البعد الجيوسياسي للبريسترويكا وانهيار الاتحاد السوفيتي

14.06.2016

حتى العام 1985، كان الموقف في الاتحاد السوفيتي حول التواصل مع الغرب على وجه العموم يتميز بالارتياب الشديد. فقط في فترة حكم أندروبوف تغير الوضع إلى حد ما، فوفقا لتعليماته تلقت مجموعة من العلماء السوفييت ومجموعة من المعاهد الأكاديمية مهمة التعاون بنشاط مع هياكل العولمة مثل (نادي روما، مجلس العلاقات الخارجية، واللجنة الثلاثية، وما إلى ذلك). على العموم ظلت أهداف السياسة الخارجية الرئيسية للاتحاد السوفيتي دون تغيير خلال كامل الفترة من ستالين إلى تشيرنينكو.
بدأت التغييرات في الاتحاد السوفيتي مع وصول غورباتشوف إلى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي. وتولى مهام منصبه بعد حرب أفغانستان، والتي وصلت إلى طريق مسدود. من خلال خطواته الأولى في مكتب الأمين العام، واجه غورباتشوف مشاكل خطيرة. كانت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية قد بدأت بالجمود، وكان المجتمع غير مبال. فقدت النظرة الماركسية جاذبيتها وأصيبت أيضا بحالة من الجمود. كان هناك نسبة متزايدة من المثقفين في المناطق الحضرية تنجذب أكثر وأكثر إلى الثقافة الغربية وترغب في المعايير "الغربية". فقد الناس الوطنيون إمكانات العصرنة وفي بعض الأماكن بدأت العمليات القمعية لإيقاف التغيير وتصاعدت المشاعر القومية وهلم جرا. سباق التسلح وضرورة منافسة النظام الرأسمالي المتطور بشكل ديناميكي باستمرار استنفذ الاقتصاد. أما في دول أوروبا الشرقية فقد بلغ الاستياء حدا أكبر حيث بدت المعايير الرأسمالية الغربية أكثر جاذبية، فتراجعت هيبة الاتحاد السوفيتي تدريجيا. في هذه الظروف أصبح غورباتشوف مطالبا بإستراتيجية جديدة تعيد الدينامية إلى الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية بأكملها.

ولقد فعلها غورباتشوف على هذا النحو: في ذلك الوضع الصعب، وبالاعتماد على النظريات التي تدعو للتقارب وبناء على مقترحات من مجموعات العولمة، بدأ بالتقارب من العالم الغربي عن طريق تنفيذ تنازلات من جانب واحد. على الأرجح توقع غورباتشوف ومستشاروه إجراءات مقابلة من الغرب، أي أن يكون رد الغرب على كل تنازلات غورباتشوف من خلال تنازلات مماثلة لصالح الاتحاد السوفيتي. لقد وضعت هذه الخوارزمية في الأسس التي تقوم عليها سياسة البريسترويكا. أما في السياسة الداخلية، كان هذا يعني التخلي عن الدكتاتورية الإيديولوجية الصارمة للماركسية، وتخفيف القيود فيما يتعلق بالنظريات الفلسفية والعلمية غير الماركسية، ووقف الضغط على المعاهد الدينية (في المقام الأول على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية)، وتوسيع نطاق التفسيرات المسموح بها لأحداث التاريخ السوفيتي، والسماح بإنشاء المؤسسات الصغيرة (التعاونيات)، وحرية تكوين الجمعيات من المواطنين على أساس المصالح السياسية والأيديولوجية. في هذا المعنى، البريسترويكا كانت سلسلة من الخطوات الموجهة نحو الديمقراطية والبرلمانية والسوق، والتوسع في الحرية المدنية. وكانت هذه الحركة بعيدة عن النموذج الاشتراكي للمجتمع وتدفع باتجاه نموذج برجوازي ديمقراطي ورأسمالي. ولكن هذه الحركة كانت تدريجية في البداية، وبقيت في إطار الخوارزمية الاجتماعية الديمقراطية. تم الجمع بين الديمقراطية والليبرالية مع الحفاظ على النموذج الحزبي في إدارة البلاد وفي الاقتصاد الرأسي المخطط له بدقة، والسيطرة على وكالات الحزب وعلى الخدمات الخاصة وراء العمليات الاجتماعية-السياسية.
ومع ذلك، كان ينظر إلى هذه التحولات في بلدان أخرى في الكتلة الشرقية بوصفها مظهرا من مظاهر الضعف وتنازلات من جانب واحد نحو الغرب. وقد تأكد هذا الاستنتاج من خلال قرار غورباتشوف سحب الوحدات العسكرية السوفيتية من أفغانستان عام 1989، ومن خلال سلسلة من الثورات الديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، وما رافقها من سياسات غير متناسقة في ما يتعلق بسلسلة من الجمهوريات الحليفة: استونيا وليتوانيا ولاتفيا، وأيضا جورجيا وأرمينيا، والتي كانت أول المشاركين في عملية إنشاء دول مستقلة....

على هذه الخلفية، اتخذ الغرب موقفا واضح المعالم: حيث تم تشجيع غورباتشوف وإصلاحاته بالكلام فقط، وأطرى الغرب على مصيره المحتوم، وفي نفس الوقت لم يتخذ خطوة واحدة مقابلة لصالح الاتحاد السوفيتي. لم يتخذ أصغر خطوة في اتجاه المصالح السياسية والإستراتيجية والاقتصادية السوفيتية. ونتيجة لذلك، أدت سياسات غورباتشوف، بحلول عام 1991، إلى انهيار النظام العملاق للنفوذ السوفيتي في حين أن القطب الثاني الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي ملأ الفراغ الذي فتح لهم بسرعة. لقد كان ممكنا في المراحل الأولى من البريسترويكا النظر إليها على أنها مناورة خاصة في "الحرب الباردة" (خلافا لخطة "تحول فنلندا نحو أوروبا"، التي صيغت من قبل بيريا، أما غورباتشوف نفسه، فقد تحدث عن "المنزل الأوروبي")، وفي نهاية عام 1980 أصبح واضحا أننا كنا نتعامل مع حالة من الاستسلام المباشر من جانب واحد.

وافق غورباتشوف على سحب القوات السوفيتية من جمهورية ألمانيا الديمقراطية وحل حلف وارسو، واعترف بشرعية الحكومات البرجوازية الجديدة في بلدان أوروبا الشرقية، ثم انتقل إلى تلبية تطلعات الجمهوريات السوفيتية للحصول على درجة كبيرة من السيادة والاستقلال، وأعاد النظر في شروط الاتفاق الذي يسمح بتشكيل الاتحاد السوفيتي بشروط جديدة. كما رفض غورباتشوف تعزيز الخط الاشتراكي الديمقراطي، وفتح الطريق أمام إصلاحات برجوازية رأسمالية مباشرة في الاقتصاد. في كلمة واحدة، بلغت إصلاحات غورباتشوف حد الاعتراف بهزيمة الاتحاد السوفيتي في المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
من وجهة نظر جيوسياسية، البريسترويكا تمثل التنصل من المواجهة العقائدية مع العالم الرأسمالي، ولكنها أيضا تناقض المسار التاريخي الأوراسي الكامل، بتشكيل القارة العظمى قلب الأرض، وحضارة الأرض. وكان هذا هو التقويض لأوراسيا من الداخل والتدمير الذاتي الطوعي لأحد أقطاب النظام العالمي. وهذا القطب لم ينشأ على الإطلاق في الحقبة السوفيتية ولكنه اتخذ شكله على مدى قرون وآلاف السنين في مجاري الأنهار من خلال منطق الطبيعية والتاريخ الجيوسياسي ووفقا لخطوط القوة للجغرافيا السياسية الموضوعية. اتخذ غورباتشوف الموقف المؤيد للغرب، الذي سرعان ما أدى إلى انهيار الهيكل العالمي وأوصل إلى نسخة جديدة من المشاكل التي يعاني منها العالم. بدلا من الأوراسية اعتمدت الأطلسية. لقد حل مكان حضارة الأرض ومجموعة القيم الاجتماعية الخاصة بها  قيم حضارة البحر وعلى جميع  الصعد والمستويات. إذا قارنا الأهمية الجيوسياسية لهذه الإصلاحات مع كل فترات التاريخ الروسي الأخرى. لا يمكننا الهروب من الشعور بأننا نتعامل مع شيء لم يسبق له مثيل.

التاريخ يشير أن الاضطرابات في روسيا  لم تدم طويلا في أي وقت من الأوقات وتحل محلها فترات نهضة جديدة ذات سيادة. حتى الاضطرابات المخيفة حافظت على المركز الذي  أصبح قطبا مركزيا جديدا ينطلق من الأراضي الروسية. وحتى أولئك الروس ذوي التوجه الأوروب، اعتمدوا إلى جانب أفكارهم الأوروبية كل التكنولوجيات والمهارات الغربية  لتعزيز قوة الدولة الروسية، لتأمين حدودها، والدفاع عن مصالحها الوطنية. وهكذا، فإن بيتر (القيصر بيتر الأول) ذو التوجه الغربي  أو يكاترينا الثانية الألمانية، مع كل حماسهم لأوروبا، قاموا بتوسيع أراضي روسيا وحققوا لها انتصارات عسكرية كبيرة. حتى البلاشفة الذين كان لديهم هاجس الثورة العالمية، قاموا بتعزيز قوة الاتحاد السوفيتي. حالة غورباتشوف استثناء مطلق في التاريخ الجيوسياسي الروسي. هذا التاريخ لم يعرف مثل هذه الخيانة حتى في أسوأ فتراته. لم يدمر النظام الاشتراكي وحسب، بل فجر قلب الأرض من الداخل.

البعد الجيوسياسي لانهيار الاتحاد السوفيتي
نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي وصل عالم يالطا إلى نهايته المنطقية. وهذا يعني أن نموذج القطبين انتهى. أحد الأقطاب وضع حدا لوجوده من تلقاء نفسه. الآن يمكن القول على وجه اليقين أن نظرية التقارب كانت في الواقع خطة ماكرة من قبل حضارة البحر. هذه الخطة الماكرة جلبت النصر  لدول البحر في "الحرب الباردة". لم يحدث أي تقارب في الواقع، ونتيجة للتنازلات من جانب واحد، من جانب الاتحاد السوفيتي، استطاع الغرب تعزيز ايديولوجيته الرأسمالية والليبرالية وتوسيع نفوذه أكثر فأكثر في جميع أنحاء الفراغ الأيديولوجي الذي تشكل. كما اتسع نطاق حلف شمال الأطلسي في السيطرة. وهكذا انضمت جميع بلدان أوروبا الشرقية إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (رومانيا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وبلغاريا وبولندا وسلوفينيا وكرواتيا)، وبعد ذلك انضمت أيضا جمهوريات الاتحاد السوفيتي (استونيا وليتوانيا ولاتفيا). وهكذا، تغيرت بنية العالم بعد انتهاء "الحرب الباردة" وتحولت إلى القطبية الواحدة، وسادت حضارة البحر الغربية وكتلتها الديمقراطية البرجوازية ومركزها الولايات المتحدة الأمريكية.

انتهى العالم ذو القطبيين وبالتالي، انتصر أحد القطبين وتعزز دوره على حساب القطب الخاسر. اختفى أحد القطبين في حين بقي الآخر وأصبح يمثل الهيكل السائد للنظام الجيوسياسي العالمي كله. هذا يمثل انتصار حضارة البحر على حضارة الأرض ويمثل المحتوى الحقيقي للعولمة وجوهرها. من الآن فصاعدا، أصبح العالم يتمتع بصفتين رئيسيتين هما العولمة والآحادية القطبية. من وجهة النظر الاجتماعية، تمثل العولمة نشر نموذج المجتمع الغربي البرجوازي الديمقراطي الليبرالي والسوق ومجتمع التجار. هذه هي حضارة البحر. وفي نفس الوقت تعتبر الولايات المتحدة نفسها مركز وجوهر هذا النظام. الديمقراطية والتغريب والأمركة والعولمة هي أساسا مسميات مختلفة لمعنى واحد، يمثل عملية الهجوم الكلي لحضارة البحر وهيمنة البحر. وهذا يعتبر نتيجة طبيعية لذلك الصراع الذي كان سائدا في العلاقات الدولية في القرن الـ20. أثناء حكم خروشوف، عانت النسخة السوفيتية لحضارة الأرض من كارثة هائلة، حيث أن المناطق الإقليمية التي تحيط بقلب الأرض من البحار الدافئة، صارت إلى درجة كبيرة تحت سيطرة القوى البحرية. وبالتالي ينبغي لنا أن نفهم من خلال ذلك، توسع حلف شمال الأطلسي في الشرق على حساب البلدان الاشتراكية السابقة والجمهوريات المتحالفة والتعزيز اللاحق للنفوذ الغربي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي.
انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي لم يعد موجودا منذ العام 1991، وضع حدا للحقبة السوفيتية. وانتهت هذه المرحلة بهزيمة قاسية لا مثيل لها في تاريخ روسيا السابق. ولا حتى أثناء الوقوع في التبعية الكاملة للمغول، نحن نتعامل مع حالة انتصار هائل للأعداء الرئيسيين لحضارة الأرض مع هزيمة معوقة من روما وانتصار جديد لقرطاج.

تفكك الاتحاد السوفيتي يدل من وجهة نظر جيوسياسية على وقوع حدث ذي أهمية هائلة أثر على الهيكل الكامل للخارطة الجيوسياسية العالمية. ووفقا لمعالمه الجيوسياسية، المواجهة تشير لحرب بين الغرب والشرق، بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي الذي كان  الاتحاد السوفيتي يشكل جوهره، وهذا يمثل ذروة عملية عميقة من الحرب العظمى بين القارات ويمثل الصراع بين حضارة الأرض وحضارة البحر. قاد هذا الصراع التاريخ بأكمله إلى ذروة التوتر في هذه المعركة التي حصلت على وجه التحديد في العام 1991، وكان هدفها مع وفاة الاتحاد السوفيتي، إسقاط حضارة الأرض.