الأوروبيون وروسيا أمام التحوّل الكبير: تفاهمات كابحة.. أم سباق تسلّح؟
النظام الأمني في القارّة الأوروبية على عتبة تحوّل كبير. الاميركيون ينسحبون منها، تدريجياً، موصين الأوروبيين بأن يهتموا بتوفير المظلة الأمنية لأنفسهم. الاتحاد الاوروبي وصلته الرسالة، المكررة على مدار سنوات، ليعلن انطلاقه إلى تكوين قوى عسكرية عظمى تقوده إلى «الاستقلالية الاستراتيجية». الانطلاقة بدأت بتركيب مُحركات مختلفة تنطلق بالصناعة الدفاعية، الانتقال إلى تشارك القدرات العسكرية، بالتوازي مع العمل لتشكيل هيكل قيادةٍ يفتح إمكانية التحرك العسكري المستقل. لكن الأمر ليس بلا مضاعفات دولية، خصوصاً في ظلّ العلاقات الأوروبية المتوترة مع روسيا. هنا تأتي التحذيرات من إطلاق العنان لسباق تسلح جديد يهدد القارّة، والدعوات لاتفاقيات جديدة تحتوي المخاطر الممكنة.
المشكلة في بعض الأوصاف أنها تعني بالضبط، وكثيراً، ما تتحدث عنه. ما الفرق إذا قال زعيم دولة، في لحظة توتر دولي كبير، إن هذه الدولة هي قوة عظمى، أو قوة إقليمية، حينما يكون الغرب كلُّه مشغولاً بنقدها؟ لكن كل شيء بالنسبة لروسيا اليوم يدور بين توصيف القوة الاقليمية أو القوة العظمى. الفرق يمكن أن يكون فوق التصوّر، مثل أن يقود روسيا إلى سابقة التحشيد العسكري في سوريا، لتقول للغرب إنه لا يمكن تجاهل إرادتها، كيفية رؤيتها للحلول، لأنها كما يمكن أن يروا الآن: قوة عظمى لا يمكن فعل أي شيء في سوريا من دونها. تقول ذلك للولايات المتحدة، على وجه التحديد.
المشكلة مع الخطأ بالتوصيف، من ذاك العيار، حينما لا يكون من زلّة لسان. كانت لحظة الخطأ ذلك الصدام بين المشروع الأوروبي، بكل الدعم الأميركي لآفاقه، خلال محاولته التمدد في المجال التقليدي للنفوذ الروسي. خلال ذروة الأزمة الأوكرانية، كان الرئيس الاميركي باراك أوباما في جولة أوروبية، وصلت به مدينة لاهاي الهولندية لحضور قمة عن الأمن النووي. في ذلك اليوم من آذار 2014، حدث الخطأ. قال أوباما إن روسيا ليست أكثر من «قوة اقليمية»، شارحاً أنها «قوة اقليمية تهدد جيارنها المباشرين من منطلق ضعف لا من منطلق قوة». لم تكن زلة غضب. عاد وزير الخارجية جون كيري ليكرر الاستفزاز نفسه، عازفاً على وتر التوصيف.. المستصغر!
مرّ وقت، وأحداثٌ كثيرة، على جملة أوباما تلك. صححها لاحقاً، بإصرار، في زيارة الوداع الالمانية للقارّة، متحدثا عن روسيا كـ «قوة عسكرية عظمى». لكن رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر لم ينس ذلك، خصوصاً أن السياسي المخضرم يعرف أيّ خسائر سببها ذلك التحدي المستصغر. قال يونكر قبل أيام إن أوباما ارتكب «خطأ كبيراً في التقييم»، مشدداً على أن «روسيا يجب أن تعامل ككيان كبير وأمة معتزة بنفسها». كيف لا، قال، حينما يكون الاتحاد الاوروبي يمتدّ على 5.5 ملايين كيلومتر مربع، فيما تتسع الأرض الروسية على أكثر من ثلاثة أضعاف تلك المساحة (17.5 مليون كم مربع).
لكن مراجعات كهذه لا تأتي بريئة. هناك أسباب موجبة جداً لتلك الكياسة السياسية. كل ما تقدم به يونكر يأتي، في الجوهر، ليقول إن النظام الأمني في القارة الأوروبية أمام تحول كبير. أي نظام سيأتي، شكله بالضبط، الأمر غير معروفاً تماما. أميركا سيحكمها دونالد ترامب، حامل تعويذة «لا شيء بالمجان»، بعد وعيد متواصل أن أوروبا يجب أن تحمي نفسها، فضلاً عن حديثه عن حلف «الناتو» بوصفه هيكلاً أمنياً «مرّ عليه الزمن». لكن هذا الهيكل هو ما يحمي أوروبا، ما يشكّل العلاقة الأمنية مع روسيا المتاخمة التي تعتبره الخصم، بكل ما يعنيه ذلك من احتساب عسكري للردع المتبادل.
لا يفوت يونكر تلك الحسابات، لكنه يقول متودداً لروسيا إنه بدونها «لا يوجد هيكلٌ أمني في أوروبا». العالم يتغيّر الآن. الاوروبيون يمضون إلى تشكيل دعامة جديدة في مشروعهم الكبير، عبر المضي لانشاء اتحاد أمني ودفاعي، يأتي متمماً لاتحاد اقتصادي ومالي. بروكسل كلّفت هذا المشروع، بتفويض قوي من باريس وبرلين. أمس تبنت المفوضية الاوروبية الخطوة الملموسة الأولى، عبر إقرار «خطة العمل للدفاع الأوروبي». الخطة تتمحور حول تقوية الصناعة العسكرية، إنشاء صندوق أوروبي يموّل الابحاث العسكرية بما هي قلب تلك الصناعة، في موازاة رعاية تعاون غير مسبوق يمكّن الدول الاوروبية الراغبة من امتلاك وإدارة معدّات عسكرية استراتيجية.
لا حاجة للاستنتاج أنها خطوة «تغيّر قواعد اللعبة»، فالمفوضية قالت ذلك بنفسها حينما أعلنتها. يونكر أجمل الأمر لجهة أبعادها السياسية، كما يفعل الجنرالات، بالقول «لضمان أمننا الجماعي علينا استثمار تطوير للقدرات والتكنولوجيا المشتركة ذات الأهمية الاستراتيجية، في البحر والبر والجو والأمن السيبراني»، ليصل إلى الخلاصة «إذا لم تهتم أوروبا بأمنها الخاص، فلا أحد آخر سيقوم بذلك عنّا».
الأوروبيون حساسون من استخدام مصطلح «الجيش الاوروبي»، لكن الأفق لا يقول شيئاً آخر. كان «الأطلسي» حتى وقت قريب المفوض الحصري بتوفير المظلة الأمنية لأوروبا، حتى إن ذلك يَرِد حرفياً في المعاهدة الأوروبية. لكنّ أحداثاً عديدة غيرت ذلك، بما فيها قرار خروج بريطانيا. خرج بعدها زعماء الدول الـ27 الأخرى معلنين تمسكهم بالتكتل، عبر الدفع بأولويات، على رأسها توفير الأمن الذاتي: «نريد الاتحاد الاوروبي لا فقط لضمان السلام والديموقراطية لكن أيضاً لتوفير الأمن لشعوبه». تلك العبارة قطعت مع حصرية «الناتو» كمظلة أمنية، لكن الحلف يدعم الخطوة لأن «أوروبا قوية تعني أن الناتو أقوى»، بمعنى أن «الجيش الأوروبي» سيكون دعامة في البناء الأطلسي مع إمكانية تحركه بشكل مستقل.
خطة العمل الأوروبية في المجال الدفاعي تظهر جدية واضحة، نظرا إلى الحاجة التي جعلت بعض الدول تتراجع عن ترددها كما أعلنت بروكسل. سيخصص صندوق تمويل، من الموازنة الاوروبية، للأبحاث الدفاعية. سيبدأ مع 25 مليون يورو، يرفع إلى 90 مليونا، ليستقر وفق المخطط على 500 مليون سنوياً بعد 2020. سيتم إنشاء هيئة خاصة لتنظيم مشتريات عسكرية مشتركة، بخصوص مشاريع لحيازة أسلحة استراتيجية، وفق أولويات الدول الراغبة في هذه الملكية الجماعية.
اللافت أنه تجري دراسة إصدار سندات خزانة خاصة (أوراق مالية) تحت مسمى «سندات الدفاع»، يمكن أن تدعم مشتريات الأسلحة المشتركة. التشجيع يقدم أيضاً حوافز تتعلق بالمرونة في مراقبة عجز الموازنات وحجم ديون الدول المشاركة. الحوافز الأهم تشغيل معزوفة شعبية: هناك هدر هائل في المال العام يمكن استخدامه مجالات أخرى كثيرة، تستغيث من نقص التمويل. تقديرات المفوضية تقول إن نقص التعاون الدفاعي الاوروبي يكلف هدرا بين 25 إلى 100 سنويا. مثلا، هناك نحو 20 مشروعا منفردا لتطوير طائرات من دون طيار، ثم «نذهب لنشتري من الاميركيين»، كما قال أحد المسؤولين الاوروبيين ساخرا.
لكن التحرك لبناء قدرات فعالة، تليق بطموح «قوة عسكرية عظمى»، مسألة تغير قواعد اللعبة مع روسيا أيضا. المعادلة الحاكمة الآن هي تحذيرات روسيا من تمدد «الأطلسي» باتجاهها، وضع قوات جديدة في الجوار، إذ تردّ بالمناورات واستعراض تطويرها للقوة الرادعة. لكن حينما تعمل الدول المجاورة، بنفسها، على بناء الحشد العسكري، لن يمكن الاعتراض باستخدام عذر المطامع الأميركية «الاطلسية». سيكون الرد، كما هو متوقع، العمل الموازي على بناء قدرات أكبر لاقامة توازن رعب جديد.
بكلمات أخرى، قالها قبل أيام وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير، القارة أمام «مخاطر وخيمة» ستتولد عما يبدو أنه يمكن أن يتطور إلى «دوامة تسلّح جديدة». هنا روسيا ضرورية، وهنا يأتي كلام يونكر عن الحاجة إليها لوضع هيكل أمني يحفظ القارة من الانزلاق لحروب جديدة. الوزير الالماني قاد مبادرة انضمت لها 15 دولة أوروبية داعية لاقامة «حوار منتظم جديد» مع موسكو بشأن احتواء تلك المخاطر. المسألة تمسّ «اتفاقية الاسلحة التقليدية في أوروبا»، الموقعة عام 1990، لكن روسيا انسحبت منها في عام 2015، بعد سنوات من تجميدها اعتراضاً على نشر أنظمة صواريخ «أطلسية» في بولندا والتشيك. روسيا من جهتها قالت إنها جاهزة لهذا الحوار، والدول الاوروبية ستلتقي قريبا لاستكمال تلك المبادرة. لكن التنافس القائم بين مشروعين متنافرين، لا يقدم إجابة أكيدة: هل ستنجح تفاهمات الاحتواء أم التسابق التسلّحي بكل مخاطره؟
نشرت للمرة الأولى في "السفير"