القيم والمصالح : مقارنة بين مفهومين عالميين حول الحرب السورية
تعتبر المقاربة بين القيم الإنسانية والمصالح الوطنية من أصعب القضايا في الممارسات السياسية، سواء على السياسي أو على المواطن الذي يراقب هذا السياسي. فالسياسي، حسب القاعدة وليس الاستثناء، رجل مسؤول عن تأمين مصالح بلاده الوطنية والإستراتيجية وهو في نفس الوقت إنسان يحمل القيم الإنسانية ويتحمل المسؤولية الأخلاقية أمام الناس عن كل قول أو سلوك يعلنه. إن كل السياسيين في العالم يدعون أنهم يحملون بل ويدافعون عن القيم الإنسانية وحقوق الإنسان، وجميعهم يريد أن يساعد الشعوب المظلومة ويحارب الإرهاب و...، إن هذا الإدعاء لا يتعلق بفريق دون آخر فلا نسمع أحداً إلا ويؤكد على سيادة الدول والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان. ولكن مع هذا الإجماع النظري على كل هذه المبادئ فإن الحروب مشتعلة وفي أوجها وهي مدعومة من الفرقاء الدوليين أو من فرقاء محليين يدعون المساعدة لهذا الشعب أو ذاك أو لهذه الدولة أو تلك، يريدون إزالة الظلم ويريدون تحقيق السلام ويريدون المساعدة.
لقد عشت شخصياً الحرب في سوريا وما قبلها بحكم تواجدي وعملي في سوريا، ولعلي أعلم الكثير مما يعرفه الناس أو لا يعرفوه، عشت الظروف التي كانت موجودة قبل هذه الحرب وعرفت أبناء هذا الوطن الجميل في مختلف المحافظات السورية بمختلف انتماءاتهم ومعتقداتهم ومناطقهم، وعرفت أيضاً الكثير مما عرفه الناس عن الحكومات ومما لم يعرفوه. لقد كان هناك بعض الظروف الموضوعية (السلبية) التي تم استثمارها من قبل البعض والتي كانت سبباً، إضافة لأسباب أخرى أكثر أهمية، في هذه الحرب التي نعيشها، وهذا ما أكده الرئيس بشار الأسد نفسه. المهم أن الحرب اندلعت وحرقت بلهيبها البشر والشجر والحجر، ولم ترحم أحداً وانتشر الظلم بين أبناء الشعب السوري المؤيد والمعارض على حدّ سواء، وانتشر أيضاً الإرهاب وهاجر الناس إلى الداخل والخارج وعّم الفقر إلا لدى قلة من المستفيدين من هذه الحرب.
وهنا نريد أن نسأل هل كانت هذه الحرب لتصل إلى ما وصلت إليه لولا تلك المصالح الخارجية التي لا تتعلق أبداً بمصلحة السوريين ولا تقيم لأدنى القيم الإنسانية وزناً؟ هل كانت لتستمر خمس سنوات جعلت الشعب السوري المعروف بثقافته وقيمه وإنسانيته عاجزاً بغالبيته عن الفعل والتأثير لولا ارتباط البعض بدول أجنبية محلية أو عالمية؟
إننا هنا لسنا في موقع تحليل تلك المصالح والأهداف الخارجية التي أصبحت بغالبيتها معروفة للمراقب المهتم، بل نريد أن نتحدث عن الرؤية والسلوك لكل من هذه الأطراف أو الدول التي تتعامل مع هذه الحرب، وكأنها أداة لتحقيق المصالح أو لتصفية الأحقاد على الرغم مما تسببه من ويلات ونتائج يصعب حصرها ضمن حدود الأرض السورية.
إن الفريقين الدوليين اللذين يدعمان طرفيي الحرب السورية هما الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الغربية ودول الإقليم مثل السعودية وتركيا وقطر من جهة، وروسيا والصين ومعها إيران وحزب الله من جهة أخرى.
عندما نريد أن نتحدث عن الرؤيا والمفهوم فعلينا أن نوضح المعنى المقصود بالرؤية والمفهوم. وهنا نقصد النظرة الجماعية التي تملكها المجتمعات غالباً نحو مختلف القضايا، وهذه النظرة أو المفهوم غالباً ما تكون مفاهيم جماعية لدى الناس تكونت وتشكلت لدى المجتمعات نتيجة التطور التاريخي للمجتمعات، حيث تتشكل المفاهيم الاجتماعية عادة بشكل جديد بعد أحداث كبيرة مثل الحروب التي تسبب نتاجاً فكرياً يصبح سائداً لدى هذه المجتمعات كنتيجة لتلك الحروب، فقيم الثورة الفرنسية تشكلت بعد الثورة الفرنسية، والحرب العالمية الثانية أدت لإنشاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ووضعت البيئة التشريعية اللازمة للقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان.
إن السلوك السياسي لفريق الولايات المتحدة وحلفائها حول الأزمة السورية هو سلوك ذو اتجاهين متناقضين، سلوك معلن يتحدث عن السلام وسلوك سري يؤسس للحرب ويدعمها بكل الوسائل، هذا الأمر ينطبق على الحلفاء كما ينطبق على الولايات المتحدة نفسها. إذ لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة الأمريكية تبتعد كثيراً عن قيم الثورة الأمريكية، التي أنجزت مفهوماً اجتماعياً راقياً وسائداً لدى الشعب الأمريكي، فحررت السود وأسست لديمقراطية كانت مضرب مثل في الحريات الشخصية، وهي تبتعد في كل ممارساتها السياسية حول الأزمة السورية عن تلك القيم الديمقراطية التي يعتقد غالبية الشعب الأمريكي أن قيادتهم متمسكة بها. والأمر لا يختلف كثيراً عند بعض الأطراف الأوربية مثل فرنسا وبريطانيا التي ابتعدت أيضاً عن القيم الأوروبية وسارت وراء مصالحها المالية أحياناً أو وراء مصالح أضيق لا تتطابق مع المصالح الوطنية الإستراتيجية لهذه الدول أحيانا أخرى.
أما الحلفاء الإقليميون للولايات المتحدة في الشرق الأوسط فهم، وبلا حرج في قول ذلك، اعتمدوا سياسة لا تتطابق مع أدنى الأعراف الدولية أو المفاهيم الإنسانية السائدة لدى كل الشعوب بما فيها شعوب العالم الثالث, فأيدوا أولئك الذين ينبشون القبور ويقتلعون القلوب من الصدور ويأكلونها بزهو أمام الكاميرات وكأنهم قد حققوا إنجازاً بدلاً من أن يخجلوا من أنفسهم ويبتعدوا عن هذه الأفعال المشينة القذرة حسب المفهوم الإنساني السليم.
السعودية التي تدعي قيادة العالم الإسلامي، بما يمثله ذلك الإدعاء من وجوب الالتزام بقيم السماء السمحاء، تدعي أيضاً مساعدة الشعب السوري، وتقول إنها تعمل لإزالة الظلم الذي لحق بهذا الشعب، وهي في نفس الوقت تدعم جهاراً نهاراً كل أولئك الذين يقتلون الشعب السوري وكل تلك المجموعات المسلحة، بما فيها المجموعات المصنفة كمجموعات إرهابية من قبل مجلس الأمن الدولي. وهي تدعمهم علناً بالمال والسلاح والإعلام، وبتغطية كاملة من حلفائها الغربيين والأمريكان. إنها سخرية القدر أنهم يدعمون الديمقراطية في سوريا وهم في بلد لا يملك أدنى فكرة عن المفهوم الديمقراطي ولا حتى يدعي ذلك. إن السعودية تقود فكراً ومفهوماً وهابياً دينياً له آثاره الواضحة في الكثير من دول العالم سواء من خلال الدعم التاريخي للمجموعات الإرهابية التي أنشأها هذا الفكر الوهابي في أفغانستان وروسيا وغيرهما، أم من خلال المساجد التي تنفق عليها السعودية أموالاً طائلة في أغلب الدول الغربية لتنشر هذا الفكر الوهابي الذي نرى آثاره التدميرية في أوروبا الآن، ولا أدل على ذلك من الهجمات التكفيرية الأخيرة في بروكسل التي كان المسؤول عنها شباب يحمل الجنسية الأوروبية وولد في دولها ولكنه تربى وتغذى من هذا الفكر الوهابي الذي تديره السعودية في تلك المساجد التي يجب أن تعلم سماحة الإسلام بدل أن تعلم قتل الأبرياء.
أما تركيا التي اعتقدنا أنها تملك تجربة ديمقراطية وحكماً علمانيا امتد لسنوات طويلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيبدو أن هذه الديمقراطية كانت مجرد ثوب يخفي داخله رجلاً عثمانياً حاقدا على كل جيرانه الذين ثاروا ضده وتخلصوا من استعماره البغيض، وظل يحلم بفرصة ينتهزها ليعيد تحقيق حلمه ببناء دولته العثمانية التي أنشأها أصلا بالسيف والدم وعلى أشلاء وعذابات الشعوب المجاورة والبعيدة التي حكمها لمئات السنين، فلم يترك لها أو فيها غير الفقر والجهل وذكريات تلك الشعوب المرتبطة بالقتل والتهجير والاغتصاب. هذه الـ "تركيا" الحديثة التي كانت تقيم أفضل العلاقات مع جيرانها وخاصة سوريا حتى بداية الأزمة السورية، انقلبت من اليوم الأول لهذه الأزمة معلنة موقفاً معادياً للدولة السورية لأنها ظنت أن الفرصة مؤاتية لتوسيع نفوذها من خلال دعم تلك المجموعات نفسها التي دعمتها السعودية. يبدو أن الدعم المشترك لهاتين الدولتين لنفس المجموعات يجعلنا نعتقد أن المفهوم السائد لدى هاتين الدولتين هو مفهوم واحد وهو المفهوم الوهابي الذي يكفر الآخر ويبرر القتل، بل ويبرر كل الوسائل غير الإنسانية وغير المشروعة لتحقيق الأهداف. إن إسقاط طائرة السوخوي الروسية هو مثال آخر لهذا الغدر العثماني ولهذا المفهوم الوهابي التكفيري الذي يبرر استثمار أية فرصة يراها مفيدة في حساباته، أو يعتقد أنه يمكن البناء عليها لتحقيق بعض الأهداف الصغيرة، ولم يأخذ بعين الاعتبار تاريخاً من التطور المشترك للعلاقات الروسية التركية الذي دمره بإسقاط الطائرة وكشف عن كذبة ادعائه بالتحول من العثمانية إلى الحداثة والديمقراطية.
بعد أن درسنا مفاهيم هذا الحلف الأمريكي الغربي الإقليمي التي تتمثل بالأمريكان والغرب الذين يملكون مفاهيم قيمية تعتمد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ولكن الساسة الغربيين والأمريكان يمارسون سياسة لا تتطابق مع هذه القيم من أجل تحقيق المصالح، لكنهم يدعون أمام شعوبهم كذباً أن ما يفعلوه لا يتعارض مع تلك القيم التي يؤمنون بها . على نحو آخر يعتمد شركاؤهم الإقليميون مفاهيم تنتمي إلى ما قبل العصور الوسطى ولكنهم يطبقونها ولا يخجلون من الكذب بانتمائهم لمنظومة العالم المتحضر والقيم الإنسانية.
روسيا هي الدولة العظمى التي استطاعت أن تحافظ على سلوك يجانس بين المصالح والقيم. تملك روسيا والشعب الروسي نفس المفهوم الذي تملكه الشعوب الغربية من حيث النظرة للقيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن المفهوم الروسي متطور عن المفهوم الغربي في النظرة لكثير من القضايا الحياتية مثل الصداقة والوفاء والانتماء الوطني والتضحية في سبيل الوطن وحتى من اجل الصديق. دخلت روسيا الحرب السورية صادقة في أهدافها بالدفاع عن مصالحها الوطنية والإستراتيجية ، ومحاربة الإرهاب الذي يهدد العالم ككل، وأيضاً بالوقوف إلى جانب الشعب السوري الذي تحافظ روسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي على علاقات تاريخية ومتينة معه.
شركاء روسيا في الحرب ضد الإرهاب في سوريا هما إيران وحزب الله، وهما لا يدعيان أنهما لا يحاربان من أجل مصالحهما، ولكنهما أيضاً يقفان إلى جانب البلد الذي وقف بجانبهما، ويحاربان نفس الإرهاب الذي يحاربه العالم كله، وينتميان بالتالي إلى نفس المفهوم ويملكان نفس النظرة التي تقول أن هذا الفكر الوهابي التكفيري، ومن ورائه كل القوى التي تدعمه، يشكل خطراً ليس فقط على أقلية بعينها أو بلد بعينه بل على العالم كله.
إن الحرب السورية أوضحت وجود مفهومين في هذا العالم، مفهوم أول يعتمد الحرية والديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، وهو مفهوم يكاد الجميع يدعون الانتماء إليه، ومفهوم ثان وهابي تكفيري تدميري لا يكاد احد يعترف بانتمائه إليه أو دعمه. ولكن جميع الشعوب, وخاصة تلك الشعوب التي تملك المفهوم الأول، بدأت تدرك خطر المفهوم الثاني على البشرية، وبدأت تضغط على حكوماتها بضرورة محاربته والتخلص منه ومن داعميه من الدول والمؤسسات والأفراد.
إن التاريخ سيذكر يوماً أن روسيا هي القوة العالمية التي أجبرت العالم على اعتماد هذا المفهوم الإنساني عندما كانت صادقة قولاً وفعلاً في محاربتها للفكر التكفيري الذي يمثله الإرهاب، فنجحت في حربها مع شركائها في توجيه ضربة قوية ضد الإرهاب، جعلته يتراجع للمرة الأولى بعد ذلك الانتشار الواسع له في مناطق كثيرة من العالم وأعطت الأمل بإمكانية التغلب عليه، وكانت مثالاً في الصدق والتطابق بين القول والعمل، بل واستطاعت أن تعيد الكثيرين إلى الطريق الصحيح، عندما أسست لموقف عالمي لن يستطيع أحد بعده التساهل مع حاملي هذا الفكر ومع الدول التي تدعمهم.