هكذا تحوّل الصبر الاستراتيجي الإيراني إلى ردع جدي

22.04.2024
إن الضربات الانتقامية لطهران ردّت لها الاعتبار وخلقت رقعة شطرنج جديدة في منطقة غرب آسيا. يبقى أن نفهم كيف ستتكيّف مجموعة الهيمنة الداعمة لإسرائيل مع واقع الردع الجديد الذي صنعته إيران.

قبل ما يزيد قليلًا على 48 ساعة من الرسالة الجوية الإيرانية عبر سماء غرب آسيا إلى إسرائيل، أكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، رسميًا، ما كان حتى الآن في أحسن الأحوال همسًا دبلوماسيًا: "الجانب الروسي على اتصال مع الشركاء الإيرانيين بشأن الوضع في الشرق الأوسط بعد الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في سوريا"، وأضاف "نحن على اتصال دائم (مع إيران). ومن المتوقّع إجراء مناقشات معمقة قريبًا بين دول البريكس حول عدد من القضايا المتعلّقة بالشرق الأوسط".

ورسم ريابكوف الرؤية الشاملة بقوله "إن التواطؤ مع التصرفات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وهو جوهر سياسة واشنطن، أصبح في كثير من النواحي السبب الجذري لمزيد من المآسي".

هذا يعني، بإيجاز، أن المنسّق الدبلوماسي الروسي الأعلى مع "بريكس" إبّان تولي روسيا رئاسة المجموعة يوجّه رسائل غير مباشرة مفادها أن موسكو تدعم إيران، العضو في "بريكس +".

وقد أكّدت الرسالة الجوية الإيرانية ذلك عمليًا. فقد استخدمت أنظمة توجيه الصواريخ الإيرانية نظام الملاحة الصيني "بيدو" إضافة إلى نظام "غلوناس" الروسي.

الاستنتاج: الاستخبارات الروسية والصينية تقودان من الخلف. وهذا مثال واضح على التقدّم الذي تحرزه "بريكس".

تؤكّد عبارة ريابكوف "نحن على اتصال دائم" واستخدام معلومات الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية على عمق التعاون الوثيق بين شراكة روسيا - الصين الاستراتيجية وشريكتهما الاستراتيجية إيران. واستنادًا إلى خبرتها الواسعة في أوكرانيا، أدركت موسكو أن كيان الإبادة الجماعية التوراتي المهووس سيواصل التصعيد إذا استمرت إيران فقط في ممارسة "الصبر الاستراتيجي".

وكان تحوّل "الصبر الاستراتيجي" إلى توازن استراتيجي جديد يتطلّب بعض الوقت، بما في ذلك تبادلات رفيعة المستوى مع الجانب الروسي. ففي نهاية المطاف، لا يزال هناك خطر من أن يكون الهجوم الإرهابي الإسرائيلي على القنصلية / مقر إقامة السفير الإيراني في دمشق عام 2024 نسخة معدّلة من قتل الأرشيدوق فرانز فرديناند.

لا تنسوا مضيق هرمز

نجحت طهران في قلب العمليات النفسية الغربية الضخمة التي تهدف لدفعها إلى خطأ استراتيجي رأسًا على عقب.

بدأ كل شيء بضربة معلّم مضلّلة. مع تصاعد الرعب الذي غذّته قوى الهيمنة بمعلومات مشبوهة، قام الحرس الثوري الإيراني بمناورة جانبية سريعة، واستولى على سفينة حاويات مملوكة لإسرائيل بالقرب من مضيق هرمز.

كانت هذه خطوة أنيقة للغاية، تذكيرًا للغرب الجماعي بسيطرة طهران على مضيق هرمز، ما يشكّل خطرًا على الاقتصاد الغربي برمّته لا يُقاس بأي ضربة محدودة على "حاملة طائراتهم"، في غرب آسيا، وهو ما حدث على أي حال.

مرة أخرى، بأسلوب أنيق. بخلاف ذلك الجيش "الأخلاقي" المتخصّص في قتل النساء والأطفال والشيوخ وقصف المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات والقوافل الإنسانية، استهدف الهجوم الإيراني قواعد عسكرية معزولة مثل قاعدة نافاتيم الجوية في النقب ومركزًا استخباراتيًا قرب الحدود السورية.

لقد كان هذا عرضًا منسّقًا بشكل متقن. منحت التحذيرات المبكرة تل أبيب متّسعًا من الوقت للاستفادة من المعلومات الاستخبارية الأميركية وإجلاء الطائرات المقاتلة والأفراد. وأعقب ذلك قيام عدد كبير من الرادارات العسكرية الأميركية بتنسيق الإستراتيجية الدفاعية.

قوة الهيمنة هي التي دمّرت الجزء الأكبر مما كان يمكن أن يكون سربًا مكونًا من 185 مسيّرة من طراز "شاهد-136" - مستخدمة كل الوسائل الممكنة، بدءًا من الدفاع الجوي المحمول على السفن إلى الطائرات المقاتلة. أما بقية المسيّرات فقد أسقطها فوق الأردن جيش الملك الصغير - ولن ينسى الشارع العربي خيانته أبدًا - وعشرات الطائرات الإسرائيلية.

تعرّض الدفاع الإسرائيلي لضغط كبير إلى درجة الإشباع بفعل استخدام تكتيك المسيّرات الانتحارية مع الصواريخ الباليستية. على جبهة الصواريخ الباليستية، ربما أطلقت إيران 110 صاروخًا أرض - أرض و36 صاروخ كروز. تدّعي إسرائيل أن 9 صواريخ باليستية فقط نجحت في اختراق دفاعاتها، وهذا يعني نسبة نجاح تبلغ 4.67%.

تطلّب مجمل العرض ميزانية ضخمة. تقدّر مصادر عسكرية إيرانية كلفة المسيّرات والصواريخ المصنّعة بتكنولوجيا محلية تمامًا بـ 35 مليون دولار فقط. أما بالنسبة لإسرائيل - ومن دون احتساب أسعار الطائرات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية - فقد كلّف نظام الاعتراض المتعدّد الطبقات وحده نحو 1.35 مليار دولار، وفقًا لمسؤول إسرائيلي.

رقعة شطرنج جديدة في غرب آسيا

إذًا، استغرق الأمر بضع ساعات فقط قبل أن تتمكّن إيران أخيرًا من تحويل الصبر الاستراتيجي إلى ردع جدي، وإرسال رسالة بالغة القوة ومتعدّدة الطبقات، وتغيير قواعد اللعبة ببراعة على كامل رقعة الشطرنج في غرب آسيا.

إذا انخرط المهووسون التوراتيون في حرب ساخنة حقيقية ضد إيران، ومن دون آلية إنذار مبكر تمتد على مدى أيام، لن تكون هناك أي إمكانية لأن تعترض تل أبيب مئات الصواريخ الإيرانية - خصوصًا الأكثر تطورًا التي لم تستخدم في العرض الحالي. من دون مظلة الهيمنة، ودعمها لإسرائيل بالأسلحة والأموال، لن يكون الدفاع الإسرائيلي مستدامًا.

سيكون من المثير للاهتمام رؤية الدروس التي سيستخلصها الدب الأرثوذكسي المسيحي من هذا التوهج الكثيف في سماء غرب آسيا، وعيناه الماكرتان تحدّقان في وعاء الأساطير الأخروية، مع استمرار ارتفاع درجة الحرارة تحت الضفادع التي تغلي ببطء، والتي تصرخ الآن.

أما في ما يتعلّق بالهيمنة، فإن الحرب في كل أنحاء غرب آسيا لا تناسب مصالحها المباشرة، كما أكّد أحد أنصار المدرسة القديمة في الدولة العميقة عبر البريد الإلكتروني "قد يؤدّي ذلك إلى نهاية المنطقة بشكل دائم كمنطقة منّتجة للنفط ورفع أسعار النفط بشكل فلكي إلى مستويات تؤدّي إلى انهيار الهيكل المالي العالمي. ويمكن تخيّل النظام المصرفي في الولايات المتحدة ينهار بالمثل إذا ارتفع سعر النفط إلى 900 دولار للبرميل في حال انقطاع النفط من الشرق الأوسط".

وبالتالي، ليس من المستغرب أن مجموعة بايدن، قبل أيام من الرد الإيراني، كانت تتوسّل بشكل محموم لدى بكين والرياض وأنقرة، من بين عواصم أخرى، لكبح جماح طهران. وربما كان الإيرانيون سيوافقون على ذلك، لو أن مجلس الأمن الدولي فرض أولًا وقفًا دائمًا لإطلاق النار في غزة. لكن واشنطن بقيت صامتة.

والسؤال الآن هو ما إذا كانت ستبقى صامتة. وقد ذهب محمد باقري، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، مباشرة إلى هذه النقطة: "بعثنا برسالة إلى أميركا عبر السفارة السويسرية مفادها أن القواعد الأميركية ستصبح هدفًا عسكريًا إذا تم استخدامها في أعمال عدوانية مستقبلية للنظام الصهيوني (إسرائيل). سنعتبر هذا عدوانًا وسنتصرّف وفقًا لذلك".

ويؤكّد المحلّل السابق في البنتاغون مايكل معلوف الهشاشة الأميركية "لدينا حوالى 35 قاعدة تحيط بإيران، وبالتالي ستكون عرضة للخطر. كان من المفترض أن تكون بمثابة ردع. ولكن من الواضح أن الردع لم يعد مطروحًا على الطاولة هنا. الآن أصبحت القواعد بمثابة كعب أخيل للأميركيين".

كل الرهانات متوقّفة حول كيف ستتكيّف مجموعة الهيمنة/الصهيونية مع واقع الردع الجديد الذي صنعته إيران المسلمة. وما تبقّى، في هذه اللحظة التاريخية، هو العرض الجوي المليء بالمعاني الذي يطلق عنان المسيّرات والصواريخ على كيان الإبادة الجماعية، والذي يمكن أن يحرّك في المستقبل الشارع العربي المنهك الخاضع للممالك المتهالكة التي تستمر في التعامل مع إسرائيل فوق جثث ضحايا الإبادة الجماعية في غزة.

https://thecradle.co