بوتين وأردوغان: بين الشخصنة والجيوبوليتيك

15.08.2016

ما زال العالم العربي منشغلاً بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا التي جرت الأسبوع الماضي، وباللقاء الذي جمع الزعيمين الروسي والتركي، وبالتوقعات الكبرى المعلّقة على التقارب الروسي - التركي. ويرفع من سقف التوقعات أن الزيارة هي الأولى لأردوغان إلى بلد خارجي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف الشهر الماضي، في ظل توتر واضح بالعلاقات التركية - الأميركية والتركية - الأوروبية، ما يعني وفقاً لهذه التوقعات المغرقة في شخصنتها للأحداث أن تركيا بصدد الاستدارة شرقاً وترك الغرب وحلف «الناتو» وراءها. تعرف قراءة التاريخ رؤيتان مختلفتان، الأولى تفرد الدور الحاسم للزعيم أو الشخصية المحورية في الأحداث وهي منتشرة في الشرق انتشارا كبيرا، بما يشمل تركيا وروسيا. أما الرؤية الثانية فترى في حتميات الجغرافيا وتسلسل التاريخ قيوداً على حركة الأمم، بحيث تجعل الزعماء منفذين للحتميات الجغرافية وتلاميذ نجباء للدروس التاريخية الماضية. سارت التحليلات العربية والتركية والروسية للزيارة الأخيرة في اتجاه الرؤية الأولى التي تعلي من شأن شخصية بوتين وأردوغان في تغيير مسار التاريخ، برغم كل الخلافات بينهما. في المقابل، تحاول هذه السطور تبني الرؤية الثانية في تحليل التقارب التركي - الروسي على خلفية سياقاته التاريخية والجغرافية، وصولاً إلى تقييم حدود الحركة لكل من بوتين وأردوغان حيال الآخر.

الشخصية الكاريزمية كمحرك للأحداث
لا يخفى أن تجربة الرئيسين بوتين وأردوغان تحمل الكثير من الشخصنة في الداخل والخارج، ويعتقد مؤيدوهما بتأثير شخصية «القيصر» و «السلطان» على العالم الخارجي وصد المؤامرات على روسيا وتركيا. وعندما أسقطت تركيا الطائرة الحربية الروسية العام الماضي، اعتبرت وسائل الإعلام الحدث منازلة مباشرة بين بوتين وأردوغان لا حدثاً عملياتياً أو تكتيكياً. وفي الشهور الواقعة بين إسقاط الطائرة الروسية والاعتذار التركي، كانت تصريحات الزعيمين بخصوص الطرف الآخر مؤشراً مهماً على حال العلاقات بين البلدين. يتحدر الزعيمان من أصول اجتماعية متواضعة، صنعا «مجديهما» بكثير من العرق والدموع في مواجهة ظروف قاهرة. كلاهما انتمى إلى مؤسسة أوصلته لاحقاً إلى ما هو فيه الآن: بوتين في الـ «كي غي بي» وأردوغان في التيار الإسلامي الذي قاده الراحل نجم الدين أربكان. كلاهما يريد بعث مجد بلاده التاريخي، وأنصارهما يعتقدون بقدرة كل منهما على ذلك. تقاربت روسيا وتركيا في مجال التجارة والسياحة و «البيزنس»، في مثال جيد على منافع التعاون الاقتصادي لبلدين جارين. وغطى «البيزنس» إلى حين على التناقضات الأعمق، التي لا يمكن للتجارة أن تحلها، وزاد في التفاؤل أن العلاقات بين الزعيمين كانت جيدة حتى إسقاط الطائرة الروسية. ولما كان الأمر مشخصناً إلى حد كبير في السابق، يمكن تفهم أن التحليل المشخصن قد ذهب إلى توقع «تحالف استراتيجي» بين البلدين، طالما اتفقت الكيمياء بين الزعيمين من جديد.

الجغرافيا السياسية مؤشراً
وبرغم أن الابتسامات أمام الكاميرات والمصافحة الودية والكلمات الطيبة بين الزعيمين، ربما تكون قد طوت ملف الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا العام الماضي، إلا أن هناك قضايا تاريخية وجغرافية لا يمكن طيها بالسهولة ذاتها. تحاربت الإمبراطورية العثمانية مع روسيا القيصرية لقرون، واصطبغت الذاكرة الوطنية لكلتيهما بمعاداة الآخر. وإذ يفصل البحر الأسود روسيا عن تركيا، إلا أن مناطق الصراع على النفوذ بين روسيا وتركيا تمتد من آسيا الوسطى إلى القوقاز إلى الشرق الأوسط، حيث يتصادم الغريمان الآن في سوريا. ولعل الأمر الجدير بالملاحظة أن انضمام تركيا إلى حلف «الناتو» في العام 1952 جاء على هذه الخلفية التاريخية والجغرافية، وليس بالضرورة لتفضيل تركيا القيم الغربية والأميركية. أي أن روسيا كانت منذ تأسيس الجمهورية التركية العام 1923 ـ وما زالت - مصدر التهديد الأول لتركيا، وهي حقيقة لا يستطيع غضب أردوغان من الغرب أن يغفلها.

بمرور الوقت، ظهرت أفكار لمشاريع كبرى على قدر كبير من الأهمية تتجاوز مجرد «بيزنس» بين البلدين لتطال توازنات عالمية. ومن أمثلة هذه المشاريع بناء محطات نووية روسية لتوليد الكهرباء على الأراضي التركية، وما يعنيه ذلك في حال حدوثه من شراكة استراتيجية ممكنة بين أنقره وموسكو. لكن المشروع الأهم والأخطر يتمثل في مشروع تمرير أنابيب الغاز الطبيعي الروسي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي التركية أو ما يطلق عليه «السيل التركي»، ومرد الأهمية والخطورة ليس أن تركيا تحتاج إلى الغاز الطبيعي الروسي وستحصل على جزء منه، بل لأن روسيا ستقفز فوق عوائق الجغرافيا لتصل إلى الأسواق العالمية عبر تركيا بدلاً من مرور الأنابيب عبر أوكرانيا المتحالفة مع الغرب. ومن المعلوم أن روسيا شاسعة المساحة (ثلث مساحة العالم) لا تطل على بحار مفتوحة، وبالتالي فقد عمدت بريطانيا ومن بعدها أميركا إلى محاربة روسيا من خارج أراضيها وبالتحديد عبر السيطرة على الممرات المائية المحيطة بالجغرافيا الروسية الشاسعة، ومن ضمن هذه الممرات البوسفور والدردنيل في تركيا قطعاً. لعب ذلك دوراً كبيراً في خسارة روسيا لحربها مع بريطانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي يطلق عليها «اللعبة الكبرى»، وخسارتها أمام أميركا خلال القرن العشرين «الحرب الباردة».

الخلاصة
ستستعصي الثوابت التي حكمت موازين القوى الدولية على أردوغان، حتى لو أراد الاتجاه شرقاً كما تقول التوقعات المتفائلة. يعلم أردوغان حدود حركته وقدراته كلاعب إقليمي في مواجهة أقطاب دولية، وبالتالي فهو ليس في وارد تمرير أنابيب الغاز الطبيعي الروسي عبر الأراضي التركية بما يغير من التوازنات الدولية. أثبت أردوغان في السنوات السابقة أنه عنيد وبراغماتي وليس انتحاريا بحال من الأحوال. يريد أردوغان أن يبعث رسائل للغرب وأوروبا مفادها أن لديه خيارات أخرى، كما أن التقارب مع روسيا يوسع هامش المناورة التركية في قضايا التماس التركي - الروسي ومنها سوريا. بدوره، يعلم بوتين القدرات المحدودة نسبياً لأردوغان في تغيير موازين القوى الكونية، إلا أن «القيصر» يريد استثمار الفجوة الراهنة في المواقف التركية - الأميركية لمصلحته. وتتمثل الأخيرة في منع تركيا من إكمال الطوق الجغرافي على روسيا بالانضمام إلى الجهد الأميركي في رومانيا وأوكرانيا وحائط الردع الصاروخي، للتضييق على روسيا في مجالاتها الجغرافية الحيوية، وهي دروس الصراع الغربي مع روسيا في القرون الثلاثة الماضية. في الموضوع السوري يبدو هامش التنازل صعباً للغاية لأي من الطرفين، فأردوغان ليس في وارد خسارة تحالفاته الإقليمية في الموضوع السوري إرضاءً لروسيا، وبوتين لن يتنازل عن طموحاته والأثمان السياسية التي دفعها منذ تدخله في سوريا كي يرضي أردوغان. لذلك سيحاول كل من بوتين وأردوغان الاستفادة من قضايا «البيزنس» وتوسيع هوامش المناورة في قضايا متنوعة، لكنه من الصعب جداً تصور «علاقة استراتيجية» بين الطرفين نظراً لتحالفات تركيا المؤسسية مع الغرب وحلف «الناتو». وبما أن الأمر كذلك، ستتغلب في النهاية عوامل المصلحة وحسابات الجغرافيا والتاريخ، التي تعني بوضوح أن الهوة التي تفصل مصالح الطرفين الروسي والتركي ستظل عصية على التجسير مهما انتعش «البيزنس» بغض النظر عن شخص الرئيسين في روسيا وتركيا!

نشرت للمرة الأولى في "السفير"