أفول العالم أحادي القطب

31.03.2016

يعتقد معظم الخبراء اليوم أن القطب الواحد مجرد حلقة في تاريخ الجيوسياسة، لم تصبح "نهاية مؤكدة" موثوقا بها ومستقرة. ومع ذلك، فإننا لا نزال نعيش في ظروف عالم أحادي القطب عصره قد انتهى. ولاستبدال العالم أحادي القطب، تأتي أفكار بديلة لتنظيم الفضاء الاستراتيجي لهذا الكوكب، ولكن أيا منها لم تصبح واضحة ومهيمنة. نحن لا نزال نعيش في عالم أحادي القطب.
من المرجح أن هذه هي المرحلة النهائية لهذا العالم، ولكن ... التاريخ شيء مفتوح، ولا شيء فيه يمكن اعتباره محددا سلفا. يمكن أن تكون عملية الموت طويلة. وبالإضافة إلى ذلك، ما يبدأ، يمكن أن لا يحدث. وبالتالي، من غير الكافي لأولئك الذين يقومون باستنتاجات متسرعة، أن يزعموا أن العالم أحادي القطب وبالتالي هيمنة أمريكا الشمالية، أصبحت من الماضي، ونحن الآن نعيش في مرحلة ما بعد أحادية القطب. الأمر ليس كذلك. نحن نعيش في عالم القطب الواحد، وهذا هو الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الراهن. الهيمنة الأمريكية في المجال العسكري التقني حقيقة لا جدال فيها. الليبرالية والليبرالية الديمقراطية، أيديولوجية مسيطرة على نطاق عالمي. الغرب لا يزال يضع الرموز المعيارية للاقتصاد والسياسة والثقافة والتكنولوجيا ومجال المعلومات، وأولئك الذين يتنافسون معه (لا سيما الصين وروسيا)، مازالوا مضطرين للعب حسب قواعده.
أحادية القطب الاصطناعية الشاملة، تتآكل بشكل ملحوظ، ما يخلق ظروفا يمكن وصفها بغروب العالم أحادي القطب.
يجب فهم أحادية القطب بشكل واسع: يشمل التوازن العسكري والاستراتيجي، والجغرافيا السياسية، والاقتصاد (الرأسمالية)، والقيم (الليبرالية)، والتكنولوجيا، والنماذج التعليمية والعلمية (الابسمتية)، والمعيار السياسي (الديمقراطية الليبرالية) وكل شيء آخر. الديمقراطية أو الرأسمالية هي ظواهر غربية، مثلها مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، ولكن اليوم كل الإنسانية تقبل بها كشيء "بديهي"، ما يعني أن أحادية القطب، المقصود بها وجود قطب واحد مهيمن فقط على نطاق الكوكب، ما زالت تحتفظ بنفوذها. العالم اليوم أحادي القطب، ورغم ذلك، يجب فهم هذه الأحادية، على نطاق أكثر اتساعا من المعتاد. أحادية القطب الاصطناعية الضخمة هذه، تتآكل، ما يخلق بيئة يمكن أن يطلق عليها غروب العالم أحادي القطب. أحادية القطب انطفأت، ولكن ليحتل مكانها، يتشكل شيء حتى الآن غير معروف، والمستقبل الحقيقي يبقى في النصف الثاني من الليل. السؤال الفلسفي ماهية الظلال، هل هي غسق المساء، أم خيوط شمس الفجر؟ أعتقد أننا نتحدث عن المساء. نحن الآن على أبواب ليل الحضارة. أي شخص لا يشعر باقترابه، لا يزال غارقا في أحلام الليبرالية العقائدية. الوضع يتطور نحو نهاية أحادية القطب. ولكن الليل في انتظارنا.
هيكل الوضع أحادي القطب في مفهومه الواسع، تشكل نتيجة لانتصار الغرب الرأسمالي الليبرالي في "الحرب الباردة" ضد المعسكر الاشتراكي. الشرق استسلم، وأصبح العالم ثنائي القطب، ذا قطب واحد. وهذا يعني تحولا من توازن القطبين (الذان كانا يعتبران بعضهما البعض موجب وسالب) إلى نموذج جديد. في قواعد العلاقات الدولية وضع كينيث والتز صاحب مذهب الواقعية الجديدة، أساس ثنائية القطب، في حين وضع روبرت غيلبين أساس أحادية القطب. ولذلك، نحن انتقلنا من جيوسياسة القطبين (الموجب والسالب) إلى جيوسياسة الفضاء أحادي القطب، الذي يحمل في جوهره، مبدأ قريب من النواة/بعيد عن النواة (المركز/الهامش). في العلاقات الدولية، هذا يمثل تحولا من وولتس إلى غيلبين. المركز أصبح الفضاء الأطلسي، مع الهيمنة الأمريكية. المناطق الأخرى، يتم تشكيلها من حيث المسافة من النواة إلى الهامش. في أحادية القطب الاستراتيجية للولايات المتحدة، الأمر الرئيسي هو أن القطب مركز القيادة، وجميع المناطق الأخرى يجب إدراجها في نظام واحد موحد. هذا Pax Americana، حيث يتم استبدال ثنائية القطب المستقرة لوولتس، باستقرار الهيمنة الأحادية القطب لغيلبين.
الليبراليون في العلاقات الدولية، يعتقدون أن الوضع يمكن وصفه بمصطلحات "مثالية"، ويفضلون بدلا من أحادية القطب، وصف الأمر بالعولمة. الواقعيون الجدد يلفتون الإنتباه للهيمنة العسكرية والسياسية والاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها (الشركاء الصغار) في منظمة حلف شمال الأطلسي. الليبراليون يصفون نفس العملية، بأنها نشر الديمقراطية الليبرالية، للسوق ولأيديولوجية التميز، وحقوق الإنسان، ومحو الحدود وهلم جرا.  الليبراليون يفضلون النظر إلى الوضع على أنه انعدام للأقطاب (ريتشارد هاس)، مؤكدين أن الغرب لم يبق لديه أعداء أيديولوجيين، ولذلك فإن العالم كله أصبح غربا معولما. ولكن "انعدام القطبية" هذا، فقط يخفي الهيمنة العميقة، الشاملة لدرجة أن أي بديل ليس لديه أي فرصة للتجسد المكاني، الكافي للمطالبة بوضع القطب.
تحليل الماركسية الجديدة، على سبيل المثال، في نظرية العالم-النظام لايمانويل والرشتاين، يصف بدقة نفس الصورة الأحادية القطبية من حيث الاقتصاد السياسي. الشمال الغني (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية) يركز على أراضيه الثروات الرئيسية، التكنولوجيا، والأدوات المالية للاستفادة من النشاط الاقتصادي للبشرية جمعاء. ويستهلك الشمال الغني ما ينتجه الجنوب الفقير. هذه أيضا أحادية قطبية، فقط باعتبارها ذات هيكل جغرافي (مكاني) للرأسمالية المالية الحديثة.
أحادية القطب التكنولوجية، تكمن في حقيقة أن مصدر التكنولوجيات الفائقة هو الغرب، الذي يسيطر على عملية الابتكار والتنفيذ. ويجبر بقية البشر على الانضمام لهذه العملية (انتشار أجهزة الكمبيوتر والشبكات، وبطاقات الائتمان، والهواتف المحمولة، والهواتف الذكية، الخ)، الأمر الذي يزيد من الاعتماد على الغرب.
البرامج الاجتماعية الأحادية القطب هي عدوانية فردية. هذه الظاهرة تتضح بشكل كبير في سياسة الجنسين، حيث الصراع الليبرالي ضد كل أشكال الهوية الجماعية يؤدي منطقيا إلى تفاهم اختياري للجنسين كشكل قبل الأخير من أشكال الهوية الجماعية، خاضعة للتصفية في سياق الليبرالية التقدمية (الشكل الأخير هو الإنتماء للجنس البشري والضرورة الليبرالية للإنسان في التغلب عليها، أي ما بعد إنسانية). هذا النوع من "أحادية القطب بين الجنسين"، حيث يتم تحديد المعسكر التطوري، بدرجة التسامح تجاه الأقليات الجنسية والقوانين التي تضفي الشرعية على زواج المثليين، والمجتمعات المحافظة (المتخلفة) تعارضها تلقائيا. القطب هو المجتمع ذو مستوى تسامح جنسي عال تجاه هذه التشريعات. والهامش- كل ما تبقى.
هذا الهيكل أحادي القطب، لديه عدة أبعاد:
- الجيوسياسي (الهيمنة العسكرية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي)
- الأيديولوجي (الانتشار المعياري لليبرالية والديمقراطية الليبرالية)
- الاقتصادي (النشر الكامل والنهائي للنظام الرأسمالي العالمي - العولمة)
- التكنولوجي (حتمية التكيف مع التفوق التكنولوجي الغربي)
- القيمي (سياسة الأجناس)
إذا نظرنا إلى كامل الهيكل، فسنلاحظ من جهة، أنه من السهل أن نرى علامات النهاية، ولكن من ناحية أخرى، من الواضح أن هذا النظام يعمل بنشاط كبير في نواح كثيرة، ويهاجم "الهامش" بشكل مكثف، ويواصل الإصرار على أفكاره.
الهيمنة الجيوسياسية، والتفوق الاقتصادي للغرب، تصبح نسبية مقارنة بالانتعاش القوي لدول العالم الثاني (بريكس). الليبرالية يتم رفضها بشكل متزايد في المجتمعات التقليدية. كما أن الثورات "الديمقراطية" في البلدان الإسلامية، أسفرت عن وصول القوى الأصولية والمتطرفة على نحو متزايد إلى السلطة. كما أن التكنولوجيا بدأت بالتطور خارج مركز العولمة. سياسة المساواة بين الجنسين تلقى معارضة متزايدة ليس فقط خارج أوروبا، ولكن أيضا داخلها. هذه هي علامات النهاية.
إلا أن الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى. يتم قبول الديمقراطية الليبرالية من قبل جميع البلدان تقريبا في العالم، حيث لا شكوك في اقتصاد السوق الليبرالي والمؤسسات الديمقراطية (البرلمان، والانتخابات، وهلم جرا). الرأسمالية تجذرت على الصعيد العالمي. وبدون التكنولوجيا الفائقة الغربية، لا يمكن تصور أي مجتمع حديث. ثورة الأجناس تنتشر أبعد وأبعد خارج أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك، فإن نهاية عهد الأحادية القطبية ليست واضحة حتى الآن، وتحتاج إلى مزيد من التحليل.
انعدام موضوعية النهاية
مما لا شك فيه، في ظروف مراقبة الحالة الراهنة للأحادية القطبية، هو التقييم غير الموضوعي. هي متشائمة بالإجماع. حتى في حال إقرار الرأي العام بأن الديمقراطية الليبرالية هي أقل الشّرين، اليوم، في ظل عدم وجود معارضة رسمية، ينتقل التركيز من كلمة "أقل" إلى كلمة "الشر". يتم الاعتراف بالوضع الراهن أحادي القطب من قبل غالبية الجنس البشري، ولكنه يرى أيضا الوضع في ألوانه الأكثر إثارة للقلق. والمهم، هو حقيقة أن الوضع الحالي لم يعد يستدعي الحماس، بل على العكس من ذلك، يثير مزيدا من الخوف والقلق والمفاجآت غير السارة. نعم، العالم بقي كما هو، ولكنه عالم خاطئ يقف على حافة شيء رهيب. انعدام الوضوعية يمتلك في المجتمع وفي الحضارة قيمة عظيمة (إن لم تكن حاسمة). إذا نظرنا إلى أي حدث على أنه نجاح، فسيكون نجاحا. كما لو نظرنا إليه كفشل، فسيكون فشلا.
الأحادية القطبية اليوم تقوم بالإجماع تقريبا، باعتبارها فشلا ونهاية، وتمهيدا للكارثة، رغم -وبصرف النظر عن التقييم غير الموضوعي- أن كل ما بني في العالم، بني حسب رؤية الليبراليين وأنصار النصر العولمي للغرب. بالفعل تم تحقيق النصر، ولكنه لم يكن كما كان متوقعا. هذه نقطة مثيرة جدا للاهتمام. بموضوعية، العالم أحادي القطب ككل مستقر، ولا شيء يهدد وجهة النظر الرسمية للمفهوم المعقد للقطب الواحد، ولكن في الوقت نفسه، تقييمه يزداد قتامة على نحو متزايد، وأطروحة "نهاية عصر الأحادية القطبية" تربط حتى الدعاة الأكثر ثباتا وقناعة بالأحادية (مثل كروتهامر). وبالمثل، في التسعينات، المنظر الليبرالي لنبوءة "نهاية التاريخ" فرانسيس فوكوياما نفسه، أصيب بالرعب وهرع إلى إعادة النظر، وإيجاد الجزء الخلفي من الظواهر والاتجاهات، التي وصفها بدقة.
في هذا أرى ما يلي. المراقبون والخبراء ليسوا خائفين من حالة القطب الواحد، المستقرة بما فيه الكفاية، ولكن من تلك الآفاق التي يتم فتحها، إذا واصلنا خط التنمية القائم بالفعل. الحديث عن نهاية عصر الأحادية القطبية لا يستدعيه الوضع اليوم، ولكن ما سيحدث غدا. خبراء عولمة الأمس يريدون أن يكون اليوم (بالنسبة لهم الغد) بالضبط كما كان. ولكن عندما حدث ذلك، ظهرت هناك أزمة المستقبل، هم غير قادرين على النظر إلى المستقبل بنفس التفاؤل، كما كان في السابق. نهاية العالم ثنائي القطب واختفاء الاتحاد السوفيتي أصبح ردا على جميع الأسئلة. حدث ما حدث، وتم الحصول على إجابات لجميع الأسئلة تقريبا (في روح الدوغمائية الشمولية الليبرالية). ولكن خارج الإطار، تحولت إلى إحراج وقلق، وليس إلى فرح وارتياح. الوضع القائم اليوم أزعج وأغضب حتى أولئك الذين بذلوا كل جهد لتحقيق الأحادية القطبية - بريجينسكي، كيسنجر، سوروس، وما إلى ذلك. توقعاتهم مثيرة للقلق وكارثية. لذلك، القطبية الأحادية في مفهومها الواسع، تنتهي ليس بسبب أنها استنفدت إمكاناتها، ولكن لأنها كشفت جزءا من الواقع، الذي أثار الرعب في نفوس خالقيها أنفسهم. ذاتية هذا التقييم لا ينبغي أن تسفر عن الخلط: يجب أن ننظر عن كثب إلى هذا الواقع وأن نحاول تحديد هيكله.
التشعب: التعددية القطبية
على أساس النهاية الذاتية لـ "الأحادية القطبية"، يمكننا أن نصف الوضع الحالي للنظام العالمي كنقطة تشعب. فإما أن الاتجاه الحالي سيستمر في الانتشار على نفس المنوال، وهذا يعني أن الأحادية القطبية ستستمر (ستستمر في نهايتها)، وستستخدم كل الإمكانيات المتأصلة فيها، أو أن التاريخ سيتخذ منعطفا حادا والأحادية القطبية ستنتهي، وستفسح المجال لبديل، هذه المرة لن يكون أحادي القطب. كلا الخيارين من السهل التنبؤ بهما، في حال التأمل الملي لجوهر الأحادية القطبية.
ما معنى اختيار البديل؟ لنفترض أن القطبية الأحادية انتهت، ماذا سيأتي مكانها؟ في ظل الظروف الراهنة يمكن أن تكون تعددية الأقطاب فقط. لن تكون الثنائية القطبية (كما هو الحال في الحقبة السوفياتية)، أو العودة إلى نموذج وستفاليا، عن السيادة الفعلية لجميع الدول القومية. تعدد الأقطاب يعني نوعا جديدا تماما من تقسيم مناطق الكوكب، وتحديد مراكز القوى. حداثة هذا النوع تتمثل في تعدد الحضارات على عكس الضمنية العالمية التي يستند لها نموذج أحادية القطب. هذه هي "النظرية التعددية لكارل شميت، بدلا من النظرية الضمنية. هذا تحول يؤثر على كل شيء: الجغرافيا السياسية، والقيم، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والأيديولوجيا والسياسة والاستراتيجيات بين الجنسين، السلوك الاجتماعي، الخ ...
الأحادية القطبية تستند إلى عولمة الغرب. تعتبر الحضارة الغربية في وقتها الحالي، عالمية ومعيارية، وعملية العولمة في وضعها الحالي هي دليل واضح على ذلك: الاستعمار الناجح والهيمنة الموثوق بها، بمثابة مبرر تاريخي لمطالبة الغرب بنشر تجربته التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
في الممارسة العملية، هذا يترجم إلى نفي متناظر لهيكل الأحادية القطبية:
- بدلا من الهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، سيظهر عدد من الوحدات العسكرية؛ الأمريكية الشمالية وبشكل منفصل الأوروبية، والروسية، والأوروآسيوية والصينية والهندية والأمريكية اللاتينية والإسلامية والأفريقية وغيرها.
-  من الليبرالية الإلزامية والديمقراطية – سينفتح المجال أمام كل الأيديولوجيات: الشيوعية، الملكية، الثيوقراطية، والوطنية، ومع النماذج، التي تهيمن الان - الليبرالية، ولكن ليست كظواهر عالمية بل محلية.
- بدلا من الرأسمالية الوحيدة النوع، ستظهر منظمة الاكتفاء الذاتي "مساحات كبيرة" (فريدريش ليست) مع جميع أنواع المرافق: .. من الإقطاع إلى الشيوعية، والإسلامية، والزراعية، وما إلى ذلك (مرة أخرى – ستبقى الرأسمالية، ولكن بوصفها ظاهرة إقليمية، وليس مصيرا عالميا للبشرية كلها).
- وبدلا من التقدم التكنولوجي، ستتعدد التوجهات الحضارية في الاتجاهات التكنولوجية والمادية، وفي اتجاه المثالية والتأمل.
- سياسة الأجناس والأخلاق الاجتماعية سوف تبنى حسب مبادئ كل حضارة على حدة، القبائل القديمة مع ممارساتهم الخاصة بعلاقات الأجناس، وديانات العالم والمجتمعات العلمانية، حيث في كل حالة، سيتم تحديد المحتوى تاريخيا، دون أي نموذج قد يعتبر صالحا للعالم ككل.
من السهل أن نتصور عالما ترتبط فيه تقاليد ما بعد الحداثة، بالرفض الجذري للحداثة الأمريكية والأوروبية، مع مجموعة كاملة من العقائد الشمولية وممارسات الهيمنة. تقويض احتكار القطب ومركزية عالم القطب الواحد، الجنس البشري يفتح الطريق للنمو الحر حقا، بالاعتماد على الفهم الإيجابي للماضي والهوية، وبالاختيار الحر للتوجه. كل حضارة تحدد لنفسها الطريق، عبر إنهاء الاستعمار من العمق، وبمسح "الغربنة" التي تشبع بها هيكلها - الزمان والمكان، والإنسان والمجتمع والدولة والدين والفلسفة والأهداف والمعايير وغيرها. بعد ذلك، يتم إنشاء حقل للحوار المتعدد والمتبادل على مختلف المستويات - الجيوسياسية، الأديان والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، وهلم جرا.
خريطة المستقبل في هذه الحالة ستكون أكثر تباينا. وستشمل عدد من "الفضاءات الكبيرة" أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأوراسيا وأوروبا والصين الكبرى، الهند الكبرى، والعالم الإسلامي، وعموم أفريقيا وهلم جرا، كل منها يمثل كيانا على قبيل "الإمبراطورية". لا يوجد وضع سياسي وقانوني معين لها. رفض الكونية من قبل هذه الإمبراطوريات، سيتزامن من الناحية الجيوسياسية مع "الفضاء الواسع"، وسيسمح بتنظيم وتنفيذ هيكل السلطة الإدارية التي تقوم على الهوية التاريخية وحرية الاختيار.
الانتقال من العولمة الحالية والعالمية المتجسدة في الأحادية القطبية، إلى البديل متعدد الأقطاب، سيتزامن مع نهاية الغرب بالقدر الذي ربط فيه الغرب مصيره بالحداثة التاريخية. ومن شأن هذا أيضا أن يعني "نهاية العالم الحديث" نهاية الحداثة. كظاهرة محلية الغرب سيبقى، ولكن سيضطر لتغيير هويته، والتخلي عن الشمولية والعولمة لصالح الجذر الاستعماري (والذي، بالمناسبة، يمكن أن ينقذه كحضارة وثقافة).
من أجل أن تكون نهاية القطب الواحد كما ذكر بالتحديد- تعدد الأقطاب، من الضروري اسقاط الهيمنة الاستراتيجية الأمريكية على النطاق العالمي، تقسيم المجتمع الأوروبي الأطلسي في أمريكا الشمالية وأوروبا القارية، إسقاط الرأسمالية والطغمة المالية العالمية، اقتلاع معظم الممارسات الاستعمارية الغربية من الجذور، والتخلص من عناصر "الغربنة" في المجتمعات غير الغربية، لعن وتفكيك النظرة العلمية، إعادة تأهيل المقدسات، فضح الليبرالية كأيديولوجية شمولية والتمرد ضدها، ورفض تمام لسياسة المساواة بين الجنسين، والعودة إلى الممارسات التقليدية للأسرة، هذا هو المدخل للعهد ما بعد الغربي الجديد.
هل هناك أي شروط مسبقة لهذا؟ نعم. هل نحن قريبون من هذا السيناريو؟ بعيدون للغاية، ذلك أن حجم هذا البرنامج مع كامل المسؤولية لا يعلمه المجتمع فحسب، بل أيضا النخبة الأكثر طليعية، حتى في البلدان التي تزدهر فيها المعارضة لأحادية القطب والهيمنة الأمريكية. يتطلب هذا المشروع ثورة عالمية، وبالتالي، وجود نوع من التحالف الثوري العالمي، باعتباره جوهر التنسيق الفكري. هذا ممكن، بل ضروري، ولكنه في الواقع غير موجود حتى في نهجه الأكثر بعدا، حتى في شكل مشروع أو نية. البديل المتعدد الأقطاب متماسك ومنطقي. ولكن حتى الآن موجود فقط كنظرية. هذا ليس قليلا، ولكنه ليس كافيا ليكون بمثابة عامل فعال في وضع نهاية سريعة ومحددة للأحادية القطبية.
لذلك، في حال انتهت الأحادية القطبية أسرع من ظهور خلفية تعددية ناضجة تماما للهيكل الأولي للثورة العالمية متعددة الأقطاب، فسينتج شيء آخر.  والسؤال ما هو هذا الشيء؟