"داعش" والصورة الإعلامية عربياً: استلاب الصورة البرتقالية!
كان وما زال على الإعلام العربي أن يتعامل مع مسألة تنظيم «داعش» بشكل يختلف عن غيرها من المسائل المرتبطة بانفجارات العالم العربي الراهنة، كما عن تعامل الإعلام الغربي معها. لكن الواضح أن هناك كثيراً مما يبعد الإعلام العربي عن أن يكون مرجعاً لما يجري في منطقته، وبالتالي عن دوره في تصنيع الصورة المطلوبة للمنطقة ونقلها إلى العالم.
في نهاية السبعينيات كتب إدوارد سعيد، موضحاً أن مفهوم التغطية الإعلامية يعني أمرين، أولهما الكشف عما يحدث بالمعنى التقني، والثاني حجب الحقائق عن الجمهور بالمعنى اللغوي. كلام سعيد جاء تعليقاً على تغطية وسائل الإعلام الأميركية (تلفزيون وصحافة فقط) للثورة الإيرانية. اليوم، يكاد الإعلام بأنواعه المتوسّعة يوماً بعد آخر أن يكون السلطة الأولى في العالم، الأمر الذي يُعطيه قدرات مضافة يجهل البعض (ربما عربياً أكثر) أنه يمتلكها، في حين يدرك آخرون هذه القدرات فيتمّ توظيفها بالشكل المناسب.
توضح دراسة لم تنشر بعد قامت بها «مبادرة المساحة المشتركة» في قسمها السوري (مقرها بيروت) على قرابة 600 ألف عنوان منتجة على منصات إعلامية عربية («السفير» منها) ودولية ناطقة بالعربية (CNN و BBC) ولمدة ستة أشهر بدأت منتصف العام الماضي إلى الشهر الأول هذا العام، أن «داعش» يحتل المركز الثاني في عناوين المواد الإخبارية التي قدّمتها هذه المنصات.
اختارت المبادرة تحليل هذه المنصات بناء على اقتفاء أثر عدد من الكلمات المفتاحية لجهة ورودها في محركات البحث في المراتب الأولى، مثل «النظام»، «المعارضة»، «داعش»، «النصرة»، «اللاجئين»، «الثورة».. كما توزّعت الاختيارات على مختلف الأنواع الإلكترونية والتلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي وجميعها ناطقة باللغة العربية، ويجري حالياً إعداد دراسة مشابهة لوسائل إعلام غير ناطقة بالعربية.
«الكشف عما يحدث» بتعبير صاحب «الاستشراق»، هو أمر تجاوزه تنظيم «داعش» باتجاه «إنتاج الحدث» وتسويقه وتوزيعه عالمياً، ليتحوّل إلى مرجعية ذات حضور طاغٍ على غيره من صانعي الحدث، متجاوزاً طرق تمرير الرسائل والأشرطة عبر وسيط (قناة «الجزيرة» أيام مجدها) ليتحوّل منتِجاً (بكسر التاء) وموزِّعاً، مستفيداً من المنصات نفسها، باستخدام سرديات متطورة تفهم تماماً علم النفس الجماهيري وآليات توجيه اللاوعي لدى الملتقين. يبدو أن هناك من استفاد من انتصار الـ CNN في حرب الخليج الثانية، وهو الواضح تماماً في قول أبي بكر البغدادي إن «معركتنا مع العالم نصفها إعلامي».
من جهة ثانية، فإن غالبية تناول وسائل الإعلام لما «يحدث» بشأن «داعش» يذهب إلى تقديم الصورة كما ترد من منظومات «داعش» الإعلامية من دون عناية بتفكيك محتواها لبناء الرسائل المضادة، ومن دون النفاذ إلى عمق تأثيرها ولا عمق حواملها الرسالية. وغالباً ما يُكتفى بنقل الخبر ـ الأسطوري ـ كما لو كان يخص عالماً مفارقاً للعالم العربي، مركّزين في غالب التحليلات على أن هذه الظاهرة «ليست من الإسلام في شيء»، كما لو أنها نبتة شريرة في حقل من الحنطة.
«حجب الحقائق» وتقديم السردية الداعشية تذكّر بنجاحات إعلام أنظمة القمع الشمولية (النازية والشيوعية) صاحبة آليات الدعاية الشرسة التي استخدمت أحدث التقنيات لإيصال رسائلها. إعلام «داعش» حداثوي أيضاً يعي تماماً أن لغة الصورة (بما هي فيديو أيضاً) هي أقوى في ظل عولمة الصورة لتصبح المرجعية الأوحد في التلقي وعلى مختلف المنصات، من دون إغفال المهمة (الشرعية) في التأصيل لدولة الخلافة المقبلة على صهوات الخيول المعولمة، ومن دون إغفال الترويج الدعائي لنموذج الدولة (المثالي، النبوي، الحلم) في امتداداته اليومية في حياة الناس في مناطق سيطرته.
يعمل إعلام «داعش» بشكل احترافي، في حين يعمل الإعلام العربي بمنطق الترجيع الانفعالي مقدّماً رؤيته النابعة أساساً من علاقته مع السلطة أو بمصادر تمويله التي تحكم رؤيتها هي الأخرى عوامل نفعية غالباً، تغيب عنها المهمة التنويرية والإنسانية والحضارية. ولم يكن بالتالي لهذا الإعلام تأثير كبير في الشارع العربي من منطلق فهم الناس البسيط لهذه المعادلة وعدم تصديق نتائجها. ليست المشكلة فقط في محتلي الفضاء الإعلامي بقدر ما هي في فهم الفلسفة الكائنة وراء هذه الفضاءات.
من دون شك، فإن الإثارة والغرائبية التي تتمتّع بها أخبار «داعش» (مثل إعدام فتاة لاستخدامها تطبيق الواتس أب) تجعلها مادة دسمة للعرض وفق المنطق النفعي، كما تتطابق مع مفهوم التوحُّش الذي يصدر به التنظيم رسائله بتقنيات هوليودية ذات إيقونات إخراجية ليس من السهل إعلامياً تجاوزها، وبالتالي تحقيق أمرين: الأول تضخيم صورة التنظيم، والثاني جذب جمهور متزايد يقع ضحية العجز والانكماش، والأهم خلق التفكير بالانتقال إلى الضفة الثانية المؤيدة لـ «داعش».
يعتمد التنظيم في رسائله البصرية على وضع حزمة متكاملة في كل حدث يصدّره إلى العالم، بحيث يصعب تجاهل أي بند في المنظومة. في قضية مقتل الطيار الأردني «معاذ الكساسبة» استخدم التنظيم إضافة إلى الحرق ضمن قفص بديلاً عن الذبح (وعى التنظيم انخفاض مستوى تأثير الذبح بصرياً بعد عزوف العديد من المحطات عن نقله، فابتدع تقنية «هوليودية» جديدة في الحدث) مرفقاً برسائل بصرية وعقلية عدة، من موسيقى جهادية إلى ترجمة لغوية إلى مونتاج احترافي، أضافت له أهمية الأسير الاستثنائية زخماً مشهدياً كبيراً، في ظل كون الأردن جزءاً من التحالف الدولي ضد «داعش».
الردود على عملية الحرق إعلامياً في العالم العربي استخدمت الأدوات المعتادة نفسها بالتعامل مع أي قضية أخرى، ولم يكن هناك سوى الزعيق والتهديد والحديث عن ردٍ قاس من قبل الأردن (وكأن القضية تعنيه هو فقط)، إضافة إلى الحديث المتكرّر عن «المؤامرة» التي تستهدف الوجود العربي وصورة الإسلام عالمياً... ليس هناك في الإعلام العربي من يردّ على منطق «داعش» بصناعة مادة إعلامية تقدّم إلى الجمهور العام قبل مناصري «داعش» (الكثر في اللاوعي العربي) مساهماً في تفكيك خطابه البصري والديماغوجي.
في الخلاصة، سواء اتفقنا أو اختلفنا أن «داعش» نبت محلي حداثوي ناتج عن الإفراط العنفي أو صناعة استخبارية لأنظمة عربية أو غربية أو شرق أوسطية، فإن هذا التنظيم يُجبرنا اليوم على التفكير بإعادة طرح الخطاب الإعلامي العربي بشكل أكثر حداثوية وأكثر عمقاً وأكثر إدراكاً لأهمية الصورة المقدّمة للجمهور، بما هو «عصر موت الواقع لصالح الصورة»، كما تنبأ جان بودريار.
جريدة "السفير"