المبادرة الفرنسية حول السلطة الفلسطينية: لعب في الوقت الضائع

08.06.2016

فجأة، ومن غير تمهيد مسبق، تحرك «الحزب الاشتراكي» الذي يمسك بزمام السلطة في فرنسا، بقيادة الرئيس فرانسوا هولاند، والذي تتآكل شعبيته يوماً بعد يوم، في اتجاه البحث عن تسوية للمسألة الفلسطينية، أو ربما السلطة الفلسطينية، وفق رؤية لا جديد فيها، رفضتها الحكومة الإسرائيلية سلفاً، برغم أنها «أدنى» في منطلقها وفي استهدافاتها من أي مبادرة سابقة.

هكذا شهدت باريس، الأسبوع الماضي، اجتماعاً دولياً شارك فيه عدد كبير من وزراء الخارجية في الغرب، تصدّرهم وزير الخارجية الأميركي وبعض وزراء الخارجية العرب، يتقدمهم الوزير السعودي وإلى جانبه الأمين العام المنتهية ولايته لجامعة الدول العربية السيد نبيل العربي.

لعل أفضل ما يلخص المبادرة الفرنسية الجديدة ما ردّدته الرياض من أن المبادرة السعودية التي تقدّم بها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية ببيروت في العام 2002، كانت أكثر تقدماً، وربما أكثر عدلاً من المبادرة الفرنسية، التي باتت الآن دولية، في ما خصّ حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، واستطراداً في دور السلطة الوطنية الفلسطينية في إدارة شؤون شعبها داخل فلسطين المحتلة.

ولم تكن حكومة نتنياهو، الذي تعزّز تطرفها العنصري بعد انضمام ليبرمان إليها، في تزامن غير مقصود مع المبادرة الفرنسية ـ الدولية الجديدة، بحاجة لأن تجاهر برفضها، خصوصاً أنها تحفّظت عليها حين عرض عناوينها رئيس الحكومة الفرنسية خلال زيارته الأخيرة للكيان الإسرائيلي. وهكذا، فقد تصرفت كما لو أنها غير معنية بما تضمّنته من مقترحات تقوم على أساس توسيع مساحة «السلطة» في القرار الذي يعني الفلسطينيين، بالتفاهم طبعاً مع الحكم العسكري الإسرائيلي.

ربما لهذه الأسباب مجتمعة لم تُحدث هذه المبادرة أي ردود فعل مؤثرة، وإن ارتفعت أصوات فلسطينية داخل المجلس الوطني الفلسطيني بالرفض، في حين تصرّفت الحكومة الإسرائيلية وكأنها غير معنية بما تقرَّر في باريس.

ومعلوم أن ميزان القوى القائم حالياً، يستبعد أن يقبل التطرف الإسرائيلي الحاكم أي مبادرة من شأنها إحداث أي تعديل أو «تحريك» لصالح الشعب الفلسطيني. برغم ذلك، يأتي الاستعراض الأخير لمسلسل المبادرات أو المقترحات المعنية بإيجاد تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو الذي سرعان ما انكمش بعد الهزائم والنكسات العربية المتوالية فصار «نزاعاً» بين السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها، وبين الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال صاحب القرار في الشؤون الفلسطينية، بما فيها صلاحيات السلطة الفلسطينية في الأرض التي ما تزال تحت الاحتلال ومدى حرية الحركة المتاحة أمامها.

لقد سُحب من التداول تعبير «الصراع العربي ـ الإسرائيلي» بعد مسلسل النكسات والهزائم والتسويات التي تعرّض لها الجانب العربي، فبدلت هذه الهزائم من طبيعته، لا سيما بعد «خروج» الدول العربية المعنية مباشرة به، أي مصر وسوريا ثمّ الأردن، كل منها لسبب وضمن إطار مغاير للآخر، من حومة الصراع، ما جعل السلطة الفلسطينية وحيدة في مواجهة «العدو القومي» الذي غدا يتمتع بقوة أسطورية بعدما توالت الاتفاقات المنفردة بين مصر وإسرائيل، ثمّ بين سوريا وإسرائيل، عبر فك الاشتباك في العام 1974، ثمّ بين إسرائيل والأردن الذي كان يحصـل دائماً على «جوائز ترضية» لا يستحقها، كبديل مفترض، أو كشريك مضارب للسلطة الفلسطينية.

ففي خريف العام 1967، وبعد الهزيمة القاسية التي مُنيت بها مصر (ومعها سوريا) في حرب الخامس من حزيران، ثمّ عمليات سحب شعار «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» الذي كان قيد التداول حينه، توالت سلسلة من الاتفاقات المنفردة، أخطرها ما أقدمت عليه مصر ـ السادات بعد حرب رمضان ـ تشرين 1973، من الاندفاع إلى التسوية المنفردة مع الإسرائيليين، متخلية بذلك عن قضية فلسطين، ومفترضة أنها قد أدت ما يفرضه واجب التضامن معها.

بعدها سيختلف الأمر جذرياً، خصوصاً عبر المسارات المنفصلة للدول العربية، والتي ردت عليها القيادة الفلسطينية باتفاق أوسلو مع الاحتلال الإسرائيلي في العام 1993، وهو الاتفاق الذي مكّن القائد ياسر عرفات من العودة إلى داخل الأرض المحتلة، ببعض من الفصائل المقاتلة التي صارت في «الداخل» مجرد شرطة، لا شأن لها بالتحرير، وتُختصر مهمتها بقمع الاعتراضات ومظاهر الاحتجاج ورفض «اتفاقات الخيبة» و «صك الهزيمة الجدية» التي لم تلبث أن هدأت بقوة الأمر الواقع.

ماذا تعني «التسوية»؟ ومَن هو القادر على فرضها؟
مع انعدام التوازن بين العرب مجتمعين وبين العدو الإسرائيلي، فإن «التسوية» هي ـ بمعناها الحقيقي ـ تنازلات عربية لعدوهم الأقوى منهم، قد تصيب بعض أنظمتهم في وطنيتها أو في عروبتها، ولكنها تصيب الفلسطينيين في صميم حقوقهم في أرضهم، أي في جوهر نضالهم الوطني المستمر منذ ثمانين عاماً أو يزيد.

والخط البياني لمشاريع التسوية يثبت أن كل مشروع طرح على الفلسطينيين كان يخصم المزيد من حقوقهم، خصوصاً مع تناقص الدعم العربي، بل مع انعدامه أحياناً، بحيث باتوا يواجهون ـ وحدهم ـ العدو التاريخي لجموع العرب.

بعد العودة إلى الداخل سرعان ما انشقت السلطة إلى سلطتين، واحدة في الضفة الغربية (بقيادة «فتح» ومن معها)، والثانية بقيادة «حماس» ومعها «الجهاد» في غزة، فإذا «القضية المقدسة» تنتهي في سوق المساومات السياسية. وإذا العرب يدفعون «السلطة الفلسطينية» إلى مزيد من التنازلات، خصوصاً أن انقسامها بلغ ذروة مخاطره عندما ابتعدت السلطة في رام الله عن «الحرب الإسرائيلية» التي استهدفت غزة الخاضعة عملياً لسلطة «حماس» منذ وفاة ياسر عرفات. وهي الحرب التي تكرّرت ثلاث مرات خلال السنوات الأربع عشرة الماضية فدمّرت كل ما في غزة تقريباً.

على هذا فإن الرئيس الفرنسي يقدّم مبادرته في لحظة سياسية محددة:
ـ الوضع العربي في أتعس حالاته مطلقاً. مصر التي تربطها معاهدة صلح مع العدو الإسرائيلي تعرض الآن ما يشبه الوساطة، متبرّعة بالسعي إلى «تسوية للنزاع»، لا يستطيع الطرف الفلسطيني أن يرفضها لضعفه، ولا تقبلها إسرائيل بسبب تعاظم إحساسها بأنها أقوى من العرب مجتمعين، وأن مجرد اتخاذ مصر موقعاً «وسيطاً» هو إضعاف لموقع الطرف الفلسطيني.

في المقابل، فإن الحرب في سوريا وعليها تُخرج هذه الدولة التي كانت قوية من دائرة الصراع، بل وتكاد تجعلها عبئاً على الطرف الفلسطيني، في ظل ضعفها الراهن الذي يُغري بها العدو الإسرائيلي، فتشن طائراته الحربية الغارات عليها، في مواقع متعددة، مستغلّة انهماكها في الحرب فيها وعليها.

هل من الضروري الحديث عن العراق الذي يعيش مناخات حرب أهلية ويزيد من إرهاقه ـ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بالطبع ـ سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي على حوالي نصف مساحته، متخذاً من مدينة الموصل عاصمة ومركز قيادة؟

أما لبنان، فقد حرّرت مقاومته أرضه، في العام 2000، ثمّ تصدّت للحرب الإسرائيلية عليه في العام 2006 فانتصرت فيها، ولكنها لا تستطيع ـ حتى لو أرادت ـ أن تنوب عن الفلسطينيين وجميع العرب في التصدي لقضية في خطورة «تحرير فلسطين»، أو إجبار إسرائيل على القبول بتسوية تعيد للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم في أرضهم.

ربما لهذا لم تهتمّ إسرائيل كثيراً بالمبادرة الفرنسية الجديدة، ولا اهتمّ العرب، أو سمحت لهم ظروفهم بالاهتمام بها، فاكتفى الوزير السعودي بالتذكير بمبادرة ملكه في بيروت في العام 2002 وحاول إحياءها بعد مواتها. ولكن ذلك كله كان في محاولة تبرئة الذات من «دم هذا الصِّدِّيق».

وسيكون على شعب فلسطين أن ينتظر انقلابات جذرية في هذا الوضع العربي البائس قبل تجديد الحديث عن «التحرير».
ومع ذلك، فإن فتية فلسطين وصباياها يخرجون على عسكر الاحتلال بسكاكينهم الصغيرة ليقولوا: هذه أرضي، وهي حق لي، ولن ننسى!

جريدة "السفير"