الرئاسة لعون والحكومة للحريري.. لبنان يخرج من حفرة ليقع في هاوية
يجتمع مجلس النواب اللبنان اليوم في 31 أكتوبر/تشرين الأول، لينهي أطول أزمة شغور رئاسي عرفتها البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1943. ويتوجب على مجلس النواب أن يختار ما بين ميشال عون وسليمان فرنجية، إلا أن فوز عون أمر شبه محسوم، بناء على التوافقات السياسية التي تمخضت عن انعقاد جلسة الانتخاب.
ومن المقرر أن يصوت أعضاء الكتل البرلمانية اليوم لانتخاب الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية، وسيتم الإحتيار من بين مرشحين، هم ميشال عون وسليمان فرنجية الحليفان السياسيان، والخصمان في السباق على المنصب، رغم أن جلسة مجلسة النواب الخامسة والأربعون، قد حسمت سلفا فوز الأول بالمنصب.
ويتميز هذا الحدث اللبناني بالزخم، لأنه يضع حدا لأزمة سياسية مستعصية على الحل منذ عامين ونصف، بالإضافة إلى الأزمات التي ستتبع اختيار الرئيس الجديد، وفي مقدمتها أزمتا "التكليف" و"التشكيل"، واللتان توقع رئيس البرلمان نبيه بري في أحدث تصريحاته أن تستمرا شهورا.
وبانتخاب عون فإنه يصبح الرئيس رقم الـ13 للجمهورية اللبنانية بولاية تمتد لست سنوات غير قابلة للتجديد، وثالث "جنرال" للجيش يتولى هذا المنصب بعد إميل لحود وميشال سليمان.
وكان البرلمان قد فشل منذ العام 2014 في تأمين تصويت ثلثي الأعضاء أي 86 عضوا من أصل 128 نائبا، وهو النصاب القانوني لانتخاب الرئيس، وفي حال بقيت الأصوات دون هذا العدد فهذا يعني الذهاب إلى دورة انتخاب ثانية تكفيه فيها حصوله على نصف عدد النواب زائد واحد أي 65 صوتا.
وتنص المادة 49 من الدستور اللبناني على أن "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي ذلك".
وينقسم البرلمان اللبناني بين قوتين كبيرتين، هي قوى "14 آذار"، وأبرز أركانها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وقوى "8 آذار" وأبرز مكوناتها "حزب الله"، في حين لا تملك أي من الكتلتين النيابيتين غالبية الثلثين.
وبعد أداء الرئيس المنتخب القسم الدستوري وتوليه مقاليد الرئاسة تعتبر الحكومة الحالية مستقيلة بحسب الدستور، حيث تقوم بتصريف الأعمال على أن يشرع رئيس البلاد في استشارات نيابية ملزمة لاختيار رئيس الحكومة المكلف الذي سيقوم بدوره باستشارات مع الكتل النيابية للاطلاع على مطالبها وتحديدا حصصها الحكومية.
ومن المرجح وفق التفاهم بين تياري "المستقبل" و"الوطني الحر" أن تسفر هذه الاستشارات عن وصول سعد الحريري لكرسي رئاسة الحكومة، ليشرع في مهمة تشكيلها.
وكانت معظم الكتل السياسية اللبنانية أعلنت تأييدها لميشال عون، وآخرها "اللقاء الديمقراطي" بزعامة وليد جنبلاط، وكتلة "تيار المستقبل" برئاسة سعد الحريري.
وعرف ميشال عون في حلبة السياسة اللبنانية على امتداد ثلاثين عاما، إذ تولى قيادة الجيش، بعد أن اختاره رئيس الجمهورية المنتهية ولايته أمين الجميل في العام 1988 رئيساً لحكومة عسكرية، رفض نصف أعضائها أن يكونوا فيها، وشهدت البلاد حينذاك مرحلة مختلفة من الحرب الأهلية في ظل حكومتين متنازعتين.
كما قرر عون شــن "حــرب التحرير" لإجلاء القوات السورية من لبنان، وهي حرب كلفت لبنان الكثير، وكلفت العماد عون الخروج من القصر لاجئاً إلى السفارة الفرنسية في بيروت، بينما ظلت عائلته في القصر حتى تمّ إخراجها عبر التفاوض لاحقاً، ونفي على أثر ذلك خمس عشرة سنة قضاها في فرنسا.
عاد عون إلى لبنان في السابع من مايو/أيار 2005، باستقبال جماهيري كبير، وذلك غداة الانسحاب السوري من لبنان، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وولادة حركة "14 آذار" التي شكل جمهوره عمودها الفقري في ساحة الشهداء. ولعل صياغة "التحالف الرباعي" بوجهه، قد مثّل مناسبة لولادة هزة سياسية في الانتخابات النيابية جعلته يفوز بأرقام كبيرة جداً، كرّسته ممثلاً لحوالي 70 في المئة من المسيحيين، وهي شعبية لم يحظ بها من قبله أي زعيم ماروني على امتداد لبنان، حتى بشير الجميل!
ومن أهم المراحل في تاريخ ميشال عون السياسي، عقد اللقاء الاستثنائي بين العماد عون والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، في كنيسة مار مخايل، في السادس من فبراير/شباط 2006 (غداة غزوة الأشرفية). هذا التلاقي شكل نقطة تحوّل استثنائية لا فقط في الحياة السياسية بل في الحياة الوطنية في لبنان. وكان لكل تفصيل في هذا الاتفاق رمزيته: كنيسة مار مــخايل علــى الحــد الفاصــــل بـين "جبهتي" الشياح وعين الرمانة، ثمّ البيان ـ التفاهم الذي صدر بنتيجة اللقاء، والذي سجل بداية لحياة سياسية مختلفة في إطار وطني، وتوكيداً للدور التاريخي للمقاومة في تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن أنه جعل للمقاومة حاضنة مسيحية لا يستهان بها.
تأكد هذا التحالف بأبعاده الشعبية بفتح البيوت في مختلف المناطق، لا سيما الجبلية، أمام من هجرتهم الحرب الإسرائيلية من منازلهم في الجنوب وبيروت والضاحية.. وهم غادروها فجر اليوم الذي أوقف فيه إطلاق النار عائدين إلى حيث كانوا.
كما أن عون هو الرابع بين الجنرالات الذين وصلوا ـ مع الاختلاف الهائل في الشخصيات وفي الظروف ـ إلى سدة الرئاسة، وإن ظل الأول منهم - فؤاد شهاب ـ الوحيد الذي جاء بمشروع اجتماعي - إنمائي ـ وبمنظور للدولة ومهامّها كان جديداً كل الجدّة على لبنان واللبنانيين. ولقد نجح في بداية عهده، في "تمرير" إصلاحات مشروعة، ثمّ جاءت المحاولة الانقلابية البائسة وما أحاط بها وتبعها، إضافة إلى مباذل الطبقة السياسية التي ظل غريباً عنها ولم يحترمها.. ولذا فقد رفض مطالبته بتجديد ولايته، حتى وهو محمول فوق كتفيها، وكان أن قضت هذه الطبقة على آخر آماله.. وهكذا أمضى النصف الثاني من ولايته في حالة من الإحباط عبر عنها في أواخر أيامه برسالة نعي لاحتمالات التغيير وحتى التطوير معترفاً بأن النظام اللبناني أقوى من أن يقهر..
ومن الواضح أن اللبنانيون ينتظرون اليوم، وصول الرئيس الجديد عون لكرسي قيادة الجمهورية المنهكة، بشيء من الارتياح، رغم شعور القلق الذي ينتابهم حول الدولة ومستقبلهم فيها، وحول احتمالات "الإصلاح والتغيير" في ضوء الصفقة الرئاسية المباغتة بتوقيتها والمقلقة بنتائجها وتداعياتها المحتملة... وكثير منهم لم يستوعب أسرار التحولات في مواقف أطرافها وكلفة "التوافق" الذي دفع كل منهم لتمرير هذه الصفقة.
أسئلة كثيرة أكثر خطورة تبقى في أذهان اللبنانيين، وسيكون العماد ميشال عون مجبرا على التعامل، خلال 6 سنوات قادمة، ستكون صعبة للغاية لا محالة، خاصة وأن مسألة تولي سعد الحريري لرئاسة الحكومة أصبحت هي أيضا محسومة.
من الصعب التنبؤ بالمستقبل السياسي للبنان، تحت قيادة عون الحليف التاريخي لـ"حزب الله" وسعد الحريري، خصمه التاريخي. ويبقى واضحا أن اختيار رئيس جديد للبنان، ليس نهاية الخلافات، بل بداية مرحلة جديدة من المشاكل والعقبات في حياة هذا البلد الممزق سياسيا.