حلف الناتو يطلق سباق تسلح جديد في البلطيق
ينظر إلى القرار الأخير الذي اتخذه حلف شمال الأطلسي بإرسال أربع كتائب مسلحة لدول البلطيق وبولندا باعتباره خطوة استباقية ضد عدوان روسي محتمل، مثل هذه الخطوة قد تؤدي إلى تصعيد خطير في الأعمال القتالية.
نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 29 أبريل/ نيسان مقالا حول تعزيز قوات حلف شمال الأطلسي في دول البلطيق وبولندا، محذرة من أن ما يقدر بنحو 4000 جندي سيتم إرسالهم إلى حدود روسيا. وأكد روبرت وورك مساعد وزير الدفاع الأمريكي هذه المعلومات لاحقا. زيادة التوترات الحالية في العلاقات بين الغرب وروسيا، الناتج عن مثل هذه الخطوة يبدو كتحذير أخير لموسكو وقد يؤدي إلى تفاقم الوضع على طول الحدود بين دول البلطيق.
ومع ذلك، وعلى الرغم من المخاوف السابقة بشأن احتمال “عدوان روسي” في دول البلطيق - بما في ذلك فيلم نشرته محطة "بي بي سي" مؤخرا حول اندلاع حرب عالمية ثالثة نتيجة الصراع المسلح في شرق لاتفيا - فإن التهديد الروسي في دول البلطيق مبالغ فيه إلى حد كبير. علاوة على ذلك يعارض سكان العديد من الدول الأوروبية منذ فترة طويلة إعادة نشر القوات في اتجاه الشرق.
فلماذا يفعل الناتو مثل هذه الخطوة؟ خاصة الآن، عندما سيعقد الاجتماع الأول لمجلس الناتو وروسيا بعد عامين من التوقف الذي لم يؤدّ إلى أي توتر في العلاقات بين موسكو والحلفاء الغربيين. في الواقع، إذا كان هناك أي شيء، فإن هذا الاجتماع الأخير أظهر عدم جدوى الدخول في حوار في هذه المرحلة من العلاقات.
ما وراء قرار الناتو إرسال قوات إلى حدود روسيا
في الوقت الحاضر، هناك حديث عن إرسال أربع كتائب لاستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، وهما كتيبتان أمريكيتان وكتيبة ألمانية وكتيبة بريطانية. حتى الآن أعلنت برلين فقط أن القوات التي سترسل ستستقر على الأرجح في ليتوانيا. أما الفرق الثلاثة الأخرى فلا تزال وجهتها غير معروفة.
بعد انضمام دول البلطيق الثلاث إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 2004، حصلت على ضمانات أمنية موثوقة ضد أي تهديد روسي. ونظرا لأن هذه الجمهوريات السوفيتية السابقة ليس لديها طائرات مقاتلة حديثة، فقد بدأت قوات منظمة حلف شمال الأطلسي العمل في المجالات الجوية لهذه الدول وحماية سماء البلطيق في نفس العام الذي انضمت به إلى الحلف.
أكثر من ذلك، فإن الطائرات المقاتلة الأربعة التي استقرت بشكل أولي في القاعدة الجوية زوكونياي في ليتوانيا أصبحت 18 طائرة في عام 2016 ، كما بدأ التحالف باستخدام قاعدة جوية جديدة في استونيا هي قاعدة إيماري.
في الفترة ما بين 2014 و 2015 تم إرسال قوات برية من الدبابات وغيرها من المعدات الثقيلة في عدة مناسبات إلى دول البلطيق للمشاركة في المناورات العسكرية في دول البلطيق. هذه المناورات كانت تعتمد سيناريو مقاومة عدوان روسي افتراضي.
وهكذا، شارك أكثر من 6000 من قوات حلف شمال الأطلسي في مناورات عامي 2013 و2015 تم تسميتها بـ "رقصة الجاز الحازمة 2013" و"رقصة الجاز الحازمة 2015". ومع ذلك لم تتمركز هذه القوات بشكل دائم في جمهوريات دول البلطيق. بداية عام 2016 نشرت القيادة الأمريكية الأوروبية لحلف شمال الأطلسي نسخة محدثة من الإستراتيجية العسكرية في أوروبا تذكر أن "احتواء العدوان الروسي" يعتبر أولوية قصوى لحلف الناتو. في نفس الوقت ساعدت التدريبات "رقصة الجاز الحازمة" حلف شمال الأطلسي على تطوير فعاليات نقل القوات إلى دول البلطيق وتقنيات تنسيق أعمالها.
التوازن الحالي بين روسيا والناتو في البلطيق
أعلن بعض المحللين استنادا إلى تحليل هذه المناورات، (بما في ذلك مؤسسة راند) أن الجيش الروسي يحتاج فقط إلى 36-60 ساعة للتغلب على مقاومة قوات حلف شمال الأطلسي واحتلال عواصم دول البلطيق، في حين أن الحلف يحتاج إلى 72 ساعة على الأقل لنشر قوات الرد السريع في أوروبا في مسرح العمليات العسكرية. هذه توقعات مخيبة للآمال بالنسبة للغرب، والساعات القليلة التي يمكن الحصول عليها في حال إعادة تشغيل القوات، ستكون حيوية لصد أي عدوان.
ينبغي للمرء أن يضع في الاعتبار أن الوحدات العسكرية الروسية في شمال غرب روسيا أكبر بكثير من القوات التابعة لحلف شمال الأطلسي. وعلاوة على ذلك، فقد أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في وقت مبكر من عام 2016، أنه بحلول نهاية العام، سيتم إنشاء ثلاث فرق جديدة في الجزء الغربي من البلاد (حسب نوع القوات، فإن تعداد فرقة واحدة يمكن أن يتجاوز 16000 رجل).
يبدو أن جهود حلف الناتو في هذا السياق بتعزيز قواته في دول البلطيق وكأنها مجرد تدابير احترازية، فهي غير متناظرة مع مثيلاتها الروسية. وإذا كانت واشنطن وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي خائفين حقا من غزو روسي، فإنهم يحتاجون إلى قاعدة عسكرية تضم فرقة كاملة على الأقل في دول البلطيق.
المصالح الروسية في البلطيق
لا قيمة جدية للحديث عن أي تهديد فعلي من قبل روسيا على لاتفيا واستونيا، وأكثر من ذلك على ليتوانيا وبولندا.
لا قيمة جدية للحديث عن أي تهديد فعلي من قبل روسيا على لاتفيا واستونيا، وأكثر من ذلك على ليتوانيا وبولندا. للكرملين مصالح مهمة في دول الاتحاد السوفييتي السابق ولكن ليس لديه بأي حال من الأحوال نية في التدخل في هذه الدول.
أولا، إن روسيا ترغب في ضمان حقوق الناطقين باللغة الروسية في تلك البلدان. هذه المخاوف تتعلق قبل كل شيء بقضية اللغات الإقليمية وضمان حقوق المواطنين. ثانيا إن روسيا تريد تحسين النقل البري بين دول بحر البلطيق ومدينة كالينينغراد، الواقعة في منطقة كالينينغراد الروسية والتي يحيط بها بحر البلطيق وبولندا وليتوانيا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه من المرجح أن مهاجمة دول البلطيق على هذا النحو ستشكل اعتداء يحتمل أن يثير تبادل في الضربات النووية. كان هذا هو السيناريو في فيلم حول الحرب العالمية الثالثة حيث رأى المخرج من داخل غرفة العمليات أن هجوما روسيا ضد دول البلطيق قد يؤدي إلى هذه الحرب مع كل ما يترتب عليها.
في الواقع، وفي حالة وجود صراع حقيقي، ستضطر الأطراف إلى استخدام القدرات النووية خلال المرحلة الأولى من الحرب. حيث لم تستبعد لا موسكو ولا واشنطن إمكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وهذا الشيء يشكل رادعا يجعل من المستحيل عمليا أن تفكر روسيا بمهاجمة دول البلطيق، وبالتالي الدخول في مواجهة مفتوحة مع حلف شمال الأطلسي.
ومن الواضح أن السبب الحقيقي لتواجد حلف الأطلسي في دول البلطيق هو سبب سياسي، وهذا العمل يتناسب مع طموحات ثلاث دول في حلف شمال الأطلسي هي الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا للتكامل مع دول البلطيق.
ماذا يعني إنشاء هذه القوة العسكرية بالنسبة لبولندا ولاتفيا وليتوانيا
في نفس الوقت تجبر هذه الأعمال الكرملين على تقوية موقفه بالنسبة لهذه الدول التي أعادت نشر قواتها قريبا من الحدود الروسية وهي ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
بدراسة الحالة الألمانية على سبيل المثال، فقد بدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد مقابلتها الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل عدة أيام أكثر اعتدالا وقالت إن ألمانيا من حيث المبدأ يمكن أن تسحب قواتها من الحدود الروسية. بينما ترى الحكومة البريطانية أن إرسال القوات البريطانية إلى دول البلطيق سيساهم بضمان أمن أوروبا، الأمر الذي سيساهم في تعزيز موقف الحكومة البريطانية عشية التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمقرر في يونيو من هذا العام.
وعلاوة على ذلك، فإن إرسال قوات إضافية إلى دول البلطيق سيعزز موقف القوميين في حكومات دول البلطيق. وهؤلاء السياسيون سيستغلون فكرة التهديد العسكري الروسي الافتراضي لأغراضهم الخاصة.
منذ فترة ليست بالطويلة، قرر رئيس وزراء استونيا تافي رويفاس إطلاق حملته الانتخابية من خلال فيديو كليب على مدرج مطار “ايماري”، حيث حلقت طائرات تابعة للحلف في سماء المنطقة. وفقا لبعض السياسيين، هذه محاولة من جانب حزب الإصلاح الحاكم حاليا في استونيا، لجعل الناخبين يرون النجاحات التي حققتها الحكومة في تعزيز أمن البلاد.
ومع ذلك، فإن إعادة انتشار القوات جلبت مفاجأة غير سارة لدول البلطيق، وهو الأمر الذي أخفته القيادات السياسية المحلية عن مواطنيها وهي كلفة الدفاع العالية، فعلى الرغم من أن واشنطن وبرلين ولندن ستدفع رواتب جنودها، فإن حصة الأسد من التكاليف اللازمة للحفاظ على البنى التحتية العسكرية تقع على عاتق دول البلطيق.
دول البلطيق تكبدت نفقات كبيرة في إعادة بناء قاعدتي إيماري وزوكنياي الجويتين. على وجه الخصوص، اضطرت تالين في السنوات الثلاث الماضية لإنفاق 70مليون يورو على قاعدة إيماري الجوية (حوالي 80 مليون دولار حسب أسعار الصرف الحالية). إن إقامة 4000 جندي من حلف الناتو، اعتادوا على مستويات عالية من الإقامة والغذاء والرعاية الطبية، ستكلف لاتفيا وليتوانيا واستونيا غاليا جدا.
رد الكرملين
يعتبر الكرملين أن خطوة الناتو هذه بنقل عدد كبير من الجنود إلى دول بحر البلطيق بأنها حركة استفزازية جديدة.
وبالتالي، فإنه من المرجح أن يعتبر الكرملين خطوة الناتو بنقل عدد كبير من القوات إلى دول البلطيق استفزازا آخر. وللأسف لن يؤدي هذا إلا إلى جولة أخرى من زيادة التوتر. عمليات حلف شمال الأطلسي تتطلب استجابة محددة من روسيا، كإجراء بعض المناورات على سبيل المثال في الجزء الغربي من البلاد، أو نشر أنظمة صواريخ تكتيكية جديدة تستهدف وحدات حلف الناتو الجديدة. وهذا يعني جولة جديدة من سباق التسلح.
خلال الحرب الباردة، ساعدت هذه الإستراتيجية، في تقويض الاقتصاد السوفيتي. فهل ستعمل هذه المرة على تحقيق نفس الهدف؟ لدى حلفاء واشنطن في أوروبا الكثير من المشاكل ليستطيعوا تحقيق طموحات الولايات المتحدة بتعزيز حلف شمال الأطلسي على حدود أوروبا الشرقية. لم تظهر واشنطن من جانبها حتى الآن أي رغبة في إرسال قوات كبيرة إلى الخارج. وعلاوة على ذلك، فإن الرأي العام، الذي ظل خائفا لمدة عامين بسبب التهديد الروسي المفترض، بدأ يتغير.
الكرملين لا يفكر بغزو بولندا أو احتلال دول البلطيق. والصراع العسكري ليس هدفا من الأهداف التي يسعى إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومع ذلك فإن زيادة طفيفة في التهديد الذي يشكله التحالف على حدود روسيا قد يعطل بشكل كبير العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وموسكو، والتي سبب مؤخرا بوادر في الارتفاع التدريجي لحرارة الجانب الروسي.
في الآونة الأخيرة دعا البرلمان الفرنسي لرفع العقوبات عن روسيا. يتحدث العديد من الساسة الأوروبيين أيضا عن دعمهم لهذه الخطوة. ومع ذلك، فإن تعهد موسكو بتعزيز قدراتها الدفاعية، يمكن أن يقوض هذا الاتجاه ويؤدي إلى التوتر في العلاقات وتأجيل رفع العقوبات عن روسيا.
.