هل يصلح تطبيق النظام السياسي اللبناني في دول "الربيع العربي"؟
منذ بداية الاضطرابات التي عصفت بالشرق الأوسط في العام 2011، انهارت دول في المنطقة تضم مجتمعات تعددية غير متجانسة، ما أدّى إلى تجدّد الاهتمام بنظم تقاسم السلطة الطائفية باعتبارها نماذج محتملة لإعادة تأهيل هذه البلدان. لبنان لديه مثل هذا النظام حيث تتقاسم الطوائف الدينية السلطة. وعلى الرغم من العيوب التي تعتريه وتفكككه في نواح كثيرة، إلا أنه ساعد في بقاء البلد في حالة سلام وتوازن.
النظام السياسي اللبناني
يقوم النظام السياسي اللبناني على التقسيم الطائفي للسلطات الدستورية والمناصب الإدارية، بحيث يضمن تمثيل فئات معينة في حين يساهم أيضاً في شلل عملية صنع القرار.
أدّت العيوب التي تكتنف نظام الحكم القائم على أساس طائفي إلى دخول لبنان في أتون حرب أهلية. وقد عدّل اتفاق الطائف في العام 1989، والذي وضع حدّاً للحرب، هذا النظام. أصبحت سورية هي صاحبة النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب، كما أُعطيت حق الوصاية على لبنان.
بعد اتفاق الطائف، نشأت توترات مثيرة للانقسام بين الطائفتين المسلمتين في لبنان، السنّة والشيعة. تولّت سورية إدارة هذه الانقسامات في حين كانت تفاقمها أيضاً.
ازدادت حدّة الخلافات بين السنة والشيعة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني وانسحاب سورية من البلاد في العام 2005. وتصاعدت حدّة الخلافات أكثر مع اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011.
بلغت الدولة اللبنانية اليوم طريقاً مسدوداً. إذ ليس هناك رئيس للبنان، وقد شُلَّ البرلمان منذ العام 2013.
يبدو أن الكثير من اللبنانيين يعتقدون بأن نظامهم هو أقل الخيارات سوءاً مقارنةً مع الدول المجاورة، غير أن الخلل في وظائف الدولة يثير الشكوك بشأن إمكانية تطبيق النموذج اللبناني في أماكن أخرى.
التجربة اللبنانية مثال لدول المنطقة
جعل الزمن والتجربة التاريخية الطائفية أمراً مألوفاً إلى حدٍّ كبير في لبنان، وهي الآن متأصّلة في الروح الجماعية والسلوك الوطني. تفتقر الدول العربية إلى هذه السمة. فقد كانت نماذج الدول المركزية التي تعتمد على تعريف موحّد للهوية الوطنية لبناء الدولة هي القاعدة في أنحاء المنطقة، وكانت فكرة العروبة تقليدياً أكثر جاذبية من فكرة الدول القائمة على الهويات الفرعية.
لايخرج في العادة منتصر ولا مهزوم من الأزمات في لبنان. وقد ساعد هذا الأمر النظام الطائفي في لبنان في الحفاظ على بقائه منذ أربعينيات القرن الماضي. هذا النوع من الثقافة مفقود في كثيرٍ من الدول العربية.
حافظ النظام في لبنان على تماسكه في الماضي إلى حدٍّ كبير بفضل قوة خارجية ناظمة هي سورية. وتُعزى حالة الفوضى التي يعاني منها النظام في لبنان اليوم، إلى حدٍّ بعيد، إلى غياب هذه القوة الخارجية. ولذا من الصعب أن نتخيل أن قوة خارجية يمكنها أن تساعد في ضمان السلام في دول عربية أخرى.
فرصة لنبذ الخلافات الطائفية والعرقية
اليوم، يبدو الخلاف الأوسع بين السنّة والشيعة، والذي كانت له تداعيات دراماتيكية في بلاد الشام على وجه الخصوص، هو الأكثر وضوحاً وقابلية للانفجار من هذه التفاعلات المتمحورة حول الهوية. مع ذلك، وإلى جانب المسألة الطائفية البحتة (والتي تتخذ الدين باعتباره عاملاً حاسما في السلوك)، فإن مسألة الأقليات (أو الجماعات التي تعرّف نفسها وتتصوّر أنها تتعرض إلى التهميش من جانب جماعة مُهيمنة، أو إلى القمع من جانب أقليّة شرسة) تنشط هي الأخرى في منطقة الشرق الأوسط. وتعبّر مسألة إعادة تشكيل الهوية عن نفسها بعبارات طائفية، وكذلك عرقية أو حتى قَبَلية، وهذا يتوقف على البلد العربي المتأثر بتلك المسألة. وتميل مسألة إعادة تشكيل الهوية إلى التعبير عن نفسها طائفياً في البحرين والعراق والكويت ولبنان والمملكة العربية السعودية وسورية، أو في أي مكان آخر في بلاد الشام ومنطقة الخليج، حيث يتعايش غالباً السنّة والشيعة والمسيحيون وأبناء الأقليات الأخرى جنباً إلى جنب؛ بينما هي تميل إلى التعبير عن نفسها أكثر من الناحية العرقية في أماكن أخرى، كالأكراد أو التركمان في شمال سورية والعراق، والبربر في المغرب العربي.
في كل هذه الحالات، سيكون من الصعب عكس ديناميكيات التفكّك التي أُطلق لها العنان، من دون توفّر وسائل جديدة ومبتكرة لإعادة الإدماج السياسي. وعلى الصعيد الاجتماعي، وفي حالات الصراعات أو الحروب الأهلية، سيتطلب ذلك إطلاق عمليات المصالحة وتحقيق العدالة وإعادة توزيع الموارد. أما على الصعيد السياسي، فسيتوجب على البلدان إجراء تغيير سياسي هيكلي، لا بل إعادة هيكلة سياسية، لوضع صيغ جديدة لتقاسم السلطة يمكنها أن تأخذ الحقائق الجديدة بعين الاعتبار، وتبدأ في التعامل معها
وحده لبنان، من بين كل الدول العربية، هو الذي تظاهر بتقديم إجابة مختلفة. فقد أنشأ نظاماً غير مألوف لتقاسم السلطة والحكم، يقوم على تعريف مختلف للهوية عن غيره من البلدان العربية الأخرى. فهو تبنّى تدريجياً نظاماً سياسياً يقوم على التمثيل الطائفي، الذي تأثّر هو نفسه بالتطورات التي جرت خلال فترة الحكم العثماني
أكّد انبعاث الطائفية في طول الشرق الأوسط وعرضه، والتفكك العنيف لعدد من دول المنطقة ومستقبلها الغامض، على الحاجة إلى صيغ جديدة لتقاسم السلطة والوفاق الطائفي. فهذه الصيغ يمكن أن تتيح للمجتمعات المحلية ذات الهويات الفرعية الفرصة للتعايش في كيانات أكبر، بينما تساهم، في الوقت نفسه، في الحفاظ عليها. ويرى العديد من المراقبين للدول المنهارة مثل البحرين والعراق وسورية وليبيا واليمن، أن النموذج اللبناني للطائفية السياسية قد يمثّل إطاراً لتسوية النزاعات في المجتمعات السياسية العربية الممزقة التي تواجه مشاكل الإدماج وتقاسم السلطة، ونموذجاً لإعادة بنائها السياسي.
يرى العديد من المراقبين للدول المنهارة مثل البحرين والعراق وسورية وليبيا واليمن، أن النموذج اللبناني للطائفية السياسية قد يمثّل إطاراً لتسوية النزاعات.
العقبات والعوامل المناقضة
لكن، وبقدر ماقد تبدو هذه الفكرة جذّابة، إلا أنها تنطوي على العديد من المحاذير. يشمل المحذور الأول خلفية تشكيل النظام اللبناني. فقد أسهم عامل الزمن والخبرة التاريخية في جعل الطائفية أمراً مألوفاً عموماً في الثقافة الاجتماعية والسياسية في لبنان، بحيث أصبحت الآن راسخة في الروح الجمعية والسلوك الوطني. وهذا الأمر مفقود تماماً في البلدان العربية الأخرى، حيث تُعتبر نماذج الدول اليعقوبية المركزية للغاية (التي تعتمد على تعريف موحّد للهوية الوطنية في عملية بناء الدولة)، على العكس من ذلك، هي القاعدة، وحيث كانت فكرة العروبة دائماً أكثر جاذبية من فكرة الدول التي تنشأ حول الهويات الفرعية. كان لبنان دائماً موضع إعجاب وحسد في الثقافة السياسية العربية بسبب ليبراليته الاجتماعية والثقافية وانفتاحه، بيد أنه كان أيضاً مذموماً ومشوّه السمعة كثيراً، بسبب نظام حكمه الذي أضعف الهوية الوطنية، وتسبّب في حدوث أزمات متلاحقة، تخلّلتها حروب متقطّعة.
كما تشوهت سمعة النزعة اللبنانية بسبب خطيئة أولية. إذ تأسّست الدولة على أنقاض حلم الوحدة العربية بعد العام 1920. وسعت الرواية الواردة في الميثاق الوطني إلى تمجيد النظام القائم على الطائفية في البلاد، وطعّمته بأحد العناصر العالمية، أي التعايش والحوار بين المسيحية والإسلام. فماذا يمكن أن تكون الرواية الكبرى للمجتمعات الأخرى في العالم العربي، والتي يمكن أن تُضفي الشرعية على الأنظمة السياسية الطائفية في الدول التي كانت تمجّد القومية العربية في السابق؟
ثمّة قيد آخر يحول دون اعتماد الصيغة اللبنانية في دول عربية أخرى، يتعلّق بحقيقة أن هذه المجتمعات مختلفة جدّاً من حيث تركيبتها السكانية وحجمها، وبالطريقة التي تنهار بها. فقد كان لبنان، وعلى الرغم من الأزمات والصراعات التي واجهها، يخرج دائماً مع الوقت من متاعبه بفضل الرغبة في الحفاظ على ماكان يمتلكه، بدلاً من السماح بحدوث انهيارات دائمة. ثم أن الطائفية في لبنان تكرّست عموماً بسبب صيغة مُستعادة للتغلّب على الأزمات، أي صيغة لاغالب ولا مغلوب. كانت وجهة النظر هذه راسخة في المجتمع والنخبة السياسية، وغالباً مافُرضت عن طريق التدخل الخارجي. وقد سوّغ ذلك تحسين قبول الهيمنة والتفوق، أو على الأقل ترجمتهما وفرضهما على نحو أكثر سلاسة،27 ومن خلال آليات الحكم التي استوعبت الطرف الخاسر أيضاً. كانت التركيبة الديموغرافية في لبنان، والتي تم تعريفها في الأصل بالتكافؤ بين المسلمين والمسيحيين، وفي وقت لاحق بتقسيمها بواقع الثلث بين السنّة والشيعة والمسيحيين، عاملاً مساعداً إضافياً في هذا الصدد، ماسهّل تطبيق الثقافة التوافقية من خلال تجاهل أو إخفاء الحجم الديموغرافي الصحيح لكل طائفة.
الأمر ليس كذلك بالتأكيد في البلدان العربية، حيث الثقافة التوافقية مفقودة. كما أنه ليس مرجّحاً في البلدان التي أدت الوحشية وسفك الدماء وتشريد السكان إلى جعل المصالحة فيها أمراً صعباً. إنه صعب على وجه الخصوص، في الأماكن التي تشعر فيها الأغلبية السكانية بالاستياء الشديد تجاه أقلية قمعية في السلطة، أو حيث التركيبة السكانية غير متوازنة، إلى درجة أن الغالبية العظمى لاترى سبباً يدعوها إلى تقديم تنازلات للطوائف الأصغر حجماً.
ثمّة عائق آخر يحول دون اعتماد حل طائفي على غرار لبنان، يتعلق بالرعاية الإقليمية لأي نظام من هذا القبيل. فقد كان واضحاً أن اتفاق الطائف أدّى وظيفته، لأنه كان هناك طرف خارجي ناظم (سورية) يمكنه فرض القرارات بفضل هيمنته. فمن هي القوة أو مجموعة القوى التي يمكن أن تظهر في نهاية المطاف لضمان السلام في سورية؟ أو العراق واليمن والبحرين؟ وإلى أي مدى ستحظى القوى الخارجية بالقبول والاحترام، وإلى متى؟ وبالتالي، فإن السبب في الأزمة التي يعاني منها لبنان يكمن، إلى حد كبير، في عدم وجود قوة ناظمة، وهو مايُعَدّ تذكرة بالقيود المفروضة على نظامه المرقّع طوال الوقت.