التمرد على أميركا والغرب له ما يبرره
أينما ذهبت في العالم العربي تسمع انتقادات لأميركا ودول الغرب. أكاد أجزم أني في السنوات الأخيرة لم أقابل مسؤولاً عربياً في القيادة السياسية أو في الإعلام أو قطاع أو آخر من قطاعات الأمن، إلا وألقى على الغرب مسؤولية عجز أو آخر في الأوضاع الداخلية لبلاده والوضع الإقليمي بصفة عامة. لا أقول أني مفاجأ، فقد تعوّدنا على سلوكيات مزدوجة الشكل وأحياناً الجوهر من جانب أهل المنطقة وحكامها في تعاملهم مع أفكار الغرب وسياساته وعملائه. ولكني أقول إن ما يوجه إلى الغرب في الوقت الراهن من انتقادات تحوّل في بعض الحالات إلى مواقف وسياسات عدائية يكاد يأخذ سمة أو أكثر أقرب ما تكون إلى سمات حركات الاستقلال الوطني التي تنامت خلال الحرب العالمية الثانية، وتكللت باستقلال عشرات المستعمرات في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. الفارق الجوهري يتجلّى في طبيعة قيادات الحركة، إذ بينما تصدّرت الشعوب وقيادات نابعة منها الحملة الأولى ضد الاحتلال أو الهيمنة الغربية، نكتشف أن الحملة الراهنة ينظمها ويقودها قادة ومسؤولون حكوميون يساعدهم مفكرون وأكاديميون، وتعتمد في أغلبها على مؤسسات وتنظيمات دينية وعسكرية متحالفة مع الطبقة الحاكمة. هذا الفارق الجوهري الذي يميّز حركة الانتقادات الراهنة عن حركة الاستقلال الأولي في منتصف القرن الماضي هو الذي يجعلني أميل إلى استخدام تعبير «التمرّد» وليس «الثورة» لوصف الحركة الراهنة الناشبة ضد الغرب في الشرق الأوسط وأقاليم أخرى.
لم أكن وحدي صاحب ملاحظة أنه لم تنشب ضد الولايات المتحدة والغرب عموماً بحسب ما أذكر مظاهرة شعبية صاخبة وغاضبة في روسيا أو الصين أو مصر أو المملكة العربية السعودية، وكلها دول يتزعم قادتها الآن حملة الهجوم على أميركا. هذه الملاحظة قد توحي بأن الشعوب راضية كل الرضا أو أكثره على السياسات الأميركية تجاهها، أو توحي بأن حكومات هذه الدول الغاضبة على أميركا تعمّدت عزل شعوبها عن ساحة معركتها مع النفوذ الأميركي. نعلم علم اليقين أن بعض هذه الدول يستطيع لو شاء حشد عشرات الألوف للتظاهر ضد أميركا أو غيرها، ونعلم أن هذه الدول لم تفعل برغم ضراوة اللغة المستخدمة إعلامياً في حملات الانتقاد والابتزاز، وفي الاتهام بالتدخل والتخريب.
لاحظنا أيضاً اشتراك العدد الأكبر من الدول المتمرّدة على أميركا بخاصة والغرب عامة في ممارسة سياسات أو رفض سياسات بعينها. أغلبها مثلاً يرفض، أو يستهين، بما تصورته دول الغرب إنجازاً له، وهو التزام الديموقراطية ومؤسساتها، واحترام الحقوق السياسية والإنسانية للمواطنين وفي مقدّمها حرية الرأي والتعبير. يرفضون كذلك أن ينشأ مجتمع مدني مستقل بدرجة مناسبة ومساهم في عملية بناء الدولة. هم أيضا متمردون على فكرة غربية سادت في الغرب وورثتها عنه بعض الدول التي استقلت خلال القرن العشرين، وهي فكرة المكانة المتميزة التي يجب أن يحظى بها دستور البلاد. يكاد البعض منهم يُعرب عن قناعته التامة بأن المطالبة بأولوية الدستور على ما عداه من طموحات الزعماء ورؤاهم وتوقيتاتهم لمراحل بناء الدولة إنما هي مؤامرة غربية هدفها إبطاء عملية اللحاق بالغرب أو بناء الدولة القوية.
تبدو ضارية الحركة الناشطة حالياً للتمرد على الهيمنة الغربية، ولدينا المثل في الأوضاع الراهنة في تركيا ومن حولها. تركيا كانت في مرحلة ما الجوهرة التي يعتز بها «حلف الأطلسي»، كانت بالنسبة لأميركا قائدة الحلف ولألمانيا كذلك بل وللغرب كافة المكانة التي كانت للهند في الإمبراطورية البريطانية. أقامت للغرب النظام الديموقراطي بمختلف مؤسساتها المعروفة فيه، برلمان وأحزاب سياسية وصحافة شبه حرّة ومؤسسات دينية لا تتدخّل في السياسة. سمح لها الغرب باستثناءات محدودة مثل الدور السياسي الذي ورثه الجيش عن حركة كمال أتاتورك وهو الدور الذي اعتبره الغرب مفيداً، حيث إنه تكفَّل بمسؤولية الحفاظ على علمانية الدولة. الآن وبعدما كاد أردوغان ينجح في تنصيب نفسه زعيماً أوحد لتركيا على رأس نظام ومؤسسات ديموقراطية، اكتشف أن أميركا لم تعُد تمثل الدرع الحصين الحامي لتركيا، وأن مطالب الغرب لم تعُد تناسب طموحات وسياسات النظام الحاكم في تركيا. النظام في تركيا يريد فرض عقوبة الإعدام كأداة بتر وحسم لصراعه مع فلول الجيش الأتاتوركي والتيار الديني المتطرف نسبياً عن أردوغان وحزبه الإسلامي، والغرب ممثلاً في الاتحاد الأوروبي يرفض ويهدد بعقوبات إن فعل. فيردّ النظام بأنه سيفعل ما يريد وسوف يردّ على العقوبات الغربية بعقوبات أشد. يقصد فتح الحدود أمام مئات الألوف من السوريين والأفغان والأكراد للعبور إلى أوروبا. يقصد أيضاً الاستمرار في تسليح الإرهاب المقيم في شمال سوريا. يقصد كذلك، وهو تهديد خطير، أن تصبح تركيا بين يوم وليلة خط الدفاع الأول للاتحاد الروسي في مواجهة الغرب بعدما كانت تجسّد خط الدفاع الأول لـ «الناتو» في مواجهة الاتحاد السوفياتي وروسيا البوتينية.
تركيا، على كل حال، ليست المثال النموذجي أو المثال الأوحد. كثيرة أصبحت نماذج التمرد على الغرب، وعلى أميركا بوجه خاص. روسيا الجديدة بكل ما يخططه وينفذه الرئيس فلاديمير بوتين منذ توليه الحكم بانقلاب ديموقراطي على الرئيس بوريس يلتسن نموذج لتمرد متعدد الجبهات والصيغ. قاد روسيا على طريق غير الطريق التي اختارتها الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية لتسلكها روسيا ما بعد الشيوعية. استعان بالكنيسة لاستعادة الروح القومية ومنهما معاً أقام قاعدته المناوئة للغرب. نفى خصومه المتعاونين مع الغرب وهدّد بالويل كل حاكم في دول الجوار تراوده الرغبة أو الحنين للتعامل مع «حلف الأطلسي» أو الاتحاد الأوروبي.
وفي الشرق الأوسط، خارج تركيا، تعدّدت النماذج. الثورات العربية لم تنشب انتقاماً أو غضباً على الغرب ولكنها انتهت تمرداً عليه بسبب تدخّله أكثر من مرة لتحويل الثورات عن مساراتها، وبسبب تخلّيه عنها لمصلحة اعتبارات غير أخلاقية، وفي التقييم النهائي لفصائل «الربيع» كافة، أثبت الغرب عجزاً هائلاً في الكفاءة وتضارباً غريباً في السياسات والمواقف.
أتصور أنه لا بد وجرى تقييم لحال الغرب من جانب معظم أنظمة الحكم العربية وعدد متزايد من أنظمة الحكم في آسيا ومنها الفلبين وميانمار وتايلاند وغيرها على الطريق، سواء الأنظمة التي استفادت من مواقف الغرب المتضاربة وتلك التي تضررت من مظاهر عدم الكفاءة. يخلص التقييم، من وجهة نظري، إلى أن الغرب يتدهور، وأنه يمر في مرحلة ضعف، والأهم أنه لم يعد نموذجاً يُحتذى وبخاصة بعد الأزمات المتلاحقة ابتداء بأزمة الرأسمالية وصعود تيار المحافظين الجدد والنيوليبرالية الهدامة وانحسار العولمة، وهو ما كشف عن أسوأ ما في المجتمع الغربي من تشوّهات مثل اللامساواة والتفرقة العنصرية والعنف. كذلك لعبت دوراً مهماً في التقييم أزماتُ الاتحاد الأوروبي وتجاربُ الرئيس أوباما في ترطيب مرحلة التحول التاريخية التي تمر فيها الولايات المتحدة.
صورة الغرب ومجموعات مبادئه وأخلاقياته تتعرض الآن للإساءة لأسباب عديدة، ليس أقلها شأناً ضعفه المتزايد وانكشاف تدهور مستوى قياداته، ولكنها الصورة التي يجري استغلالها في بعض الدول للعودة بالإنسان إلى حالته ما قبل ثورات الاستقلال و «الربيع» تحت عنوان التقدم بطرق غير ديموقراطية.
نشرت لأول مرة في "السفير"