"المناورة التركية" وراء كواليس "الربيع العربي"
النتيجة الأكثر وضوحا لما يسمى "الربيع العربي"، هي تعزيز المواقف السياسية للإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخصوصا حيث تم تغيير الأنظمة الحاكمة (تونس، ليبيا، مصر، اليمن). وحتى تلك الدول الغربية التي تطالب بحماس بتنحية الرئيس بشار الأسد، تعترف بأن معظم المتمردين في سوريا الذين يقاتلون ضد القوات الحكومية النظامية، هم أعضاء في المنظمات الإسلامية المتطرفة، بما في ذلك الجماعة الجهادية سيئة السمعة "جبهة النصرة"، التي تعتبر في الولايات المتحدة خلية إرهابية مرتبطة بشكل مباشر مع تنظيم "القاعدة".
مباشرة بعد وصول حركة الاحتجاج المطالبة بتغيير السلطة السياسية في مارس/آذار 2011، إلى الأراضي السورية، بدأت تركيا بنشاط في دعم معارضي السلطة في سوريا. وأعلن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان حين ذاك، بوضوح بأن "الأحداث في سوريا تتحول إلى شأن داخلي لتركيا". تجهيز جيش المتمردين (ما يسمى "الجيش السوري الحر") يتم في مخيمات اللاجئين على الاراضي التركية على الحدود مع سوريا. كما يتم تجنيد وتدريب المتطوعين من قبل الخدمات الخاصة التركية. كما أعلنت السلطات التركية حصارا اقتصاديا على جارتها الجنوبية، في حين يتواصل نقل المجموعات التخريبية المسلحة إلى سوريا عبر الحدود التركية.
وفي هذا الصدد، تظهر التساؤلات التالية: لماذا تراجعت أنقرة بهذه السرعة عن اتفاق جيهان، الذي تم التوصل إليه 21 أكتوبر/تشرين الأول 1998، بوساطة دولية بعد مفاوضات طويلة وشاقة، والذي، أسفر بالمناسبة، عن حل جميع القضايا المتنازع عليها بين تركيا وسوريا (النزاع الإقليمي حول المنطقة المحاذية للواء الاسكندرون، والمسألة الكردية ومشكلة توزيع مياه نهر الفرات)؟ لماذا قام أردوغان، الذي وقع في دمشق خلال زيارة رسمية في العام 2004، على عدد من الاتفاقيات التي تهدف إلى التطوير الإيجابي للعلاقات الثنائية، بالمسارعة ومن جانب واحد لتصعيد التوتر على الحدود التركية السورية، وانضم إلى حملة إسقاط الرئيس الحالي لسوريا؟
برأيي، السبب الرئيسي للمشاعر المعادية لروسيا لدى النخبة الحاكمة في تركيا، هو التغير العالمي في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وحلفائها الإقليميين الرئيسيين. حقيقة أن السياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط الكبير، ستستند على مبادئ مواجهة إيران والتعاون مع الإسلام المتطرف، أمر تم تأكيده، على وجه الخصوص، من قبل أحد الخبراء الأمريكيين الأكثر موثوقية في مجال مكافحة الإرهاب ، أ. مكارثي. ففي كتابه الأخير ذي العنوان الرائع جدا "حمى الربيع: وهم الديمقرطية الإسلامية"، أشار مكارثي إلى أن الأمريكيين قد فهموا جيدا بعد غزو العراق وأفغانستان، أن أهم شيء للعالم الإسلامي، هو الإسلام. في نفس الوقت، الناس الذين هم على استعداد لمواصلة تطوير مسار تعزيز القيم الديمقراطية في المجتمع الإسلامي، هم لا يزيدون عن 20٪، أي أقلية. ومن هنا ظهر استنتاج: على أساس الواقع الموضوعي، من الضروري الإعتماد على تطوير التعاون المتبادل مع المنظمات الإسلامية الأكثر شعبية، بما في ذلك "الإخوان المسلمين" في مصر وليبيا، وحزب "النهضة" في تونس، وتحالف الجماعات المتطرفة المعادية للحكومة في سوريا، وحزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذي يدعم بقوة أسلمة البلاد وتحويلها إلى زعيم للعالم الإسلامي تحت قيادته.
الولايات المتحدة وتركيا اللتان جعلتا حجر الزاوية في سياستهما الخارجية، منع إيران من أي تطوير في مجال التكنولوجيا النووية، مهتمتان بشكل موضوعي بالقضاء على نظام الأسد - الحليف الرئيسي لطهران في المنطقة. كما أن هذا الأمر يهم الملكيات العربية في الخليج العربي، وعلى رأسها، المملكة العربية السعودية وقطر، الرائدتان الآن في جامعة الدول العربية، واللتان تنظران لتنحية الأسد، باعتبارها خطوة مهمة نحو تخفيف النفوذ الشيعي الإيراني العدائي والتهديد الشيعي ضد النظام الملكي السني. ومن جانبها، تركيا لا تقل اهتماما في زعزعة الوضع الداخلي في إيران وفي سوريا، وكذلك في فرض سيطرتها على المناطق التي يقيم فيها الأكراد السوريون والعراقيون والإيرانيون. وفي هذه السياسة، تولي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في المنطقة، بما في ذلك تركيا، دورا محددا للجماعات الاسلامية المسلحة المتطرفة.
المملكة العربية السعودية وقطر ودول عربية أخرى منتجة للنفط في منطقة الخليج العربي، تمول منذ زمن طويل الجماعات الإسلامية تسلح الأحزاب من أجل تعزيز موقف الإسلام المحافظ في العالم العربي، ومواجهة التوسع الشيعي (الإيراني). ووفقا للتقديرات، المملكة العربية السعودية وحدها على مدى السنوات القليلة الماضية، مولت المنظمات الأصولية الإسلامية بمبلغ مهول، يزيد عن 100 مليار دولار.
وكما هو معروف، إسرائيل – الحليف الإستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة، أيضا ترى أن التهديد الرئيسي يأتي من إيران، وصرحت القيادة السياسية الإسرائيلية علنا، بأن الهدف العسكري الاستراتيجي الأساسي، هو تدمير المنشآت النووية الايرانية.
وبهذا، على خلفية "المتلازمة الإيرانية" يتم تشكيل تحالف سياسي جديد. أحد أغرب أطرافه، هي إسرائيل، التي أظهرت بوضوح استعدادها للتعايش مع النظم الإسلامية، ومساعدتها في الحرب ضد المد الشيعي إذا كانت هذه النظم موالية للدولة اليهودية. وفي خطاب رسمي في جلسة مجلس الأمن للأمم المتحدة مخصصة لمسائل حماية المدنيين في الصراعات المسلحة، أعلن السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة رون بروسور، أن الحكومة الإسرائيلية تطالب رسميا بوضع حد لجرائم الأسد، وتصر على دخول قوة أجنبية للبلاد، من أجل تنفيذ "إجراءات ملموسة وحازمة".
وتأكيدا على أن "الربيع العربي" كان عملية تم التخطيط لها بدقة من قبل الإدارة الأمريكية، ظهرت وثيقة سرية نشرت في مادة الخبير ب. روبين، وهو محلل بارز في مركز الدراسات الدولية غلوريا في هرتسليا (اسرائيل), ولا تترك هذه الوثيقة أي شك بأن مستشاري السياسة الخارجية أعدوا في أغسطس/آب 2010، بأمر من الرئيس باراك أوباما، خطة تستهدف عددا من الدول العربية، تضمنت برعاية الولايات المتحدة ولصالحها، تنفيذ سيناريوهات للقضاء على الأنظمة الاستبدادية بمساعدة المعارضة الدينية في هذه البلدان، التي تعد من بين حلفاء الولايات المتحدة. واستنادا إلى هذه الوثيقة، يقول ب. روبين، إن وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر، كان جزءا من الخطة الاستراتيجية للإدارة الأميركية التي وضعت قبل بدء "الربيع العربي".
كل شيء يشير إلى حقيقة أن تركيا مستعدة لدعم التحالف الأمريكي الجديد. ومن الأمثلة على ذلك، الاتصال الهاتفي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس الوزراء التركي أردوغان، الذي عقد بطلب من وبحضور الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وأثناء المكالمة، أعرب نتنياهو عن أسفه لمقتل أشخاص خلال الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية "مافي مرمرة"، ووافق على دفع تعويض مالي لأسر الأتراك الذين فقدوا أقرباءهم نتيجة لعملية القوات الخاصة الاسرائيلية. في الوقت نفسه، قال نتنياهو: "بعد ثلاث سنوات من الاضطراب في العلاقات التركية-الإسرائيلية، قررت أن الوقت قد حان لإعادة تأهيلها. الواقع المتغير من حولنا يدفعنا باستمرار إلى إعادة النظر في العلاقات مع الدول الأخرى في المنطقة. على مدى السنوات الثلاث الماضية، تقدمت إسرائيل بعدة مبادرات إلى تركيا. والحقيقة، أن العامل الرئيسي بالنسبة لي، هو الأزمة السورية". من جانبه، تقبل اردوغان اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتعهد بإغلاق القضية الجنائية ضد عناصر القوات الخاصة الإسرائيلية الذين شاركوا في الهجوم، وشدد على "أهمية التعاون الوثيق والصداقة بين الشعبين التركي واليهودي". وأعرب البيت الأبيض عن ارتياحه، وأشار في تقرير زيارة باراك أوباما لإسرائيل: "إن الولايات المتحدة تقدر بعمق شراكاتنا الوثيقة مع تركيا وإسرائيل، ونحن نعلق أهمية كبيرة على استعادة العلاقات الإيجابية بينهما من أجل تعزيز السلام والأمن الإقليميين".
المذكور أعلاه، يقودنا إلى استنتاج لا لبس فيه: في الوقت الذي يقود فيه الإسلاميون الراديكاليون وممولوهم الجهود لمحاربة الأنظمة غير المرغوب فيها من قبل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل والأنظمة الملكية العربية المحافظة، هذه الدول تدعم برنامج تدمير خصومها بأيدي أولئك الذين يعارضونها. وكما يتضح، القيادة الأمريكية الحالية تبتعد في سياستها الحالية في الشرق الأوسط، عن المفاهيم التقليدية للترويج للديمقراطية الشاملة والنضال ضد الإرهاب، وترجع إلى النموذج القديم من تشكيل التكتلات الإقليمية، الموجهة لضمان الاستراتيجية العسكرية والسياسية والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة والدول التابعة لها. المشاركون في التحالف الجديد في الشرق الأوسط، يوحدهم ويرضيهم، التوجه الحديث للإسلام الراديكالي، المصّوب نحو إيران وشمال القوقاز وآسيا الوسطى، ما يتوافق أيضا مع المصالح الاستراتيجية للشركاء الإقليميين الولايات المتحدة.
مساعي حلف شمال الاطلسي والدول الإسلامية التقليدية للقضاء على بشار الأسد، -الضحية الجديدة ل ـ"الربيع العربي"- لن تؤدي فقط إلى تفاقم الوضع غير المستقر بالفعل في سوريا، ولكن أيضا إلى خلق فرصة حقيقية لتقدم الإسلام الراديكالي باتجاه حدود الاتحاد الروسي.