الشرق الأوسط بعد ست سنوات على "الربيع العربي"
تسببت موجة الاحتجاجات التي اجتاحت الدول العربية إلى تحول جذري في الشرق الأوسط من خلال إعادة تشكيل كلية لنظام العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المنطقة. ومع أن معظم الخبراء يميلون إلى أن هذا التحول يعزى أساسا إلى عوامل داخلية، إلا أنه لم يتم تحديد العامل الأهم في التحولات العاصفة. وفي حين يشير البعض إلى تعثر التنمية الاجتماعية والاقتصادية كسبب رئيسي للاختلالات في المناطق (الفقر والفساد والبطالة، والتضخم الشبابي)، والبعض الآخر يميل إلى إيلاء أهمية أكبر للقضايا السياسية والنفسية (الحكم الاستبدادي، والحرمان النسبي، وما إلى ذلك) أو تلك العوامل الاجتماعية السياسية، مثل عدم وجود حراك مجتمعي.
من منظور إقليمي، تتشابك العمليات الجارية في شكل واضح مع الاتجاهات العالمية الأكثر مدعاة للقلق. في الواقع، فإن الشرق الأوسط يجسد هذه الاتجاهات: العمليات الدولية أصبحت أكثر من أي وقت مضى غير قابلة للحكم، ظهور القوة كعامل في العلاقات الدولية، والدور المتعاظم الذي تلعبه الصدف والاحتمالات، محيط العالم وما هو أبعد من ذلك يزداد قوة وسط أزمة في مفهوم الدولة القومية والهوية الوطنية.
وللأسف، فإن نتائج التحول الجاري كانت مقلقة للغاية. صحيح أنه في بعض البلدان توسعت المشاركة السياسية، وتم تحديث الأنظمة السياسية، وكان هناك بعض التناوب بين نفوذ النخب. وقد أيقنت بعض المجتمعات العربية الحاجة للإصلاح ووجدت حلولا مبتكرة للتعامل مع التهديدات والتحديات الجديدة. ومع ذلك، فإن النتيجة الموضوعية لهذه الفترة من التحول حتى الآن كانت إضعاف، وأحيانا، تدمير مؤسسات الدولة في عدد من الدول، وخلق الحروب الأهلية ومئات الآلاف من القتلى والصراعات تتصاعد وتمتد إلى المناطق المجاورة وإشعال الأزمات الإنسانية، وانتشار الإرهاب، وظهور "داعش" باعتباره تهديدا عالميا. التحالفات جديدة حلت مكان التحالفات القديمة في النظام الجديد للعلاقات الدولية في المنطقة. وانخفض تأثير سلطة الدولة في بعض المناطق، والجهات الفاعلة غير الحكومية أصبحت قوية في شكل متزايد. في بعض الحالات، فرضت هذه القوى الأجندة الخاصة بها، بينما في حالات أخرى كانت وكيلة لقوى خارجية. وتحولت البلدان التي دمرتها الحرب الأهلية إلى مناطق حروب بالوكالة.
فوضى قد تستمر عقودا
عملية التحول غير مكتملة على جميع المستويات، ولم تصل ذروتها حتى. ولم تتضح ملامح الإطار الإقليمي في المستقبل بعد، ولم يتم اقتلاع النظام القديم. هذا هو سبب التوقعات المتشائمة الحالية في الشرق الأوسط. التحولات السياسية العميقة قد تستغرق عقودا أو حتى فترة أطول، كما يتبين من تاريخ القرن ال20. يحاولون تفكيك النظام القديم، من خلال فترة من الفوضى تمهد الطريق لنوع جديد من الاستقرار. بالنسبة للطبيعة الفوضوية للوضع الراهن في المنطقة، يمكن تمييز بعض الاتجاهات المستقرة في تطورها. أولا وقبل كل شيء، كشفت عمليات التحول انطواءا معينا في منطقة الشرق الأوسط حتى أصبحت بلدان المنطقة أبعد عن بعضهما البعض.
وحتى الدول التي في مراحل معينة حاولت الاندماج في أنظمة فرعية إقليمية متنوعة (أوروبية وأو متوسطية أو غير ذلك) اضطرت على نحو متزايد للتركيز على قضايا وأجندات شرق أوسطية. وفي الوقت نفسه، كانت الجهود التي حاولت التأثير على التطورات في الشرق الأوسط من الخارج غير ناجحة. لا يزال هناك فجوة ضخمة بين الدول العربية وغير العربية. في سعيهم للقيادة الإقليمية، إيران وتركيا أصبحتا فاعلتين على نحو متزايد في العالم العربي، من خلال الاعتماد على جهات محلية ومحاولة اللعب على الجوانب الدينية والإثنية والعرقية. العديد من الأنظمة العربية تنظر إلى الجهود التي تبذلها القوى الإقليمية غير العربية على أنها تمثل تحديا أمنيا.
حروب أهلية
وقسم خبراء شاركوا في حوار الشرق الأوسط في نادي فالداي الدول العربية إلى أربع مجموعات من حيث قدرتها على التكيف مع التحديات والتهديدات الحالية: الدول التي تعاني من حرب أهلية، دول هشة ودول سريعة التأثر ودول مستقرة. وتضم المجموعة الأولى سوريا والعراق واليمن، وليبيا. ويسيطر على أجزاء مهمة من تلك البلدان من قبل قوات غير حكومية، والمؤسسات الحكومية فقدت الكثير، إن لم يكن كل، سلطتها. في ليبيا، دمرت الثورة النظام السياسي الهش الذي بناه معمر القذافي على مر السنين، وتم الاستيلاء على السلطة الحقيقية من قبل ميليشيات شبه عسكرية، وخاصة في طرابلس. في اليمن، على الرغم من اختلال التوازنات بين الأديان، بين القبائل والأقاليم التقليدية، واصلت الأحزاب الحديثة التعايش مع المجتمعات المحلية التقليدية الاجتماعية والدينية. ونتيجة لذلك، ففي حين تبدو التسوية السياسية في ليبيا في المدى القريب ذات إشكاليات كبيرة، لسبب بسيط هو أنه لا توجد مؤسسات لتوجه الأطراف المتصارعة، ولكن في اليمن يمكن استئناف العملية بدعم من لاعبين من الخارج، على الرغم من المحاولات الفاشلة للحوار الوطني. في سوريا، لم يتم تدمير المؤسسات الحكومية، وأثبتت سلطات الدولة أنها قادرة على إدارة الأراضي الواقعة تحت سيطرتها في شكل فعال تماما حتى في خضم حرب دموية. وهناك أيضا جماعات "المعارضة المعتدلة"، على الرغم من أن بعضها تعاون مع الجماعات الإرهابية التي لا تزال نشطة على الرغم من الخسائر الثقيلة التي منيت بها ولا يزالون يسيطرون على جزء من أراضي البلاد. وأخيرا، فإن الحرب الأهلية التي يشنها "داعش" الذي نشأ في العراق وامتد إلى سوريا، ويبدو الآن أن جماعات "المعارضة المعتدلة" بدأت تتلاشى وتهاجر. ومع ذلك، الفتنة بين الأديان لا تهدد الدولة العراقية على الرغم من كل قضايا الفدرلة في البلاد.
بلدان هشة
أما المجموعة الثانية وهي الدول الهشة وتضم مصر وتونس والأردن ولبنان. لقد عاش أول بلدين انتفاضات "الربيع العربي"، لكنهما فشلا في إحداث إصلاح سياسي عميق ومازالا يفتقران إلى الخبرة في تعزيز التغيير الديمقراطي، ولا تزال أنظمة الحكم فيهما غير فعالة. إن الخطر الرئيسي على استقرار الحكومة يأتي من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تحل بعد، واستبعاد حركات المعارضة الشعبية من العملية السياسية، والجماعات الإرهابية، سواء ذات المنشأ المحلي أو الأجنبي. ونجح لبنان والأردن نجاحا كبيرا في التغلب على الحركات الاحتجاجية المحلية، ولكن لا يزال هناك خطر عدم الاستقرار بسبب اللاجئين من سوريا والعراق، حيث يشكلون 25% من السكان في لبنان و 20% في الأردن. وقد وجد لبنان نفسه في حالة صعبة بشكل خاص، منذ أن بدأ بمواجهة الأزمة السياسية.
بلدان تغلبت على تحديات "الربيع العربي" ولكن
البلدان الضعيفة هي تلك التي نجحت بسهولة في التغلب على تحديات "الربيع العربي" من خلال أداء حكومي فعال أو من خلال الاستفادة من موارد مالية وفيرة لديها، ولكن لا يزال من الممكن عدم استقرارها. في المقام الأول ينطبق هذا على الجزائر والمملكة العربية السعودية. وبالنظر إلى أن السعودية تسيطر على منطقة الخليج العربي، فمن الواضح أن الاضطرابات في هذا البلد يمكن أن تسبب كارثة لغيرها من دول الخليج، وخاصة الكويت والبحرين، التي شهدت بالفعل حركات من الاحتجاج الجماهيري مرة أخرى في عام 2011. وأخيرا، يصنف الخبراء المغرب كدولة مستقرة (المجموعة الرابعة)، بحجة أن النظام السياسي قد أثب قدرة على التكيف مع مختلف التحديات الداخلية والخارجية، واستيعاب صدمات جديدة عن طريق مزج السلطة السياسية التقليدية مع نظام حديث متعدد الأحزاب وفيه منافسة. على الرغم من أن المغرب لا يزال يواجه العديد من التحديات، بما في ذلك الفساد والبطالة والوضع المعقد فيما يتعلق بالصحراء الغربية، إلا أن البلاد لم تواجه أي تهديدات خطيرة حتى الآن. وعموما، العديد من البلدان في الشرق الأوسط مستعدة للتغيير التدريجي، ولكن التعصب داخل هذه المجتمعات ومحاولات القوى الخارجية لتسريع العمليات الجارية أثبتت نتائج عكسية.
المادة ضمن سلسلة مواد نقدمها وتعرض وثائق منتدى فالداي الروسي في سبتمبر/ ايلول 2016