فرنسوا فيون مرشح يميني تقليدي غير شعبوي

05.12.2016

ليس هناك ما هو غير تقليديّ يمينيّاً في خطاب فرنسوا فيون. صحيح أنّ نجاحه في السباق الترشيحي ضمن قوى اليمين والوسط، وبعناوين أكثر يمينية ومحافظة وسلبية تجاه المهاجرين، وأكثر تصلّباً في الليبرالية الإقتصادية وبرامج التقشّف من أنداده، هو مؤشّر لمدى زحل اليمين «بإتجاه يمينه»، وزحل مجموع الحياة السياسية الفرنسية بإتجاه اليمين، وجزء من حالة يسميّها المؤرخ فرنسوا كوسي «تيامن العالم».

لكن الرجل هو إبن المؤسسة. شغل وزارات، وترأس حكومات لعدّة مرّات، ويصعب ربطه بـ»الموجة الشعبوية» التي تشترط – في أقل تقدير، دخول «وجوه جديدة» إلى قلب الحياة السياسية من خارجها أو بالصعود الفجائي لقنواتها. وليس هذا بمقام فرنسوا فيون، الذي هو من كثرة ما عجنته المؤسسة الحزبية لليمين الديغولي، أو المؤسسة الحكومية في الوزارات التي تولاها أو في المرات التي كان تبوأ فيها منصب الوزير الأول، أشبه بحالة هيلاري كلينتون، منه إلى صخب دونالد ترامب، الذي غزا المؤسسة من خارجها، بل أنّه حتى أقل «شعبوية» بكثير من ظاهرة نيكولا ساركوزي يوم شق طريقه للرئاسة.

أكثر من هذا، يصعب رصد ثوابت أيديولوجية «فارقة» في سيرة فرنسوا فيون، باستثناء ميله العام إلى المحافظة الإجتماعية ذات الطابع الكاثوليكي، وهذا ليس بالميل الغريب على الديغولية، بدءاً من الجنرال ديغول نفسه. غير ذلك، نجد الرجل في التسعينيات، إلى «الديغولية الإجتماعية» أقرب، وبعدها إلى «الديغولية الليبرالية» أو «الجديدة». ثباته في المحافظة الإجتماعية يختلف عن تطوّره من النغمة الإجتماعية إلى نغمة ترشيق القطاع العام، والغاء الضريبة على الثروة. «سياديته» في الموضوع الأوروبي، جعلته مثلاً في صف أخصام ماستريخت، ولم تكن على إيقاع واحد هي الأخرى.

أمّا علاقته بأقصى اليمين، أي بحزب «الجبهة الوطنية» فتحتاج إلى تدقيق مزدوج: فهو، من جهة، صحيح، «يقتبس» من برنامج منافسته مارين لوبان، الشيء الكثير، خصوصاً في السلبية تجاه المهاجرين، والتضييق عليهم، وفي المحافظة الإجتماعية، لكن فرنسوا فيون رفض قبل سنوات قليلة، وبشكل حازم، أي تبادل للأصوات، بين اليمين وأقصى اليمين، بخلاف نيكولا ساركوزي مثلاً، الذي كان أكثر استعداداً لتبني الفكرة.

صحيح أنّ تصريحات فرنسوا فيون، وخصوصاً تلك التي أطلقها من موسكو نفسها، قبل ثلاث سنوات، تجعله يرى إلى العلاقات الدولية بمنظار «لوباني» إلى حد كبير، لكنّه منظار يخرق قسمة «يمين ويسار» في فرنسا، أو في أوروبا، أو على صعيد العالم ككل. الإنقسام على الموقف من فلاديمير بوتين أو بشّار الأسد ليس انقساماً بين يمين ويسار في أوروبا، وان كانت طرائق تسويغ وتسويق الموقف «التصالحي» مع روسيا، أو «التطبيعي» مع آل الأسد، تختلف بطبيعة الحال، وخصوصاً بالنسبة إلى الظواهر الإنتخابية اليمينية التي تقرن مواقف من هذا النوع في السياسة الخارجية، مع نزعة سلبية بازاء المهاجرين، مغمّسة بـ»رهاب الإسلام» (تماماً مثلما كان يمكن لوالد مارين، جان ماري لوبان، أن يقرن بين تأييده لصدام حسين، ونزعته الكارهة للمهاجرين من أصول عربية، قبل سنوات).

وبخلاف مارين لوبان التي تطرح نفسها كمرشحة متجاوزة «لقسمة يمين ويسار»، والتي حيت شعبوية دونالد ترامب اليمينية بنفس القدر الذي حيت فيه شعبوية برني ساندرز اليسارية، والتي تعتبر نفسها في خانة النضال ضد النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية، لا يكابر فرنسوا فيون على يمينيته ـ وهي مكابرة تطبع في العادة خطابات أقصى اليمين، بل يقدّمها بالشكل الأكثر تقليدية لكلمة يمين: المزاوجة بين المحافظة الإجتماعية وبين الليبرالية الإقتصادية. فيون هو بالضرورة أقل ديماغوجية على الصعيد الإقتصادي، ولمجرّد أنّه يبشّر الموظفين وذوي الأجر باجراءات تقشّف وخيمة بحقهم!

وإذا كان فيون يعي تماماً بأنّ حظوظه جزء من موجة يمينية تعتري المجتمعات الغربية بعد سنوات استمرت فيها الأزمة الاقتصادية والمالية تجرجر أصولها وتداعياتها، وتصاعدت فيها سياسات الهوية على خلفية الأعمال الإرهابية من ناحية، وقضايا «الإندماج» أو «عسر الإندماج» للمهاجرين من ناحية ثانية، وما يلحق ذلك من «رهاب الإسلام»، وبعد أن حلّت الخيبة سريعة سواء من تجارب «اليسار الشعبوي» (نموذج سيريزا) أو من تجارب «يسار المؤسسة الحاكمة» (الاشتراكية الديمقراطية)، فإنّ فيون الذي يرى فرنسا نفسها بثنائية يمين ويسار، لا يرى أوروبا كذلك. فأبرز ما يشجبه في سياسات هولاند «الإشتراكي» انقياده، بشكل غير متكافىء، وراء سياسات المستشارة الألمانية «اليمينية» آنجيلا ميركل.

ليس هناك ما هو غير تقليديّ يمينيّاً عند فيون، وليس لموقفه من بوتين أو النظام السوري أو «حزب الله» ما يبدّل في هذا الأمر، لأنّ الشيوعيّ الفرنسيّ ـ أو الديغولي «الدولتي» – لن يكون موقفه مختلفاً في هذين الموضوعين. أما ما يتضمنه برنامجه بازاء المهاجرين، فـ»يقتبس» من اليمين المتطرف، صحيح، لكن ساركوزي فعلها قبله، ولم يؤدّ ذلك إلى أي معالجة «يمينية جذرية» لهذا الملف. إذا كان فيون أقل ديماغوجية من لوبان في الموضوع الاقتصادي، ما دام يبشّر الناس بالبلاء «التقشفي»، متذرّعاً باخفاقات اليسار الحاكم، فإنّه أكثر ديماغوجية من لوبان في موضوع المهاجرين: لأنّه لا يمتلك الأدوات الناجعة لتنفيذ شعاراته في هذا المجال، ولا يجيب بوضوح على سؤال، لماذا فشل هو وساركوزي، في تنفيذ هذه السياسات المناوئة للمهاجرين، من قبل؟!

وفيما يتعلّق بالمسألة السورية، لا بأس أيضاً من التذكير، ولو كان السياق مختلفا إلى حد كبير، بأن شيراك ثم ساركوزي باشرا علاقتهما بالنظام السوري، الواحد بعد الآخر، بشكل ايجابي، بخلاف «سلبية منذ اليوم الأول» عند الإشتراكيين، إلا أنّ شيراك عاد ولعب دوراً أساسياً في اخراج هذا النظام من لبنان، وساركوزي عاد وبدّل سياسته من النقيض إلى النقيض، عام 2011، ويمكن القول بأنّ النظام الأسدي تأذى في خاتمة المطاف من شيراك أو ساركوزي أكثر مما تأذى من ميتران أو جوسبان أو هولاند!

واذا كان العالم يتجه بشكل عام، صوب اليمين، بسياسات الهوية، ومناخات المحافظة الاجتماعية، وسياسات التقشف وحصر الانفاق، فإنّه من غير الدقيق الاستمرار في التعامل مع أقصى اليمين الفرنسي على أنّه تنظيم «فاشي» يخفي حقيقته وراء قناع من المراوغة والرياء. «الجبهة الوطنية» تبدّلت إلى حد كبير، وأسلوب صياغة السياسات واتخاذ القرارات داخلها لم يعد مختزلاً بتركيبة عائلية هرمية. وكلما زاد منسوب الديمقراطية الداخلية ضمن اليمين المتطرف تراجعت نسبة غرابته عن باقي مكونات اليمين الفرنسي (وهو يعيش داخله قلقاً من افتقاده إلى ما يميزه عن سواه، وهو ما تعبّر عنه بشكل أساسي ظاهرة ماريون ماريشال ـ لوبان)، وان بقي الاختلاف أساسياً في كون الجبهة هي يمين مناوىء للجمهورية الخامسة، في مقابل يمين حامل لفكرة الجمهورية الخامسة، من ديغول حتى فيون، ويسار مضطر إلى حمل جمهورية صيغت أساساً لتقويضه وترويضه ودفعه إلى دائرة من الفصام.

صحيح أن فيون «يقتبس» شعارات لوبان فيما يخص الأجانب، وبوتين، وسوريا، ويحاول قطع الطريق على لوبان بتشديده على استعادة قوة فرنسا داخل أوروبا، بدلاً من الانسحاب من الاتحاد الأوروبيّ، لكنّ خيار مارين لوبان لم يعد تصادمياً مع المؤسسة الحاكمة، ولم يعد ترشحها للانتخاب، للتشديد على المفاصلة بين «فرنسا الجبهة» وبين «فرنسا الجمهورية الخامسة»، وانما للوصل بين الفرنستين، على قاعدة الأجندة اليمينية، الوطنية، الانسحابية من أوروبا.

ليس هناك «ما هو غير طبيعي» اذاً في مداولات ومناقلات اليمين وأقصى اليمين، بفرنسا، مع بدء العد العكسي للانتخابات الرئاسية. ان كان ثمة «ما هو غير طبيعي» فعند اليسار: أن يكون اليسار في الحكم، وفي الإليزيه، وتكون حظوظه للتأهل للدور الثاني في الرئاسيات متواضعة، فهذا لا يمكن البحث عنه في «لا تقليدية» يمين، الذي لا يمكن تفسير صعوده فرنسياً اليوم بموجة شعبوية عاتية، خصوصاً في حالة فيون، «الاستبلشمنتي» بامتياز.

المشكلة هي في اليسار. بعد قرن ونيّف قضاها اليسار، في فرنسا، أو غيرها، يبحث في معضلة «اصلاح أم ثورة»، تظهر الأزمة مزدوجة: أزمة اليسار الإصلاحي، يسار المؤسسة الحاكمة، وأزمة اليسار الجذري، خارج المؤسسة الحاكمة. يلتقي اليساران، الإصلاحوي والجذري، في فرنسا، اليوم، على الهروب إلى الأمام، من خلال الإكتفاء بـ»تقبيح اليمين» الحالي، وتصويره على أنّه شعبوي، وبنزعات فاشية، أو «تجميل اليمين» السابق عليه، في حين أنّ اليمين، مع فيون، أكثر تقليدية بكثير من الصورة ـ الرهاب، بشأنه.

وحده اليسار القادر على رؤية فيون كما هو، أي كإبن المؤسسة الديغولية اليمينية التقليدية في مآلاتها، هو يسار قادر على تسويغ وجوده في السباق، بدلاً من أن يختزل السباق في ثنائية «يمين الجمهورية الخامسة»، أو يمين تجاوزها. لكن اليسار القادر على رؤية الاستمرارية «من ديغول إلى فيون» هو يسار قادر أيضاً على «استذكار» الاختلاف المنسي بينه وبين نظام «الجمهورية الخامسة»، صاحبة الدستور الأكثر يمينية في أوروبا الغربية.

نشرت للمرة الأولى في "القدس العربي"