"الربيع العربي" يكشف أزمات الحكومات الوطنية 2-2

29.03.2016

الطبيعة الهجينة لفكرة بناء الدولة، وعجز الحكومات والأنظمة ، والمجتمعات المجزأة ، والتنمية غير المتوازنة، نتج عنها تعدد الدول، وما يرتبط بها مع كل هذه التناقضات الهيكلية كشفت عن نفسها في فترة الصحوة العربية.
إذا حللنا الأحداث التي بدأت في عام 2010، من خلال منظور القضايا الوطنية، فهي تسمح بعدة تفسيرات تكميلية.
أولا، يمكن أن ينظر إليها من منظور نظريات التحول الديمقراطي، على اعتبار أن الطموح الرئيسي للمحتجين كان توسيع المشاركة السياسية في عام 2011، في حين أنهم هم أنفسهم كانوا يحتجون كطبقات مبدعة ومفكرة من أجل الأفكار الليبرالية و التحررية .
مع هذا النهج، فإن الديمقراطية ليست أداة لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي (وهذا بالنظر إلى التجربة الإيجابية والسلبية الآسيوية الأفريقية) وهي غاية في حد ذاتها وأداة المجتمع المدني لتنسيق علاقاتها مع السلطات.
ثانيا فإن من نتائج استنفاد العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة. عدم الامتثال للالتزامات الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفساد، جنبا إلى جنب مع زيادة كبيرة في الاستهلاك العام، وهنا لا تكون السياسة الاجتماعية جيدة ومتوازنة. وهذا ما سبب قوة معاكسة للثورات التي حصلت في المنطقة العربية.
هذان التفسيران يتوافقان مع اثنين من التحليلات الثلاثة لظاهرة الصحوة العربية، التي يمكن استنباطها سياسيا ونفسيا من تجربة المجتمع الروسي الخبير بالتجارب المختلفة حيث عاصر الفكر الماركسي و عاصر الاقتصاد الاجتماعي وكذلك الليبرالية هيكليا ومؤسساتيا. والعامل الثالث في هذا الصدد هو تأثير العامل الخارجي وتحويل الكيانات المحلية إلى كيانات سياسية.
ثالثا، هذه الأحداث يمكن أن ينظر إليها من منظور نظرية الاستعمار الجديد، ومن وجهة نظر، المجتمع الأكاديمي الروسي فإن هذه الأحداث والثورات تأتي لقلب نظام الحكم من قبل الاستعمار الداخلي وتصبح السلطة مغتصبة في هذه الحالات.
التفسيران الأول والثالث يكشفان عن المشكلتين الرئيسيتين للتنمية الحقيقية في هذه البلدان: الديمقراطية والمؤسسات، من جهة، والسيادة  من جهة أخرى. وبالتالي، فإن الظروف غير مكتملة ولا تسمح بعد بالحديث عن قضية برنامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول المنطقة وإمكانية استكمال العقد الاجتماعي. وهذا يتوافق مع ضعف البنى الهيكلية للدول العربية، وضعف السلطات الشرعية فيها.
سيادة من دون أصحاب السيادة
إذا نظرنا إلى التحولات الإقليمية من خلال مفاهيم الاستعمار الجديد، تبرز في المقام الأول قضية السيادة الوطنية..
من وجهة نظر أنصار هذا المفهوم فإن استقلال الدول العربية من الاستعمار القديم لم ينجز تحقيق السيادة الكاملة. على أي حال، على امتداد القرن العشرين لم تصل هذه الدول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وبقيت إلى حد كبير خاضعة عمليا للقوى الخارجية الكبرى الرئيسية، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبدرجة أقل الدول الأوروبية، وذلك من مختلف النواحي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وثقافيا، خصوصا عقب الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية وحرب 1967.
وبالإضافة إلى ذلك، وكما حدث في مناطق أخرى من العالم، في السنوات الأخيرة، فقد تآكلت سيادة الدول في المنطقة نتيجة لمشاركتها في عمليات العولمة والأقلمة، بما في ذلك مشاريع التكامل الإقليمي، وأهمها كان ولا يزال مجلس التعاون لبلدان الخليج العربي.
كل هذا يشير إلى غلبة السيطرة الخارجية على سيادة الدول العربية في هذه الحقبة.
بغض النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات، فإن فكرة أن الأنظمة المخلوعة كانت ذات طابع معاد للوطن وكانت مستغرِبة جدا ومقتلعة من جذورها، وما إلى ذلك، تم تبنيها من قبل العديد من المتظاهرين وجزء كبير من القوى السياسية التي تطمح إلى السلطة في فترة ما بعد الثورة ( ولا سيما الإسلاميين واليساريين المتطرفين).
ينبغي أن ينظر إلى توسيع المشاركة السياسية على أنها عمليات لتعزيز السيادة الوطنية، والانتقال من مجموعة معزولة نسبياً،إلى نطاق أوسع من السكان. عملياً، إن هذا التحول أدى إلى السحق الجزئي أو الكامل للسيادة أو -في الحالات القصوى- سيادة الموقف دون السيادة.
في الواقع، إذا كنا نفهم السيادة في روح كارل سميت، على أنها القدرة على التصرف في حالة الطوارئ، فإن الثورة و "الاستعمار الداخلي" قد أديا لتدمير الدافع الحقيقي للسيادة. فالسلطة عادت مرة أخرى إلى مصدرها (الشعب)، ولكن وجدت الكثير من الممثلين. فإذا كان ذلك قد توضح في حالة تونس لمجرد ضعف الحكومات وعدم قدرتها على تنفيذ التدابير التي لا تحظى بشعبية، فإنه في حالة ليبيا، كان يعني ظهور عدد كبير من مراكز القوى (الشرطة "فجر ليبيا" في طرابلس، والحكومة المدنية في طبرق، واللواء خليفة حفتر، والدولة الإسلامية وآخرون).
وهناك حالة خاصة هنا وهي مصر، حيث أعادت "ثورة يوليو" في عام 2013 الوضع إلى الجذور، سامحة بالتغلب لاستقطاب المجتمع (أو على الأقل تقليل تأثيره السياسي). إن النجاح الاقتصادي المعلن لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، والحاجة إلى مواجهة التهديدات الحقيقية للأمن والرغبة في تحسين نظام الشرعية والشمولية من خلال الإجراءات الانتخابية،سمحت له بتدعيم المجتمع، ليصبح الحامل الحقيقي الوحيد للسيادة.
ومع ذلك، فإن اعتماد النظام المصري الجديد الواضح اقتصاديا على الرياض أدى مرة أخرى للحديث عن وجود عنصر التدخل الخارجي.
بشكل عام، جاء تعزيز وتفعيل دور الجهات الإقليمية في السياسة العالمية مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية (وإلى حد أقل، قطر والإمارات العربية المتحدة)، كعامل ساهم في اختراق هذه الدول الإقليمية لسيادة دول أخرى من خلال المشاركة المباشرة في العمليات السياسية (عن طريق دعم قوات موالية لها – دعم السلفيين في حالة المملكة العربية السعودية، ودعم الشيعة - في حالة إيران، ودعم "جماعة الإخوان المسلمين" في حالة قطر، الخ) أو من خلال الوجود العسكري المباشر (البحرين، اليمن، سوريا) .
وفي الوقت نفسه، كانت لأزمة سيادة المؤسسات الوطنية نتيجة أخرى غير متوقعة. ليس فقط في مسألة السلامة الإقليمية لدول المنطقة والبنية الإقليمية، بل حتى إداريا ضمن كل دولة، وينطبق هذا ليس فقط على دول مهددة بالتقسيم مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن، إنما قد يمتد الخطر ليشمل  بلدان تبدو مزدهرة مثل مصر وتونس والسعودية وغيرها.
في حالة اليمن، وسوريا وليبيا فإن فكرة الفدرلة تخفي خلفها نموذج لحفظ الدولة التي تعاني من حالة ضعف أو انهيار مؤسسات ( في حالة ليبيا – دمرت قوة النظام كليا وغابت المؤسسات) وقد أظهرت تجربة العراق أن هذه الإستراتيجية (الفدرلة) لها حدود معينة – تعبر عن اتحاد فضفاض يعتمد على إيجاد توافق في الآراء بين النخب الإقليمية على تقسيم الوصول إلى موارد البلاد، وبطبيعة الحال، تحقيق مصالح الفديراليات الثلاث. ولكن في حالة انتهاك التوازن بين الأقاليم، أو التغيرات في البيئة الدولية فهي هي نظام ضعيف للغاية. ومع ذلك، في حالات أخرى (المغرب، الجزائر، تونس، لبنان، مصر، وغيرها.) وعادة ما تكون الفدرلة عبارة عن لا مركزية تتبعها الأنظمة بهدف تحفيز تنمية المجتمعات المحلية.
في لبنان، يمكن الحديث في الواقع عن الفدرلة الخفية، التي تهدف إلى تحقيق التوازن بين مصالح الجماعات العرقية والدينية المحلية. وقد طبقت التجربة اللبنانية إلى حد كبير من قبل الأمريكيين في بناء الدولة العراقية الجديدة.
في الجزائر والمغرب على وجه الخصوص، تأخذ فكرة الفدرلة منحا صعب جدا من ناحية التطبيق ، ظرا لوجود مسالة الصحراء الغربية بالنسبة للمغرب ومنطقة القبائل في الجزائر. في نفس الوقت في كلا البلدين يبدو من المستحيل جدا  طرح مسألة الأقلمة والفدرلة (وخاصة في الجزائر، حيث ينظر إليها من خلال منظور انفصال الأمازيغ).
في تونس، قد وضعت مسألة تقسيم المناطق إداريا على جدول أعمال الثورة عام 2011، في محاولة لتحقيق التوازن في توزيع الموارد المالية للبلاد.
ومن الواضح أنه في جميع الحالات، من دون استثناء، الميول الفيدرالية يمكن أن ينظر لها من اتجاهين متعاكسين. فمن ناحية، هي محاولة لتحسين النظام السياسي، وإنشاء آليات مراقبة أكثر دقة، وبالتالي زيادة شمولية السلطة السياسية. ويعتبر هذا أكثر وضوحا في مصر، في الدستور الجديد يوجد ست مواد مكرسة لقضايا اللامركزية، وصلاحيات المجالس المحلية، الخ (اثنان فقط كانا في دستور 1971 ). وتعزيز انتخابات الحكومة المحلية وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية في القطاع الإداري والمالي، وعلى الأقل - من الناحية النظرية، تحفز تطور المجتمع المدني والديمقراطية في البلاد
من ناحية أخرى، فإن المبادرات الفيدرالية يمكن أن ينظر إليها على أنها محاولات الحكومة المركزية للحفاظ على وحدة البلاد، وإيجاد توافق مع النخب المحلية (وغالبا العرقية أو الإثنية). في حالة العراق، يعتبر هذا أكثر وضوحا.
داعش .. هل هي النظام البديل ؟
في العام الماضي، أصبح موضوع داعش أو ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام وما يطرح عن دخوله كبديل عن بعض الأنظمة العربية في الشرق الأوسط من أهم المواضيع  في العلم السياسي الراهن. مع أن هذه المشكلة تختلف عن باقي المشكلات في الشرق الأوسط فكريا وسياسيا ( فيما يتعلق بإنشاء دولة فلسطينية، والقضية الكردية)، إلا أن ظهورها يعتبر ظهور مفاجئ لبدائل حقيقية. 
تشكل تنظيم داعش في عام 2006 من اندماج أحد عشر طرفا من أطراف القاعدة في العراق، وإلى عام 2013 لم يعرف كثيرا ولم يذيع سيطه، تألف في البداية من عدة آلاف من الأشخاص معظمهم من الجنود والضباط السابقين من جيش الرئيس المخلوع  صدام حسين. وجهت المنظمة في ذلك الوقت أعمالها ضد الأمريكان والقيادة الجديدة للبلاد.
وقد تم ربط التحول الجذري للجماعة الجهادية، أولا، مع تراكم الصراع السوري الذي أدى إلى زعزعة الوضع في العراق، وثانيا، مع وصول أبو بكر البغدادي الى السلطة في ربيع عام 2011، وكانت المنظمة تعتمد على التمويل الذاتي من خلال السطو، مصادرة أملاك "الكفار" والابتزاز والتهريب، الخ..
بدأت نشاطات" داعش" بالظهور إلى العلن على نطاق واسع في صيف عام 2014، عندما استولى مقاتلو التنظيم على الموصل وبدأو هجوم فعال في العراق وسوريا.
حتى الآن، يماثل حجم الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق حجم مساحة المملكة المتحدة و يبلغ عدد سكان هذه المناطق 8 ملايين نسمة. يقاتل في صفوف داعش عشرات الآلاف من مختلف البلدان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أكثر من 1700 شخص من روسيا (وفقا لبيانات غير رسمية – العدد ربما أكثر من ذلك بكثير).
فمن الواضح أن مسألة طبيعة "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) لا تزال مفتوحة، ولكن لا تزال تنقصه الكثير من الشروط حتى يمكن النظر إليه كدولة وليس مجرد طبعة جديدة من التنظيمات الجهادية، وفي هذا الصدد واليوم هناك سؤالان يمكن طرحهما: 1) ما المشروع المقترح من قبل تنظيم داعش (هذا إن وجد)  و 2) ما إذا كان تنظيم داعش يمكن أن يحل مشكلة بناء الأمة والتغلب على تفتيت المجتمعات وتنسيق التنمية المؤسسية؟
في مشروعه المقدم والمطروح إلى العامة، يواصل تنظيم داعش تبني الأفكار والتقاليد الاسلامية السلفية التي تدعي العودة الى الخلفاء الصالحين والنبي محمد (ص). وبالنظر إلى أن هذه الفكرة العامة السلفية تمتعت دائما شعبية معينة في العالم العربي والإسلامي، فقد فسرت مجموعة متنوعة من المفكرين والقادة الدينيين والسياسيين هذا الفكر بطرق مختلفة جدا.
وعلى النقيض من "الإخوان المسلمين"، حزب "النهضة" التونسي وحركة حماس وغيرهم من المنظمات الإسلامية، فإن تنظيم داعش يحاول في المبدأ الجمع بين القيم الإسلامية مع الأفكار القومية والمبادئ الديمقراطية، وكما كان "تنظيم القاعدة"، فهو يستند في الأساس على معاداة الحداثة ويتبنى المواقف المعادية للغرب. وفقا لذلك، وتحليل للمشروع الذي يطرحه داعش، فهو يتضمن توجها إلى نظام الدول الإسلامية القديمة، واختيار عناصرها الأساسية.
والمشكلة هنا هي أن مفهوم الدولة التي طبقت في التاريخ السياسي العربي الإسلامي، يمكن فهمها بطريقتين.
من الناحية الأولى، يمكن أن نتحدث عن الدول الموجودة في المنطقة في فترة ما قبل الاستعمار.
وكان لهذه الدولة "الفعلية" في العالم العربي والإسلامي أصل مزدوج - من جهة، تم إنشاؤها من قبل الدعوة الدينية للنبي محمد (ص)، ومن ناحية أخرى - الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع والثامن، والحاجة إلى فرض سيطرتها إداريا على المناطق التي تم احتلالها. وهنا نلاحظ التناقض الواضح بين المرحلتين فيما يتعلق ببنية الدولة العربية الإسلامية، ومصدر شرعيتها والهوية السياسية. فمن جهة، كان دولة إسلامية للمسلمين، والمؤسسات الرئيسية أنشئت من قبل النبي محمد (ص) والخلفاء الراشدين، وكانت لسلطة الخليفة مبررات دينية، والسكان غير المسلمين (وخاصة اليهود والمسيحيين)، يدفعون الضرائب للدولة. أما الدولة العربية في العهدين الأموي والعباسي فكان أساس الحكم فيها يستخدم الأساطير التاريخية لتبرير حقه في العرش بالاعتماد على المجموعات القبلية والعرقية في ممارسة السلطة، الخ .. وهنا تمتعت الدولة ببعض العلمانية في المؤسسات والاتجاهات الادارية.
يبدو أن اليوم هناك العديد من العناصر الأساسية لمفهوم الدولة الإسلامية، التي تظهر بعض الأثر  على المشروع الذي تقدم به داعش، والتي تشرح كيف يختلف عن فكرة الدولة القومية.
في المقام الأول فإن "داعش" لا يعتبر دول قومية- لأن الأمة بمعناها في القرون الوسطى لا تعتبر دولة. كما حلل المفكر الفلسطيني تميم البرغوثي «الوجود المادي للأفراد يسمى أمة، إذا كان هؤلاء الأفراد يشكلون مجموعة، وإذا أدت هذه الفكرة إلى حقيقة أنهم يفعلون شيئا مختلفا عن كل الآخرين" . وهكذا، وعلى خلاف المفهوم "الانتروبيولوجي" للأمة، الأمة ليست ظاهرة طبيعية. ومع ذلك، فهي ليست مجتمعا خياليا ظهر نتيجة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. وهي تقوم على الأبعاد الفكرية و الروحية ولا يمكن تحديدها بمساحات من الأرض أو فئة من السكان (النبي إبراهيم عليه السلام في البداية نفسه كان أمة)، والأمة لا تتضمن مؤسسات سياسية. وإذا كان الشعور القومي يتطلب قيام الدولة، فالأمة بحاجة إلى ألا تنهار أو تتراجع في جال غياب عنصر الدولة.
وعلاوة على ذلك ، في مفهوم الأمة، فإن وظيفة الإمام تختلف جوهريا عن مهام رئيس الدولة وكان وجود الإمامة بعد الخلافة والنبوة جاء من أجل الحفاظ على الدين. كما جاء في كتابات الماوردي في القرن الحادي عشر.
مفهوم الإمامة بعيد عن السيادة أو القضاء أو التشريع. بل هو، منسق للإشراف على أداء العلماء وتفسيرات الفقهاء للنصوص المقدسة، ويكون بمثابة المدير، والمعلم، ومثالا للمسلمين، يتبعونه على طريق الإيمان بطريقة تشكل الأمة. هذا هو السبب في أن غياب الإمام يؤدي إلى ضعف وعدم اكتمال الأمة.
من الناحية السياسية، يسلط الماوردي الضوء على المسؤوليات العشرة الرئيسية للإمام، وعلى نحو ما يتوافق مع جميع التقاليد السنية. ممارسة العمل السياسي ، التفسيرات العلمية الفقهية، توفير الشرعية الدينية، واستخدام العقاب المعمول به لحماية حقوق المؤمنين، وحماية دار الإسلام، والكفاح ضد رفض قبول الإسلام، متابعة إلزام المؤمنين والناس لاحترام القانون، وإدارة الأمة، إلى جانب ما ذكر، هناك نوعان من الواجبات الإدارية البحتة - ضمان حدود المناطق والإشراف على الدخل ونفقات الخزينة.
ومع ذلك، فإن تنظيم داعش لا يعتبر دولة ولا يرتقي لمستوى الدولة حتى بمعناه في القرون الوسطى، حيث كانت الدولة منظمة علمانية تستمد شرعيتها من مكوناتها الواقعية. في الفترة الكلاسيكية من التاريخ الإسلامي، لم تعتمد مفاهيم الدولة على الأراضي والمساحات التي تخضع لها بقدر ما اعتمدت على الايديولوجية الفردية للفرد المسلم وعلاقته مع الله، وبالرغم من ذلك كان لها تنظيم سياسي من حيث المبدأ، قادر على محاكاة الطبقات والفئات المختلفة، ففي عهد الخلافة العباسية، كانت الدولة قوية والايديولوجية متوازنة، وكان الخليفة العباسي في بغداد هو مصدر التشريع للسلطات في الدولة.
في عالم اليوم توجد تنظيمات قائمة على إيديولوجيات معينة مثل حركة حماس في قطاع غزة فلسطين و حزب الله في لبنان و القبائل البدوية التي تسيطر على مساحات داخلية من الصحراء الكبرى، هذه الكينونات العسكرية السياسية تمتلك نوعا من الحكم الذاتي، وهي تعتبر دولا ضمن الدول ولكن من دون تسمية رسمية ولكن وجودها بطبيعة الحال يقوض سلطة الدول في المناطق التي تتواجد فيها. ولكن تختلف هذه التنظيمات عن داعش بكثير من العوامل والأبعاد، وحتى في مصدر التأسيس.
وأخيرا، فيما يتعلق بالجهاد، وفقا لإرث مفاهيم "تنظيم القاعدة" في بلاد ما بين النهرين، أصدروا ما تم وصفها بورقتهم الشهيرة "شعارنا وبرنامجنا" التي تعتمد على التقليد السلفي المتطرف، والتي تدعو لمحاربة كل الناس الذين رفضوا قبول الإسلام، وتقول أن الجهاد هو واجب عين على كل مسلم وهو واحد من أركان الإيمان، وبالتالي رفض الجهاد يؤدي إلى التكفير والعقوبة.
تطبيق النموذج
في محاولة لبسط سيطرته التامة على الأراضي، اضطر داعش لضمان ولاء السكان المحليين، وبالتالي قاد وأشرف على الأنشطة الاجتماعية النشطة (دفع الرواتب والمناسبات الخيرية وبناء البنية التحتية، وتطبيق القانون، الخ). ومع حقيقة أن داعش يسيطر من خلال العنف واستخدام القوة الضارة في أغلب الاحيان، إلا أنه يوفر الدعم للسكان (الجزء الباقي على قيد الحياة منهم)، وخاصة بعد أن تعبوا من الفوضى و الحروب.
النشاط الاجتماعي الذي يقوم به تنظيم داعش يهدف لتحسين أساليب وهيكل الإدارة . وهكذا، بعد أن  أعلن أبو بكر البغدادي كخليفة وقائدا لهذا التنظيم، عين لديه اثنين من النواب، يقومان بالاشراف على مجلس الوزراء وإدارات وحكام المحافظات التابعة لسيطرة التنظيم.
يساهم العديد من بقايا نخبة نظام صدام حسين السابق في قيادة تنظيم داعش وذلك نظرا لخبرتهم التي تتيح لهم إدارة منظمات مثل هذه.
ومع ذلك، فإن العناصر الدينية تحتل مكانة بارزة في هيكل الإدارة، ويقوم المجلس الاستشاري (الشورى) والمحكمة الشرعية ومجلس المفتين بالتأكد والتحقق من  قرارات الإدارة حول تقيدها بالشريعة الإسلامية.
وتعتمد الإدارة في العديد من المؤسسات التابعة لهذا التنظيم على التفسير الديني، على سبيل المثال، تدار الخدمات الاجتماعية من قبل وزارة الخدمات الإسلامية، الخ..
في نهاية المطاف، نستطيع أن نقول أنه في عملية التصميم المؤسسي لتنظيم داعش تم الجمع بين مقومات الدولة الوطنية والفكر الإسلامي، وهو ما يعطيها شيء من الحداثة في طبيعتها.
هذه التوليفة تسمح ببناء ما يشبه دولة حقيقية، وفي حالات أخرى يخلق تناقضات جديدة.
لذا، فإن فكرة الدولة الإقليمية (سوريا والعراق) تعتبر مثالا واقعيا عن فكرة الدولة التي يسعى إليها هذا التنظيم، لأن العديد من الجماعات الجهادية في جميع أنحاء العالم أعلنوا أنفسهم رعايا الخليفة البغدادي وتابعين للدولة المعلنة التابعة له على الرغم من أن طبيعة العلاقة بين "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والعالم الخارجي ليست واضحة تماما، ولكن يغلب عليها صفة العداء مع مختلف دول العالم.
تجمع أفكار داعش بين النمطية السلفية والحداثة على حد سواء القديمة والحديثة في معالجة بناء الأمة. من ناحية، والمساواة في الاسلام، وفكرة وحدة الأمة تساعد تنظيم داعش على التغلب على عدم التجانس العرقي والقبلي في المجتمع الذي يسيطر عليه، من خلال إذكاء روح الطائفية وخلق خطوط تماس جديدة.
وهكذا، فإن "الدولة الإسلامية" اليوم ممكن أن تحل مشكلة وأزمات الدول العربية المتعلقة بعدم الترابط بين الفرد و الدولة، عن طريق تغيير آلية عمل المؤسسات وتجديد العقد بين المجتمع والدولة، لتأكيد سيادتها على منطقة محدودة ولحل مشكلة الحدود. ومع ذلك، فمن الواضح أيضا أن أيا من هذه المشاكل قد لا تحل تماما.
لذلك، فإن إنشاء المؤسسات والأساس الاقتصادي للعقد الاجتماعي في فكر داعش ضمن كل هذه العوامل قد يتوافق مع الجهاد والتوسع المستمر، ولكن، للحفاظ على الحالة الطبيعية للحياة سوف تضطر إلى إعادة النظر. وهنا، بطبيعة الحال، يوجد مفارقة معينة من التاريخ، لأنه في هذا الصدد وبهذه الطريقة نجد تكرارا لمسار دولة الأمويين، حيث أن توسعها الكبير لم يساعدها في إعادة هيكلة مؤسساتها ، وتوقفت عن التوسع  في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، هذا الفشل أدى في النهاية  إلى الثورة العباسية، ثم إلى تفتيت الخلافة.
وبالمثل، فإنه ليس واضحا اليوم، أن الحل العملي لمسألة السيادة من خلال مبايعة الخليفة لا يزال أداة ضعيفة ولن يعزز المجتمع والدولة ولن يؤدي الى تحديث المجتمع. ومن المفهوم أن للوهلة الأولى، أن قوات داعش تسيطر على مساحات معينة (وكبيرة نوعا ما) من الأرض، ولكن قوة هذه السيطرة وحصانتها غير معروفة. وعلاوة على ذلك، فمن المشكوك فيه التأكيد على السيادة، نظرا لحالة عدم الاعتراف المجتمع الدولي بهذا الكيان.
وأخيرا، فيما يتعلق بالحدود والبنية الإقليمية والإدارية، بطبيعة الحال، إن ترابط الهياكل التنظيمية في داعش ونظم الانتخاب قد تبدو مقبولة للوهلة الأولى، لكن من الناحية العملية، الحديث عن "دولة إسلامية" بالمعنى الدقيق للكلمة لا يمكن تحقيقه إلا على الأراضي العراقية والسورية، أما بالنسبة للبقية، فهذا صعب نوعا ما، على سبيل المثال، في ليبيا، "الدولة الإسلامية" في جوهرها هي شكل من أشكال دمج عدد من القبائل الصغيرة وبالتالي تبتعد عن مفهوم الدولة لتقترب من مفهوم القبيلة.
نستنتج أنه اذا نظرنا للمشاكل العميقة التي تعاني منها الدول والحكومات والأنظمة العربية، فإننا نجد أنها ستصبح أعمق في حال كان تنظيم داعش هو البديل.
فكرة وجود أمة إسلامية موحدة، هي فكرة جذابة لعدد من الناس، ولكنها لم تأخذ في عين الاعتبار الهويات الإقليمية القائمة التي في الممارسات الاجتماعية الحقيقية، وعادة ما تكون أكثر أهمية من الهوية الدينية، وفيما يتعلق بسكان المناطق التي يسطر عليها داعش في سوريا والعراق فقد اضطروا لمبايعة داعش خوفا من القوة والبطش، وبعض الشباب انضموا لصفوف داعش ليس بسبب قناعاتهم الدينية بل بسبب خيبة الأمل في بلدانهم. حيث "لا يوجد عدالة ولا حرية ولا مستقبل" ، فبعض الشباب من المناطق الأكثر فقرا في تونس، قرروا الانضمام إلى داعش، حيث كل الهدف، من وجهة نظرهم هو. الحرية والعدالة، فالاغتراب بالنسبة لهم أرحم من الإذلال من قبل الدولة.
وكانت نظرة الشباب المنضم إلى داعش أنه من الممكن في ظل الدولة الإسلامية المذعومة التغلب على التشرذم الاجتماعي والسياسي، والاستيلاء على السلطة من النخبة، لكنهم وجدوا العكس تماما، حيث يقوم داعش بأعمال القمع والإبادة الجماعية لبعض الفئات الاجتماعية، وإيصال المجتمع إلى حالة أسوأ مما كانت عليه في ظل الأنظمة العربية السابقة.
وأخيرا، فيما يتعلق المؤسسات، فإن تشكيل مؤسسات سلطة حاكمة في أقاليم داعش في ظل الفراغ الكامل للمؤسسات المدنية، لا يمكن الاستمرار فيه إلا في حالات الحرب.
وحتى الآن، على الرغم من الضعف الواضح في مشروع داعش ( الجديد)، لا نستطيع إنكار حقيقة أن لديه جاذبية بالنسبة لسكان عدد معين من الدول في المنطقة، على ما يبدو، هذا الاهتمام ناتج عن طابع طائفي وليس عن قوة أفكار سياسية واقتصادية لهذا المشروع.
وصفت هذه الدراسة الصورة العامة في البلدان العربية أنها تبدو مخيبة للآمال: فبالإضافة إلى أنظمة حكم مليئة بالعيوب والمشاكل الهيكلية العميقة، نحن نشهد ظهور مشروع بديل يوضع على أسس دينية، لا تنسجم مع العالم المعاصر،  مثل هكذا نظام سياسي يهدد وجود الدول القائمة، وفي الوقت نفسه غير قادر على حل المشاكل الرئيسية للمجتمعات المحلية.
هل يمكن التغلب على هذا الاتجاه المتشائم في تطور العالم العربي؟ ربما، على المدى الطويل، نعم.

فاسيلي كوزنيتسوف باحث في العلوم التاريخية، رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية.
وليد سالم: كاتب فلسطيني