بوتين وآبي وقضية الجُزر
اعتبرت وسائل إعلام حكومية روسية أن لقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، في منتجع «سوتشي» على البحر الأسود في السادس من أيار الجاري، بمثابة محاولة مهمة لتحريك المياه الراكدة في العلاقات بين البلدين. ولفتت صحيفة «روسيسكايا غازيتا»، لسان حال الحكومة الروسية، إلى أن آبي هو أول زعيم من مجموعة السبعة الكبار يزور روسيا منذ فرض العقوبات الغربية على موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية. لكن لقاء بوتين وآبي في «سوتشي»، بحسب البعض، أضفى مزيداً من الضبابية على أربعة محاور رئيسية للعلاقات بين البلدين، وهي إمكانية توقيع معاهدة سلام بينهما، وسبل حل مشكلة الجُزر المتنازع عليها، وإمكانية إطلاق علاقات واسعة بين البلدين مستقبلاً، ومدى حرية الحركة لدى طوكيو بعيداً عن الولايات المتحدة.
قبل هذه الزيارة أعطت روسيا إشارات بأنها ترغب في جذب الاستثمارات والتكنولوجيات اليابانية لتطوير منطقة الشرق الأقصى الروسي، وذلك بجانب مساهمات مشابهة من الصين وكوريا الجنوبية. واللافت أنه بعد مباحثات «سوتشي»، شرع اليابانيون في التلميح إلى ظهور «مقاربة جديدة» لحل مشكلة الجُزر جرى بحثها مع الجانب الروسي. وكان دميتري بيسكوف، الناطق الصحافي للرئاسة الروسية، قد أشار إلى أن «مسألة الجُزر جرى بحثها بين بوتين وآبي في جو بناء تماماً». ولكن لا أحد يعرف مضمون هذه «المقاربة اليابانية الجديدة» لحل قضية الجُزر، خاصة في ظل اقتراح رئيس الوزراء الياباني على الرئيس الروسي خطة ضخمة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، تتضمن مشروعات استثمارية كبيرة لبناء مصانع ومعالجة للغاز المسال وتشييد مطارات جوية وموانئ بحرية، وغير ذلك من مشاريع بنية أساسية في الشرق الاقصى الروسي.
يُعدّ الخلاف على أربع جُزر حدودية بين روسيا واليابان أحد كوابح تطوير العلاقات بين البلدين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وظهرت هذه المشكلة عندما استولى «الجيش الأحمر» السوفياتي على هذه الجُزر (شيكوتان وهابوماي وكوناشير وإيتوروفو)، معتبراً أنها تعود تاريخياً إلى روسيا. وهو ما اعتبرته اليابان، ولا تزال، احتلالاً لجزء من أراضيها. وفي العام 1956، توصّلت روسيا واليابان إلى إعلان مشترك، استأنفت الدولتان بموجبه العلاقات الديبلوماسية بينهما، ولكن هذا الإعلان لم يحل المشكلة. واقترح الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروشوف، في خمسينيات القرن العشرين، تسليم اليابان جزيرتين من جزر الكوريل، هما شيكوتان وهابوماي، بشرط أن توقع طوكيو معاهدة سلام مع موسكو تُنهي حالة الحرب بينهما، وبشرط إخراج الولايات المتحدة من جزيرة أوكيناوا. غير أن الأميركيين رفضوا الخروج من أوكيناوا، ومن ثم رفض اليابانيون الاقتراح المذكور. وتعقّدت الأمور بعد توقيع اتفاقية أمنية عسكرية بين واشنطن وطوكيو في 1960، حيث اعتبرت موسكو أن تقديم أي تنازلات إلى اليابان من شأنه توسيع مساحة الأراضي، التي تستخدمها الولايات المتحدة في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفياتي. وخلال زيارة قام بها ميخائيل غورباتشوف إلى اليابان قبل انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، أصدر الجانبان بياناً مشتركاً لتأكيد أن معاهدة السلام اللاحقة بين البلدين ينبغي أن تصبح وثيقة للتسوية النهائية لمرحلة ما بعد الحرب، بما في ذلك حل قضية الأراضي المتنازع عليها. وفي العام 1993، أكد الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، أثناء زيارته لطوكيو، على ضرورة متابعة المفاوضات بهدف تسريع التوقيع على معاهدة السلام وحل مسألة الجُزر. وبعد وصوله إلى سُدة الحكم، أعلن فلاديمير بوتين أن بلاده تعترف بوجود المشكلة، مشدداً على أن الحديث «لا يمكن أن يدور حول إعادة الجُزر إلى اليابان». ولكنه في وقت لاحق ألمح إلى استعداده للعودة إلى مبادرة خروشوف، راهناً على جذب استثمارات يابانية إلى روسيا.
يتمحور التصور الروسي لحلّ مشكلة الجُزر مع اليابان حول دعوة الأخيرة للدخول في استثمارات مشتركة في منطقة الشرق الأقصى الروسي قبل الدخول في مفاوضات سياسية حول هذه الجُزر. وكانت اليابان قد استجابت نوعاً ما لهذا الأمر قبل الأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا. ويرجع ذلك لأسباب عدة، منها حاجة اليابان بقوة إلى موارد الطاقة الروسية من نفط وغاز، والتطور اللافت للعلاقات بين روسيا والصين في مجال الطاقة والتسليح، وحاجة طوكيو للتأثير الروسي على كوريا الشمالية، التي تُزعج تهديداتها النووية اليابانيين كثيراً. لكن «المقاربة الاقتصادية» لحل الخلاف بين البلدين لم تُسفر عن نتائج ملموسة خلال السنوات السابقة، حيث لم تزد الاستثمارات اليابانية عن 3 في المئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في روسيا. وتُصرّ اليابان على استعادة الجُزر الأربع المتنازع عليها كشرط لتوقيع معاهدة سلام مع موسكو وفتح صفحة جديدة في العلاقات معها. لكن موسكو لا تعتبر إبرام مثل هذه المعاهدة مع اليابان بمثابة تسوية لقضية الجُزر، بل خطوة ضرورية لتطبيع العلاقات بين البلدين. ومن ثم يظل البلدان، من الناحية الشكلية، في حالة حرب برغم انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لعل أهم ما تمخض عنه لقاء بوتين وآبي في «سوتشي» يتلخص في الاتفاق بين الجانبين على مواصلة الحوار بينهما بشأن توقيع معاهدة سلام بين البلدين عبر القنوات الديبلوماسية في حزيران المقبل، ومن ثم استئناف الحوار حول مشكلة الجُزر. وربما سيتوقف تحريك العلاقات بين البلدين، بدرجة كبيرة، على زيارة الرئيس الروسي المرتقبة إلى اليابان، والتي تأجلت أكثر من مرة بسبب الأزمة الأوكرانية، ولم يتحدد موعدُها بدقة حتى بعد زيارة آبي لمدينة «سوتشي». وترى وسائل إعلام روسية أنه سيتعين على آبي تبني سياسة مستقلة نسبياً عن واشطن وإعادة النظر في موقفه من مجمل الضغوط على روسيا، ومنها العقوبات ونشر عناصر الدرع الصاروخية الأميركية في اليابان والوجود العسكري الأميركي في الأراضي اليابانية. لكن استجابة طوكيو لهذه المطالب الروسية من أجل التوصل إلى «مقاربة جديدة» للعلاقات وتحريك المياه الراكدة بشأن الجُزر ومعاهدة السلام، تظل محلاً للشك في موسكو. كما أنها ستتوقف على ما ستُقدمه روسيا لليابان مقابل إعادة النظر هذه.
جريدة "السفير"