجوي السورية في بداية الأزمة وخلالها من قبل ما يسمى ب "الثوار" إلا تأكيدا على ارتباطهم العضوي بإسرائيل لتدمير ركن أساسي من أركان الجيش السوري وهو منظومة الدفاع الجوي السورية التي تشكل عائقا كبيرا أمام تفوق الطيران الحربي الإسرائيلي.
إذا فإسرائيل التي تملك هذه الكلمة العليا على الساحة الدولية استطاعت كسب الكثيرين من الأعراب الذين طبعوا معها ويستمرون بالظهور يوما بعد يوم بقيادة السعودية، وإسرائيل التي وجدت نفسها في مأزق حقيقي بعد حرب ال 2006 لأتها لم تستطع تحقيق النصر على مجموعة صغيرة من رجال حزب الله في الجنوب اللبناني، على الرغم من أن أغلب دول العالم كانت مع "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، فاضطرت هذه الدولة المتعجرفة للتسليم بالواقع الجديد الذي يشكل فيه حزب الله ظاهرة تسبب الخوف الدائم لإسرائيل.
حزب الله كان يستمد قوته وإمداداته العسكرية من سوريا وجيش سوريا وقيادة سوريا، ومن إيران التي تشكل العمق الاستراتيجي لهذا المحور الذي يسمى نفسه بمحور المقاومة لإسرائيل، وجاء "الربيع العربي" كرمى لعيون إسرائيل لإنهاء هذا المحور المقاوم بأيد محلية تستطيع دفع الدماء التي لم تعد لا إسرائيل ولا أمريكا ولا الغرب كله دفعها نتيجة رفض شعوبهم لذلك، فبدأ "الربيع العربي" في الدول التي تستطيع الولايات المتحدة التأثير فيها وعلى قادة جيوشها، فبدأت جوائز الترضية بالنظامين التونسي والمصري لإقناع الشعوب العربية بأنها تقرر مصيرها بنفسها، ثم جاءت ليبيا التي أظهرت قدرا من المقاومة لمشروع "الربيع العربي" ولكن المؤامرة الدولية على ليبيا ومن خلال مجلس الأمن والجامعة العربية استطاعت تدمير ليبيا وإدخالها في حالة من الفوضى التي تعيشها اليوم.
القيادة السورية أعلنت من اليوم الأول استعدادها للحوار مع المعارضة وأعلنت إلغاء المادة الثامنة من الدستور، بل وأنزلت الشرطة والجيش إلى الشوارع بدون أسلحة حيث خسر الجيش والشرطة الكثير من الشهداء، ولكن هدف المؤامرة كان واضحا فبدأت هذه الأدوات التي تسمى معارضة بتنفيذ المجازر (مجزرة جسر الشغور) والانتشار على الأرض السورية وبدأت تحتل مناطق مختلفة من سوريا بدعم من المحور الأمريكي الإسرائيلي وحلفائه الإقليميين كتركيا والسعودية وقطر، وأنشئت مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة قبل مدة من وجود الحاجة لها وشجعت هذه الدول السوريين على الهجرة لتستطيع التحكم بهم والسيطرة عليهم.
لقد استطاعت القيادة السورية المحافظة على أغلب الأجزاء الهامة من الجغرافيا السورية، (كانت خسارة الجزء الشرقي من حلب هي الخسارة الأكثر إيلاما للدولة السورية نتيجة لأهمية حلب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية)، وبدأت الأصوات ترتفع في مختلف دول العالم تخبرنا عن سقوط الدولة السورية خلال أيام أو أسابيع، واستمر صمود الجيش السوري وسانده الشعب السوري الذي اكتشف أن هؤلاء "الثوار" ما هم إلا مصاصو دماء مرتبطون بأسيادهم الممولين والداعمين في الغرب والدول الإقليمية التي تؤمن لهم المال والسلاح، فانكشفت حقيقة "الثورة" التي تقتل أبناء الوطن بغض النظر عن طوائفهم وأديانهم، وظهر قادتها في فنادق الخمسة نجوم وهم المعروفون بأنهن لا يمثلون أحدا على الساحة السورية.
كان انتشار الإرهاب نتيجة من نتائج الحرب السورية حيث عمل الحلف الأمريكي الغربي على استجرار الارهابيين من كل أصقاع الأرض للقتال في سوريا، لاعتقادهم أنهم من خلال هذه الأدوات التكفيرية يستطيعون القضاء على الدولة السورية بسهولة وبمدة قصيرة، وحتى ولو لم يتحقق ذلك (أي بسهولة وبمدة قصيرة) فهم مضطرون لاعتماد ذلك مرضاة لإسرائيل، والدليل على صحة هذا المنطق أن النخب الغربية التي تدعي محاربة الارهاب الذي بدأ يضرب بعنف في بلدانها ويقتل العشرات، مازالت تقف ضد الجيش السوري وحلفائه فقط لكي ترضي إسرائيل التي أصبحت ترى ببقاء الجيش السوري وقيادته تهديدا حقيقيا لها.
بدأ الحليف الروسي بالتنسيق مع القيادة السورية يلعب لعبته الذكية بسياسة الخطوة خطوة، وفي كل خطوة كان يحقق انتصارا ومكاسبا جديدة له ولحلفائه وللقانون الدولي، إما في تغيير مفاهيم الصراع لمصلحة الدولة السورية أو أن تستثمر الخطوة بتقدم الجيش السوري مع حلفائه لتحرير مدينة جديدة، وبدأت مرحلة تفتيت المعارضة وتقسيمها إلى معارضة "معتدلة" يسودها تيار الإخوان المسلمين برعاية تركية وخليجية وإلى متشددة تقودها داعش والنصرة تتبع لتنظيم القاعدة والفكر التكفيري المتطرف، وهذه التصنيفات التي تفرق بين المجموعات المعتدلة والمتشددة هي تصنيفات مؤقتة، لأن النوعين متشابه في الجوهر والفرق بينهما غير موجود من الناحية العقائدية والسلوكية فكلاهما ينتميان لنفس المدرسة التكفيرية التي تتيح قتل الآخر، ولكن هذا الفرق وضع من قبل المشغلين لهذه المجموعات فأصبحت تلك المجموعات التي حافظت على طاعة المشغلين "معتدلة" والتي خرجت عن الطاعة أصبحت "متشددة"، وإن تصريح الرئيس الأسد منذ أيام أن كل من يحمل السلاح ضمن المنظمات المسلحة هو إرهابي يؤكد هذا المنطق بعدم وجود فارق جوهري بين المعتدلين والمتشددين.
جاء الانتصار في معركة حلب ليبدد طموحات المشروع الأمريكي-الإسرائيلي بالقدرة على تغيير النظام في سوريا وبالتالي تغيير أركان المحور المقاوم لإسرائيل، بل على العكس تماما أثبتت معركة حلب قدرة الجيش السوري وحلفائه على تحقيق انتصار أشبه بالمعجزة في حلب قياسا بقلة عدد الضحايا التي قدمها الجيش السوري في هذه المعركة وقلة عدد الضحايا من المدنيين أيضا.
لقد أصبح الجيش السوري جيشا مدربا من خلال الواقع الذي عاشه في هذه الحرب، والخبراء يعرفون أن الجندي الذي يخوض مثل هذه المعارك الني خاضها الجيش السوري ويدفع كل هذه الدماء ويرى الشهداء في ساحات القتال ويشم رائحة الدم والبارود يصبح جنديا لا يخاف وقوة لا يسهل التغلب عليها، وعلى مستوى الجيش السوري يمكن تعميم هذه الحالة على أكثر من ربع مليون مقاتل جاهزون ومدربون من خلال هذه الحرب على خوض أية معركة مقبلة بكفاءة أكثر.
قد يكون التعب وصل إلى نفوس قلة بعد ست سنوات من الحرب نتيجة لعوامل مختلفة، ولكن هؤلاء المتعبين مع الكثيرين في قاعدة المعارضة سيتحولون إلى وحدة متكاملة إذا نشبت حرب بين سوريا واسرائيل، لأن التعاون الذي نلاحظه مع إسرائيل مقتصر على قيادات المعارضة وأما غالبية جسم المعارضة السورية فهي تؤمن بالعداء لإسرائيل وحليفها الأمريكي.
الأكراد السوريون هم طرف رئيسي وهام من مكونات المعارضة السورية لهم مطالبهم المحقة فيما يخص الخصوصية الثقافية والقومية، وقد أكد السيد الرئيس بشار الأسد على قبول هذه الخصوصية الكردية ضمن الوطن السوري الواحد وأكد أن الدولة السورية لن تستغني عن أحد من أبنائها لأي عرق أو دين أو طائفة أو منطقة انتمى. لكن الأكراد السوريين قاتلوا في مناطقهم وفي محيطها وشكلوا جيشا شبه نظامي وفصيلا سياسيا يدعى قوات سوريا الديمقراطية وهي تتألف من الأكراد والعرب الذين كانوا تحت تهديد داعش أو بتفاهم مع الدولة السورية كمرحلة مؤقتة لحماية أنفسهم من مخاطر الاعتداءات من قبل الأطراف المختلفة في الحرب السورية. وهم يشكلون اليوم تحالفا مع الولايات المتحدة، التي تتحالف أيضا مع تركيا عدوهم اللدود، والتي اعتدت أيضا على الأرض السورية واحتلت شريطا في الشمال السوري.
إن وضوح الصورة اليوم بعدم قدرة المشروع الأمريكي على الانتصار في الحرب السورية وعلى عدم قدرة الأدوات التكفيرية بتحقيق ما كان يؤمل منها تحقيقه، قد نقل الحرب السورية إلى مرحلتها النهائية، فتدخل الأصلاء بدل الوكلاء، وكما قلنا سابقا فالحرب على سوريا وإن كانت حربا عالمية بقيادة الولايات المتحدة إلا أنها حرب إسرائيلية بالمعنى المباشر وخسارتها بالنسبة لإسرائيل تترك آثارا لا يمكن لهذا الكيان تحملها على المستوى الاستراتيجي، وإسرائيل تملك أدوات في المنطقة تتمثل بدول الخليج وتنظيمات إسلامية كالإخوان المسلمين والقاعدة ومن سار في ركابهم، وها هو محمد مرسي الرئيس المصري السابق الذي ينتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين أعلن الحرب على سوريا وخاطب بيريز بالصديق الحبيب، ولا يختلف الأمر عن أردوغان الذي حكم تركيا من خلال نفس التنظيم.
تحركت إسرائيل مع وكلائها الأعراب لمحاولة تأخير الانتصار السوري، فهرول نتنياهو إلى موسكو وسارع محمد بن سلمان إلى واشنطن، نتنياهو يعرف أن ما قاله السيد حسن نصر الله بأن المعركة في سوريا ضد التكفيريين قد حسمت وأن إعلان الانتصار النهائي قادم لا محالة والمسألة هي مسألة وقت لإعلان هذا الانتصار، وكان الطلب الاسرائيلي في موسكو وواشنطن هو تجنب الوصول إلى تفاهمات سياسية تعيد الدولة السورية إلى ما كانت عليه والاكتفاء بتفاهمات أمنية تتيح لإسرائيل قدرا من الحرية لتدخل يضمن لها مع شركائها انتزاع بعض المكاسب وخاصة في الجنوب السوري، حيث تخشى إسرائيل من وجود قوى مقاومة على حدودها سواء أكانت سورية أو لبنانية أو عراقية.
الضربة الإسرائيلية الأخيرة في منطقة تدمر جاءت لتقول أن إسرائيل ما يزال لديها أوراقا في الحرب السورية، وبأنها لن تسمح بانتهاء الحرب السورية إلا بعد تحقيق طلباتها وإعطائها ما يطمئنها على حدودها الشمالية، والمملكة السعودية سارعت للقول بأنها مستعدة لإرسال قوات للمشاركة في معركة الرقة ضد داعش، فقط لأنهم يعلمون أن الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تقاتل داعش هي الجيش السوري وحلفاؤه، وأن انتصار الجيش السوري من خلال مشاركته مع حلفائه في هذه المعركة سيفرض قبولا دوليا له من جهة وسيؤمن له القاعدة الضرورية لإعادة السيطرة على كل الأراضي السورية.
الرد الصاروخي السوري لم يكن ردا في معركة ضمن حروب كما تحب إسرائيل أن تسمي تدخلاتها في سوريا أو في لبنان، لقد كان ردا حاسما واستراتيجيا يؤكد أن الجيش السوري وحلفاءه لن يسمحوا لإسرائيل باستخدام أية ورقة لديها للتنغيص على فرحة الانتصار القادم، لقد كان ردا من محور بكامله، وهو محور مستعد لحرب أكبر وأطول، وعلى اسرائيل أن تعرف أن كل اعتداء من قبلها سيقابل بالرد ليشكل بذلك الجيش السوري مع حلفائه قواعد اشتباك جديدة، وهذه القواعد قد تقود إلى حرب إقليمية كبرى تغير وجه المنطقة إن لم يستوعب قادة إسرائيل كل هذه المتغيرات التي حدثت في المنطقة، فالحرب السورية لم تعد حربا بين لاعبين إقليميين إنها حرب عالمية تشكل بداية تشكل النظام العالمي الجديد متعدد القطبية.
لقد أرادوا أن تكون الحرب على سوريا لإنهائها وإنهاء المحور المقاوم معها، ولكن الله وعد في كتابه الكريم أنه عندما يحصل الإفساد الثاني الذي نعيشه اليوم فسوف يأتي النصر الحاسم في سورة الإسراء " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا"، صدق الله العلي العظيم.