الصين بعد ماو.. ومرحلة الانفتاح على العالم
من خلال التطورات التي تشهدها الصين على كل المستويات، لا بد من وقفة هادئة لمقاربة البُعد الثقافي ـ الأيديولوجي، الذي ارساه ماو تسي تونغ، ولاحقاً دنغ شياو بنغ من خلال سياساتهما الإصلاحية. هذا البُعد الذي استلهم روح الإصلاح والتجدُّد من خلال أبعاد فلسفية واخلاقية، تأثرت بالعقيدة الكونفوشيوسية في صياغة محددات سياسة الصين وقراراتها الإستراتيجية على مدى سنوات طويلة من الزمن.
وقد ادى كل ذلك التطور، ببعده المتسارع، الى المساهمة في صناعة القرار في الصين، وذلك على اسس مرنة ومتوازنة في آن، تُوائمُ بين البعد القومي في الحفاظ على التراث وبين التوجهات التجديدية والعلمية في عملية بناء الدولة وانفتاحها على الخارج، وفي تكوين بُنية المجتمع وتوجهاته العامة.
وقد انطلق المجتمع الصيني في عملية التحديث مقدِماً البعد المصلحي - البراغماتي على البعد المبدئي ـ الأيديولوجي، خاصة ان هذا البُعد (الأيديولوجيا) بدأ يتراجع في الصين، ليحل محله مستوى متقدم من الانفتاح الثقافي والتربوي والاجتماعي والتكنولوجي، الذي بدأ يأخذ أشكالا متنوعة في جميع أوجه الحياة التي تطال المجتمع الصيني بشتى شرائحه.
في هذا السياق، لا بد من القول إن البنية الثقافية الصينية تمر منذ بدايات القرن الحالي بمرحلة انتقالية. ويبدو أن الشكل الذي استقرت عليه هذه المرحلة الانتقالية من الناحية الثقافية، هو الإحياء القومي، الأمر الذي سيؤدي إلى التفكيك المتدرّج للتراث الماوي، وقد يأخذ ذلك شكل النقد المتدرج الهادئ لمرحلة ماو في البداية، ثم يتصاعد هذا النقد في ما بعد، ويركز على الهوية التاريخية والحضارية الصينية.
إن الخلاصة الأولية التي نصل إليها في البُعد الثقافي للهوية الصينية، هي أن المنظومة الثقافية الصينية في ميلها بشكل واضح نحو النزعة القومية، ستعمل على إعادة تشكيل توجهات الدولة، بعيداً عن الطموح الكوني الذي رافق مرحلة ماو تسي تونغ.
ومعلوم أن الهوية الثقافية للمجتمع تنعكس في بُعد آخر من أبعاد المجتمع وهو البنية السكانية، إذ لا تنفصل الزيادة السكانية أو سلوك الأقليات أو التباين بين الريف والمدينة عن هذه البنية الثقافية.
في مقاربة الوقائع التاريخية لسياق الأحداث، فإنه يمكن القول إنه بعد وفاة الرئيس الصيني، شو آن لاي، في كانون الثاني من العام 1976، ثم وفاة ماو تسي تونغ في أيلول من العام نفسه، انتهت حقبة «الثورة الثقافية الكبرى».
وأعقبت موتَ الرجلين مؤثراتٌ سياسية داخلية، حيث ألقي القبض على «جيانج قنج» زوجة «ماو» وعلى ثلاثة من رفاقها، الذين عرفوا باسم «عصابة الأربعة» وعُزلوا من جميع مناصبهم. كما عُزل كثيرون آخرون من كبار الشخصيات اليسارية في «الثورة الثقافية»، وعاد الزعيم والرائد الإصلاحي دينغ هسياو بينغ، الذي كانت «الثورة» أطاحته سابقاً، إلى السلطة في العام 1978، وبدأ قيادته للصين في مسارها الجديد، والعمل على تطبيق نظام اقتصادي رشيد من أجل تحديث الصين. ودخلت الصين مرحلة جديدة في التاريخ مع تولي دينغ مقاليد الحكم، وبدأت الصين تحت قيادته، بتطبيق سياسة «الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي» وتحويل مركز ثقل الأعمال إلى بناء التحديثات.
لم يخلُ عهد ماو تسي تونغ من الاضطرابات والمحن، فخارجياً واجه الحرب الكورية بين عامي 1952 و1953، وداخلياً واجه حركة «المئة زهرة» العام 1957 التي أدت إلى سقوط الآلاف من المعارضين له، و «القفزة الكبرى إلى الأمام» (1958 ـ 1961) التي نتج منها سنوات من الفقر والقمع، وصولاً إلى «الثورة الثقافية» التي لم يسلم من هولها دينغ شياو بينغ الذي سيصبح انطلاقاً من العام 1978 صانع التحول الصيني الكبير، أو إذا شئنا، الصحوة الصينية التي تنبأ بها نابليون بونابرت.
ويمكن القول إن رحيل ماو والسيطرة اللاحقة لـ دينغ وأنصاره على السلطة والحزب في الصين قد وحّدا، إلى حد معين، وأزالا التناقض المرئي بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، خاصة بشأن العلاقة مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
لقد كانت الأفكار المرشدة للدستور في العام 1954 هي أفكار ماو تسي تونغ التي تجمع المبادئ الأساسية للماركسية والممارسة الصينية الملموسة، وتواظب على الماركسية وتطورها بصورة مبتكرة. وكانت المهمة الأساسية للدولة في تلك الفترة تحقيق الإصلاح والبناء الاشتراكي. ومنذ العام 1978، بدأت الصين بتخفيف مركزية السلطة على الصعيد الاقتصادي والتخفيف من أعباء القطاع العام على مالية الدولة المركزية. وتنامى هذا الاتجاه بشكل متدرج في السنوات اللاحقة، التي شهدت ازدياداً في الاستثمارات الخارجية، وتنمية حصة القطاع الخاص والمشاريع المشتركة مع المؤسسات الاجنبية. وهذا المنحى تنامى ولم يتراجع، كما بدا لوهلة، بعد الضربة التي وُجهت في حزيران 1989 من قبل السلطة الصينية للتظاهرات التي اندلعت في ساحة «تيان أن مين»، الداعية إلى تغيير النظام السياسي باتجاه أكثر ليبرالية، وهي الضربة التي أعادت قبضة الدولة القوية على البلد وكرّست دعوة دينغ الشهيرة الى السكان بتكريس الجهود للاغتناء الشخصي وتحسين مستوى المعيشة.
وحتى العام 1982، كانت الأفكار المرشدة للصين تعكس نظرية دينغ هسياو بينغ التي توارثت الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ، وتطوراتها في الظروف التاريخية الجديدة.
ولكن حتى بعد رحيل ماو، فإن عدداً من الثوابت اكتسب صفة الدوام والاستمرارية؛ ولعل أول هذه الثوابت ما كاد يصل إلى مستوى القدسية، وهو مسألة وحدة الأراضي الصينية وعدم الاعتراف إلا بصين واحدة، عاصمتها بكين. وثاني الثوابت هو طبيعة النظام السياسي القائم على أساس الحزب الواحد وهو الحزب الشيوعي الصيني. وثالث هذه الثوابت هو تمايز وخصوصية مواقف الصين في الساحة الدولية. وقد أدرك دينغ على نحو متزايد أهمية اكتساب الصين لأسباب القوة الاقتصادية، وتدعيم هذه القوة بشتى الوسائل، بما في ذلك الانفتاح والتعاون مع الدول الرأسمالية الغربية ومؤسساتها المختلفة، وصولا الى العالمية والحضور الفاعل في بلورة الأدوار والتأثير الفاعل كلاعب رئيسي وازن لا يمكن تجاهله على المسرح الدولي.
جريدة "السفير"