المخابرات والسياسيون الأمريكيون.. ثنائي التضليل العالمي
صرح مسؤولو الحكومة الأمريكية- مرة أخرى- في تقرير استخباراتي، أن روسيا تشكل تهديدًا خطيرًا على الأمن القومي. مع أن الاتحاد الروسي، اعتُبِرَ تهديدًا رئيسًا في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، لمدة عشر سنوات تقريبًا، فإن التركيز قد تطور هذه المرة، حيث أعلن الكونغرس الأمريكي أن روسيا تعتزم وضع أسلحة نووية لتدمير الأقمار الصناعية. وقال رئيس مجلس النواب مايك جونسون، إنهم يعملون مع فروع الحكومة الأخرى بشأن هذه القضية، وقال المتحدث باسم لجنة المخابرات في مجلس النواب جيم هايمز، إن هذا تحذير مهم، في حين ذكرت قناة أيه بي سي (ABC) التليفزيونية أن المعلومات عن خطط روسيا “لوضع أسلحة نووية في الفضاء” قد قُدِّمت إلى المشرعين الأمريكيين في مؤتمر صحفي سري.
إستراتيجية الابتزاز الأمريكي
بالتوازي مع هذه الأنباء، أشار الرئيس الأمريكي، إلى الوضع الحرج فيما يتعلق بنقص الذخيرة في أوكرانيا، وأنه إذا لم تقدم الولايات المتحدة الدعم لكييف، فإن ذلك سيخلق تهديدًا للولايات المتحدة، ولكل حفائها في أوروبا. السؤال هنا: كيف يمكن حدوث ذلك؟ فعليًّا، إذا تحدثنا عن أوروبا ككل، فغالبية دول القارة اليوم أصبحت أعضاء في الناتو، الذي قال أمينه العام، ينس ستولتنبرغ، في اليوم السابق، “إنه لا توجد مؤشرات على أن روسيا ستهاجم إحدى دول الناتو”.
وأخيرًا، ينبغي للمرء أيضًا أن ينتبه للبيان الصحفي الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 12 فبراير (شباط)، الذي ينص على أن “الكرملين يحاول نشر معلومات مضللة في إفريقيا”، استنادًا إلى قناة روسية موجهة إلى شعوب القارة الإفريقية، على برنامج تيليجرام!
لماذا الآن؟
لماذا ظهرت هذه الأخبار الواحد تلو الآخر؟ وهل هناك شيء من الحقيقة في تصريحات السياسيين الأمريكيين؟ دعونا نناقشها بالترتيب.
أولًا: فيما يتعلق بالأسلحة الفضائية، أشار نائب وزير خارجية الاتحاد الروسي سيرغي ريابكوف- بإيجاز شديد- إلى أن واشنطن: “منخرطة في تأليف قصص خبيثة، تنسب إلى موسكو تصرفات ونيّات لا تناسب الواقع”، ثم أكمل: “لقد رأينا هذه الرسائل باستمرار، وهو ما يتناسب مع الاتجاه السائد في العقد الماضي، عندما كان الأمريكيون منخرطين في كتابات خبيثة، وينسبون إلينا كل أنواع الأفعال أو النيات التي لا تناسبهم”.
وإذا قارنا عدد الأقمار الصناعية العسكرية الأمريكية والروسية الموجودة في المدار الفضائي، فإن الأول سيكون أكبر بكثير. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم الولايات المتحدة أيضًا شركات خاصة في الاستخبارات والأنشطة الأخرى. توفر أقمار ستارلنك (Starlink)، التابعة لشركة إيلون ماسك، الاتصالات للجيش الأوكراني. بشكل عام، دعت روسيا دائمًا إلى التوقيع على معاهدة تحد من أي استخدام للفضاء للأغراض العسكرية، وكانت الولايات المتحدة ترفض دائمًا الموافقة على هذه المعاهدة.
ثانيًا: فيما يتعلق بالصراع الأوكراني، فمن الواضح أنه فور أن يبدأ الجانب الأوكراني (وبالتالي الغرب الجماعي بكامله، الذي يدعم كييف) بفقدان المبادرة وأي مزايا، يبدأ- على الفور- بضخ المعلومات المضللة؛ بهدف احتواء المواقف أو تفاقمها تجاه روسيا. وقد تمت دراسة هذه المعلومات والتكتيك الدبلوماسي لدول الناتو جيدًا على مدى السنوات العشر الماضية، منذ الانقلاب في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2014.
وأخيرًا، فيما يتعلق بالدعاية المضادة لروسيا في إفريقيا، فإن الحالة مماثلة. ترى كثير من الدول الإفريقية أن الولايات المتحدة وعددًا من الدول الأوروبية جهات فاعلة غير مرغوب فيها في المنطقة. وفي الوقت نفسه، تتزايد الثقة بروسيا، ومن الطبيعي أن تنشأ مبادرات ثنائية مختلفة، مع أنه من الغريب أن تعتبر وزارة الخارجية الأمريكية قناة تيليجرام روسية، تضم أقل من 10 آلاف مشترك، تهديدًا. ومن الواضح أن انعدام الثقة بالسياسة الأمريكية في إفريقيا تزايد على نحو ملحوظ، وتبين أن الاستراتيجيات الأمريكية كانت فاشلة.
وينبغي أن يكون مفهومًا أن هذه التصريحات هي جزء من إستراتيجية أمريكية طويلة الأمد للتضليل والدعاية. وتشكل التصريحات المتناثرة التي يدلي بها مسؤولون في الحكومة الأمريكية رواية تقدم روسيا على أنها تهديد، ولا يوجد أي دليل؛ وإنما مجرد إشارات إلى بيانات استخباراتية مفترضة، أو مجرد اتهامات مبتذلة لأي سبب من الأسباب، للتأثير النفسي، وليس للمفاوضات السياسية التي كان من الممكن أن تتم لو كانت هناك دلائل جادة، لكن الاتهامات السابقة التي وجهتها الولايات المتحدة لم تكن مدعومة بأي حقائق.
حتى في وقت سابق، أفادت المخابرات الأمريكية أن روسيا ستتدخل في الانتخابات في 100 دولة. وسبق أن أكد كثير من المسؤولين الأمريكيين باستمرار أن موسكو تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020، لكن لم يُقدَّم أي دليل، سواء في الانتخابات الماضية أو المقبلة. الأمر المعتاد للساسة الغربيين هو أن الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة ضرورية لخلق ضجيج معلوماتي آخر، والتغطية- بطريقة أو بأخرى- على تناقضهم، وإخفاقاتهم السياسية.
بالمناسبة، في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تُنفَّذ عمليات مطاردة الساحرات ضد الروس فحسب، بل أيضًا ضد العرب. وعلى وجه الخصوص، ذكر عدد من علماء السياسة- مرارًا وتكرارًا- تأثير قطر في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، واتهمت صحيفة واشنطن بوست، نقلًا عن وثائق استخباراتية أمريكية، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة بالقيام بأنشطة مماثلة.
على من تقع المسؤولية؟
إذا طرحنا السؤال: من المسؤول- على وجه التحديد- عن هذا التضليل- المخابرات الأمريكية التي يستند الساسة إلى معلوماتها، أم الساسة أنفسهم لأنهم يسيئون تفسير تلك المعلومات؟ فسنرى أن اللوم يقع على كليهما. وكما لاحظت إيمي زيجارت، مؤلفة كتاب: “الجواسيس والكذابون والخوارزميات.. تاريخ الاستخبارات الأمريكية ومستقبلها”، في إحدى المقابلات، فإن الاستخبارات الأمريكية تدهورت تدهورًا شديدًا في العقود الأخيرة، مع وضوح العلاقة بين مجتمع الاستخبارات والقيادة السياسية: “لقد كانت أفغانستان فشلًا إستخباراتيًّا؛ لذا، كما تعلمون، هناك قول مأثور في مجال الاستخبارات، مفاده أنه لا توجد إخفاقات سياسية؛ بل هناك إخفاقات استخباراتية فقط”.
كانت أفغانستان فشلًا سياسيًّا كبيرًا. وفي الواقع، إذا ألقيت نظرة فاحصة على مختلف وكالات الاستخبارات وما قالته، فإن وكالة المخابرات المركزية كانت دائمًا: “أكثر تشاؤمًا بشأن قدرة الحكومة الأفغانية على البقاء من الجيش. وأعتقد أن جزءًا من المشكلة كان أن وكالات استخبارات الدفاع كانت تقيّم قدراتها؛ لذلك فمن المؤكد أنهم كانوا أكثر تفاؤلًا مما ينبغي. لكن السبب الذي جعل الانسحاب كارثيًا جدًّا لم يكن له علاقة بوكالات الاستخبارات بقدر ما كان يتعلق بسياسات إدارة بايدن، بسبب التفاعل بين السياسات والاستخبارات؛ ولذلك أعتقد أن هذا يمثل فشلًا حقيقيًّا للسياسة في أفغانستان”.
وفي العراق، كان الوضع مختلفًا قليلًا، لكنه في النهاية كان أيضًا فشلًا استخباراتيًّا بسبب نقص المعلومات عما يحدث، والتشويه المتعمد للوضع من جانب السياسيين؛ ونتيجة لذلك، كان الوضع مختلفًا. حدث غزو البلاد بسبب المعلومات الكاذبة، بخصوص أسلحة الدمار الشامل. وتخلص زيغارت إلى القول: “لذلك، كما يحب علماء السياسة أن يقولوا، كان الفشل في العراق محددًا تحديدًا مبالغًا فيه. كان هناك كثير من المتغيرات التي سارت على نحو خاطئ، وقد أسادهمت عوامل كثيرة في هذا الفشل، لكن من الواضح أنه كان فشلًا استخباراتيًّا”.
الخاتمة
كما نرى، فقدت الاستخبارات الأمريكية كفاءاتها منذ مدة طويلة، ويستخدم الساسة في وزارة الخارجية والبيت الأبيض أي معلومات استخباراتية لتحقيق مصالح جهات لا علاقة لها بالأمن (القومي الأمريكي، أو العالمي).
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.