الصين وعتبات القوة المعاصرة 2-2
راجعنا في الجزء الأول مختلف الإجراءات السياسية الشعبية ل"صن يات سين" وللحزب الوطني الذي أسسه . وغني عن القول أن العرض الكامل والشامل لأفكار "صن يات صن" يتجاوز حدود هذا العمل. وهكذا فإننا سوف نقدم مجرد موجز مقتضب لفكرة مؤسس حزب الكومينتانغ.
بشكل عام فإن العقيدة السياسية ل"صن يات سين" تعتمد على المبادئ الثلاثة التي جعلها عنوانا لكتابه الذي نشر عام 1924. لقد استخدم "صن يات سين" هذا التعبير عام 1905 للمرة الأولى ساعيا من خلال ذلك إلى خلق تكاملية لدى الأمة من خلال الديمقراطية ورفاه الشعب في مشروع سياسي وثوري واحد.
وفقا لـ "ماري كلير بيرجير”، فمن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أن "صن يات سين" عمل بشكل دائم على إعادة إنشاء عقيدته السياسية وفقا للحالة المتغيرة باستمرار في الصين والعالم، لقد سعى دائما للاستجابة للظروف الجديدة مع الواقع الذي اقترحه. بالنسبة له يجب ملاءمة النظرية مع الواقع وليس الواقع مع النظرية.
لقد كانت رؤية غالبية المفكرين الصينيين بما فيهم “ماو تسيتوتغ” هي تحديث بلادهم بحيث يكون استيراد الأفكار الإيديولوجية مناسبا لخدمة الأهداف الوطنية الصينية وألا يتعارض مع الثقافة التي تخدم أهداف الأمة الصينية.
لا يمكن للمرء القول بصورة عامة أن أفكار "صن يات سين" جيدة أو سيئة. فمن الضروري معرفة فيما إذا كانت مفيدة أو غير مفيدة لتحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها. إذا كانت مفيدة فهي جيدة، وإذا كانت غير مفيدة فهي سيئة.
لقد أسس "صن يات سين" فكره السياسي الذي يقول أن شرور الصين كلها جاءت من غياب الضمير لدى غالبية الشعب الصيني، بالنسبة له فإن غالبية الصينيين فقدوا الشعور بالأمة وكان هذا هو "المفتاح" الذي شرح من خلاله الوضع الفوضوي الذي تمر به الأمة:
يدعي "صن يات سين" أن الصينيين فقدوا الشعور ب” الأمة-الدولة” وهم لم يعودوا يجدون أنفسهم فيها وبالتالي لا يجدون التزاما نحو هذه الأمة وهذه الدولة. وكنتيجة منطقية فمن الضروري العمل بشكل مكثف إعادة إعمار الضمير القومي للشعب الصيني. بالنسبة ل "صن يات صن" فإن إعادة "ولادة جديدة وطنية كبيرة" يحتاج لإعادة تثبيت القيم المفقودة للهوية الصينية التي تربى عليها الشعب الصيني لقرون عديدة. واعتبر أنه خلال القرن التاسع تم بتر أجزاء مختلفة من الأراضي الوطنية الصينية من قبل القوى أجنبية كبريطانيا وفرنسا وروسيا. لذا كان هدف القوى الأجنبية هو احتلال أرض الوطن. ومع ذلك فقد تخلت القوى الأجنبية منذ بداية القرن العشرين عن سياسة الاحتلال لأنهم أدركوا صعوبة هائلة في قهر إقليم مترامي الأطراف مثل الصين، لكن هذا التخلي ترك الحذر لديهم من المنافسة الصينية القادمة لا محالة.
ومع ذلك فإن القوى الأجنبية كما يؤكد "صن يات سين" لم تغير هدفها المتمثل في "الهيمنة" على الصين وأنها مجرد "تحول تكتيكي". هم تحولوا من "القمع السياسي الى القمع الاقتصادي". ووصلت قوى أجنبية مثل إنجلترا إلى استنتاج مفاده أن عليهم التخلي عن هدف تحقيق الهيمنة السياسية على الصين من أجل محاولة الحصول على الهيمنة الاقتصادية ". ولكن الحقيقة أن الصين لم تكن رسميا مستعمرة لأن الغالبية العظمى من سكان الصين كانوا أمة حرة.
بالنسبة لمؤسس حزب “الكومينتانغ”، وهو تحليل صحيح للواقع الصيني، الصينيون يرفضون الاعتراف: "الصين دولة لا يمكن أن يهيمن عليها".
يعترف "صن يات سين" أن الصين على عكس دول أخرى من أفريقيا أو آسيا، لم "تستعمر رسميا"، وبسبب هذا حافظت الصين على بعض من "السمات الرسمية" للسيادة. ومع ذلك، مع النواحي المعاصرة ذكر أن:
"الصينيين مخطئون عندما يمزحون من باب الدعابة على الكوريين أو الفيتناميين وينظرون لهم بازدراء كأنهم عبيد دون وطن". وقال انه لن يتعب من تحذير الصينيين من الخظأ من هذا الافتخار أن بلدهم لم يتعرض للاستعمار منذ سنوات طويلة. لقد ذكر أن الصين لديها وضع أسوأ من وضع المستعمرة. فالصين هي مستعمرة لجميع الدول التي أقامت معها معاهدات ظالمة عرضتها للإذلال والهيمنة من قبل تلك الدول. لقد كانت شبه مستعمرة من جميع تلك الدول.
عرض "صن يات سين" بين عامي 1918 و 1920 فكرته عن التنمية الاقتصادية في سلسلة من المقالات التي نشرت في مجلة البناء، المجلة الرسمية لحزب الكومينتانغ، هذه المقالات جمعت في وقت لاحق وتم نشرها في كتاب تحت اسم خطة للبناء الوطني، يتكون العمل من جزئين كبيرين الأول بعنوان "علم النفس وإعادة الإعمار" والثانية "المواد وإعادة الإعمار". في عام 1921 تٌرجم الجزء الثاني من كتابه إلى اللغة الإنجليزية ونشر في لندن تحت عنوان التنمية الدولية في الصين. "صن يات سين" عرض في وقت لاحق أفكاره الاقتصادية بطريقة أكثر اكتمالا من خلال كتابه الثالث الذي عرضه في المؤتمرات التي عقدت في عام 1924، وقال انه أعطى صورة متكاملة عن عقيدته السياسية للأطر السياسية لحزب الكومينتانغ. في كتاب التنمية الدولية في الصين علل مؤسس حزب الكومينتانغ موقفه بحجة عقلية بسيطة، ولكنها حجة مقنعة. وهي أن واقع المجتمع الصيني هو الفقر وأن "المعالجة الجذرية لهذا الشر تتم من خلال التنمية الصناعية"، مذكرا أن الولايات المتحدة وألمانيا ومن خلال الحماية الصناعية تحولت من دول زراعية إلى قوى صناعية كبرى. الصين الحديثة بتطورها المذهل وهو تطور مستمر ومتسارع هو أفضل مثال عن الواقع الذي وصلت إليه الصين نتيجة لتطبيق هذه الأفكار والقرارات السياسية.
حسب أفكار "صن يات سين" فإنه من أجل تنفيذ إعادة الإعمار في الصين يجب العمل على مشروع كبير للتنمية الوطنية والتنمية الصناعية من خلال بناء السكك الحديد والاستفادة القصوى من الأنهار الكبيرة وبناء السدود وتأهيل البنية التحتية اللازمة للتغلب على الفقر وعلى الهيمنة الاقتصادية للقوى الأجنبية.
علاوة على ذلك، فإن تحدي العصرنة وتحويل الصين إلى بدل صناعي، يتطلب العودة إلى الوراء بقدر الإمكان والعمل مع الغرب وليس ضد الغرب، لأن الغرب يمتلك رأس المال والمعدات الصناعية والفنيين وكل ما تحتاجه الصين من أجل البدء في تنميتها الوطنية. ولكن مشاركة رأس المال الأجنبي في تنمية الصين يجب أن تكون منظمة للعمل على المدى الطويل وفي سبيل المصلحة الوطنية. وهكذا قال زعيم حزب الكومينتانغ: "خلال الدراسات وعمليات البناء حيث ستتم جميع دراسات المشاريع الوطنية الكبيرة وإدارتها من قبل خبراء غربيين يجب عليهم كجزء من التزاماتهم تدريب المساعدين الصينيين ليحلوا محلهم في المستقبل، إن مراقبة هذه الأفكار التي عمرها أكثر من تسعين عاما تدعو إلى الدهشة ، وكيف تحولت الصين من خلال ذلك إلى دولة كبيرة ولاعبة رئيسة في العالم.
لاشك أبدا أن هذه الإيديولوجيا الثورية ستبقى مرافقة للصين في تطورها لتعبر عتبات القوة وتكون قصة لتاريخ جميل عن العبور من الفقر إلى التطور والازدهار.
تجسيد الأفكار
ولمزيد من دعم تأكيداتنا، لسنا بحاجة لأكثر من إعطاء لمحة سريعة عن السياسات التي طبقت في الصين من حوالي 1979. من مجرد إعادة سرد الحقائق يمكن للمرء ليس فقط أن يستنتج بوضوح أن سياسات الدولة الصينية جاءت وفق مقترحات "صن يات سين" بشكل شبه دقيق، دقيقة تقريبا، ولكن أيضا إلى جانب ذلك، فإنه يمكن أن يرى أن النتيجة التي تم الحصول عليها ليست ثمرة عشوائية بل هي بسبب التطبيق الصحيح لتلك السياسات. وهكذا، في عام 1979 في جنوب شرق الصين تم إنشاء أربع "مناطق اقتصادية خاصة" ، وفي عام 1984 تم تأسيس أربع عشرة مدينة ساحلية مفتوحة على رأس المال الأجنبي. في عام 1990 بدأت هذه العملية بالوصول إلى المناطق الداخلية من البلاد. ورحبت الشركات متعددة الجنسيات بالنموذج الجديد للتنمية الصينية، حيث يوجه رأس المال الوطني بشكل صارم من قبل الدولة المركزية.
وفقا لتقرير الاستثمار العالمي الذي أجرته منظمة "الأونكتاد"، بلغ المتوسط السنوي للاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين بين عامي (1980 و 1985) حوالي 718 مليون دولار. وبعد عشر سنوات، في عام 1995، وكانت هذه الاستثمارات بالفعل أعلى خمسين مرة من الفترة بين عامي 1980 و 1985. وفي عام 1996، وصل الرقم إلى 40.180 مليار دولار، وفي عام 2001 وصلت إلى 46.846 مليار دولار. خلال عشرين عاما، من بين أكبر خمسمائة شركة في العالم، تم بالفعل تثبيت أربعمائة في جمهورية الصين الشعبية. في مدينة شنغهاي وحدها تم افتتاح 98 شركة متعددة الجنسيات. ومنذ عام 1990 أصبحت موجة الاستثمارات الأجنبية في الصين التي تقوم بها الشركات من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان حدثا ثابتا في الاقتصاد الدولي.
دون أدنى شك، كان عام 1990 هو العام الذي تمكن فيه "النموذج الصيني للتنمية" من قلب صفحة مهمة في التاريخ الاقتصادي لجمهورية الصين الشعبية نظرا إلى أن تلك السنة أصبح للصين ميزان تجاري رابح (إيجابي)، حيث تمكن بين عامي 1997 و 2001 من الحصول على نقد أجنبي بمقدار 159 مليار دولار. ولم يكن هناك أي اقتصاد آخر في العالم في ذلك الحين قادرا على مواكبة معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين التي حققت معدل زيادة سنوي قدره 10% حلال عقد الثمانينات، بطريقة متواصلة ودون انقطاع. لدرجة أن اليوم، في المصطلحات الاقتصادية، أصبح القول "أن ينمو بمعدلات صينية" يعني أن ينمو كثيرا، وبطريقة سريعة ومستدامة.
ومنذ ذلك الحين، كان هدف القيادة الصينية الأساسي هو إنشاء مجموعة من الاحتكارات لديها القدرة على العمل والاستثمار في جميع أنحاء العالم. بين عامي 1980 و عام 2000 نمت الاستثمارات الصينية المصدرة إلى الخارج من 148 مليون دولار إلى 402 مليار دولار، أو بالأحرى ما مقداره 2700 مرة أكثر. جزء كبير من تلك الاستثمارات تدفقت، على نحو متزايد، نحو البلدان النامية أوالأقل نموا، وكان الهدف النهائي هو استغلال المواد الخام في تلك البلدان من أجل حتمية استمرار التنمية في جمهورية الصين الشعبية.
في عام 1998 أكملت الشركات الصينية الحكومية استثماراتها في أربع وعشرين دولة في أمريكا اللاتينية وقد أسست 195 شركة، سواء كان ذلك تحت عنوان مشاريع مشتركة أو شركات صينية بحتة، مع حجم استثمار ما مجموعه أكثر من 300 مليون دولار. في عام 1992 اشترى "كونسورتيوم شوغانغ الصيني" منجم الحديد "ماركونا" في البيرو، ودفع له مبلغ 120 مليون دولار. ومن المهم أن نشير إلى أن أهم وأكبر شركتين مصدرتين للاستثمارات في الصين كانتا من الشركات البترولية التي تملكها الدولة: شركة البترول الوطنية الصينية (سي.ان.بي.سي) وشركة "سينوبك". حققت شركة الصين الوطنية للبترول مبيعات قيمتها 41،500 مليار دولار في عام 2001، ورسميا، حصلت على أرباح بقيمة 5 مليارات دولار. بينما حققت "سينوبك"، من جانبها، حجم المبيعات 40.400 مليون دولار في العام نفسه. في عام 1993 ربحت شركة البترول الوطنية الصينية مناقصات للنفط في العراق، كازاخستان، بيرو والسودان وفنزويلا، وحاولت اختراق تركمانستان وإندونيسيا وإيران. وقد واجهت اتحادات النفط الصينية حالة من التنافس بطريقة عدوانية ولا سيما في الشرق الأدنى - في الجمهوريات السوفيتية السابقة - مع الشركات الأمريكية والأوروبية والروسية.
وترافقت سياسة "تصدير رؤوس الأموال"، منذ البداية، مع سياسة "تصدير السكان". حيث تم توجيه هذه السياسة نحو إنشاء مستعمرات صينية كبيرة في الخارج. يكون هدفها "الاستراتيجي" إنشاء محاور بشرية مهمة في المستقبل القريب والبعيد يمكن أن تبقى مرتبطة ثقافيا وعاطفيا مع الصين، وبالتالي تميل إلى أن تكون "موالية" للسياسة الخارجية الصينية.
لتحليل صحيح للعملية الاقتصادية الصينية يجب الأخذ في عين الاعتبار أن حكومة بكين لم تتوقف عن "توجيه وتخطيط" استثمار رأس المال الأجنبي. حتى التسعينات من القرن الماضي وجهت الحكومة الصينية الجزء الأكبر من رأس المال الأجنبي نحو المشاريع القائمة على الصناعات الثقيلة وتأسيس المناطق الاقتصادية الخاصة. ومن ذلك التاريخ، فقد حاولت توجيه تغلغل رأس المال الأجنبي نحو إنتاج المزيد من الأصول المتقدمة والمتطورة التي من شأنها أن تتطلب كمية كبيرة من رأس المال والتكنولوجيا. وهكذا تم إنشاء شركات عملاقة بالتعاون مع شركات صينية حكومية بهدف الحصول على رأس المال والتكنولوجيا.
منذ العام 1990 قررت القيادة الصينية تنفيذ إستراتيجية "التنمية المتوازية". وجاءت هذه الإستراتيجية من الفكرة الرئيسية أن الصين لا ينبغي أن تركز كل طاقتها على التنمية المتسارعة وحسب بل على التركيز إلى جانب ذلك وفي نفس الوقت على "محاولة لتطوير اقتصاد المعرفة المكثفة، وتجنب، حيثما أمكن، المراحل التقليدية للتصنيع "، لقد كانت هذه الإستراتيجية واضحة في نقل التكنولوجيا لاسيما في صناعة السيارات وفي الاتصالات السلكية واللاسلكية.
قدمت المشاريع المشتركة خدمة كبيرة للحكومة الصينية مثل "أبقار الحليب" وخاصة في قطاع السيارات الصيني. وهذا يعني أن الشركة الأجنبية تقوم بنقل التكنولوجيا إلى الصين حيث تتدخل الحكومة الصينية مباشرة في المفاوضات وتحدد ما ينبغي نقله من تكنولوجيا، وعلاوة على ذلك يشترط الجانب الصيني، أن ينتج جزء كبير في المشاريع المشتركة (يصل إلى أكثر من 90 في المائة) من قطع الغيار المستعملة في الصين ولا يتم استيراده من الخارج.
مرة أخرى هذه حقيقة سياسية تتفق مع مبادئ التنمية والتوجيهات التي قالها "سان يات سن".
اليوم، تتجه الصين بشكل رئيسي نحو التكنولوجيا العالية والتي جعلت الشركات الصينية تبدأ بالمنافسة بنجاح مع الشركات الأجنبية المنافسة لها. حاليا يعتبر سوق الكمبيوتر والذي كان حتى عام 1990 في أيدي شركة "آي بي إم"، سوقا رائدا حيث يتم الآن اختراق أسواق "كومباك" و"هيوليت باكارد" من قبل الصينيين الذين يمتلكون حاليا 27 في المائة من السوق المحلية.
في عام 2030 يمكن أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، في مثل هذه الحالة، من المحتمل جدا أن تتجاوز الولايات المتحدة بنسبة 50 في المائة وبالتالي تصبح الولايات المتحدة في المركز الثاني. أما الهند فقد تصل إلى ما يعادل نصف الاقتصاد الصيني وتحتل المركز الثالث، أما ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والبرازيل، فلن تمثل أي منها أكثر من عشر الاقتصاد الصيني.
عندما تصبح هذه الاحتمالات واقعا، سوف تودي إلى نمو مستدام في الصين ولفترة طويلة، وعندها ستكون الصين قوة عظمى ليس من خلال تاريخها وحسب، وإنما بتجاوزها عتبات القوة كما فعلت الولايات المتحدة عندما أكملت دورتها الصناعية.