أرسطو المتخلى عنه

16.09.2024

ترجمة : نورالدين علاك الاسفي [1]

بدأ العلم الزائف في العصر الحديث بالقضاء على ثلاثة من أصل أربعة علل لأرسطو[2]. و تم الاحتفاظ بواحدة فقط؛ العلة الفاعلية/ causa efficiens،أي العلة الحركية. ونتيجة لذلك، فقد الكائن أبعاده الثلاثة-الإيديتي/ the eidetic ، و الهيولي/hylistic the، وقبل كل شيء، الإنتيليشي/the entelechial ؛ [3]. الكائن توقف عن التحديد بمعناه الروحي، وارتباطه المرن بالعناصر، و فقد هدف الحركة، الذي قام بتجميع الأسباب الثلاثة السابقة. أصبح الكائن جسما متحركا غير ذي صلة (غير معروف). هذا يعني أنه موجود فقط في الحركة، مفصول عن الهوية الأبدية (العلة الصورية/ causa formalis)، و المرونة الفوضوية/المرونة (العلة المادية/ causa materialis)، والأهم من ذلك، بدون هدف (العلة الغائية/ causa finalis). مثل هذه الحركة ليس لها نقطة أخيرة؛ إنه بلا هدف في الأساس. "هذه هي ذرات ودوامات ديموقريطس/ Democritus وأساس تعليم أبيقور/ Epicurus " ، سيقول شخص مطلع على الفلسفة اليونانية. و أنها سوف تكون على حق.
بتنحية العلة الغائية، نقضي على المحور الذي يدور حوله العالم ونجرد وقت اتجاهه. في جوهرها، و منذ البداية، وضعت فيزياء عصر النهضة (جاليليو/ Galileo ، نيوتن/ Newton) الأساس لما بعد الحداثة: إعادة التدوير، ما بعد التاريخ، الاقتباس، حل المعنى، السخرية العدمية.
الجانب الأكثر خطأ في ثقافة العصر الحديث ليس فلسفتها بل علمها. إنه مصدر تدهور الحضارة. فيرنر كارل هايزنبرغ / Werner Karl Heisenberg ؛ [4] الحائز على جائزة نوبل، وهو فيزيائي لامع حقا؛ عمل على نظرية الكم، لاحظ ذات مرة: العلم القديم جمع العالم، وجعله كاملا، بينما نحن، علماء الحداثة، نقوم بتفكيكه إلى أجزاء لا معنى لها؛ ففي سعينا لغزوها ندمرها. العلم الحديث مدمر. هذه هي أخطر أيديولوجية مدمرة. إنه يحرم كل شيء من المعنى، ويسعى إلى إخضاع الأنطولوجيا/ Ontology الدقيقة للعالم لحساباته الوهمية.
إذا أزلنا العلة الغائية، فإن الواقع يصبح متماثلا، لا أحد ولا شيء لديه المسار الصحيح. طريقة واحدة ليست أفضل من أخرى. في الوقت نفسه، يخضع اللامعنى العام للقدرية الميكانيكية التي؛ بوجه خاص لا رجعة فيها. هذا هو الكون الشمولي، حيث تصير جميع سلاسل العلة والنتيجة أقوى من الفولاذ. أي الطغيان الحقيقي. هذه هي بالضبط الطريقة التي بنى بها نيوتن تعليقاته على نهاية العالم: بمعرفة العلل، نستخرج النتائج بحزم. هذه هي الكالفينية/ Calvinism ؛[5]المطبقة على العلم. ولكن ما هي العلل بالضبط? إنها العلة الفاعلية/ causa efficiens .
هذا المنطق يكمن وراء الأيديولوجيتين الغربيتين الأكثر شمولية: الليبرالية (التي هي بلا شك بطلة الانحطاط العقلي) والشيوعية. إنهما تقودان، بضرورة حديدية، إلى كابوس عالمي مطلق. ومع ذلك، النازية ليست أفضل. فقط أقل عقائدية و " علمية". لكنها تتبع نفس المنطق، لا ينطبق فقط على الفرد والطبقة (مفهومان ضخمان زائفان لليبراليين والشيوعيين)؛ ولكن على العرق.
علينا أن نبدأ بإعادة تقييم مفهوم العلية والعودة إلى تفسير حقيقي و أصيل لأفكار أرسطو. [6]
---------
[1] في البال: المقال المترجم رهن الإحاطة علما؛ لا تبني فحواه جملة أو تفصيلا. المترجم.

[2] العلل الأربع:
العلّة المادّية: ما يتمّ توليد الشيء منه، وما يُصنع منه (مثلًا: البرونز للتمثال).
العلّـة الصورية: البنية التي تحقّقها المادّة وبوجبها تصبح أمرًا قابلًا للتمييز (مثلًا: شكل سقراط الذي بموجبه يمكن القول عن كمّية البرونز بأنّها تمثال سقراط)
العلّة الفاعلية: الطرف المؤثّر المسؤول عن اتّخاذ كمّية المادّة لصورتها (مثلًا: النحّات الذي شكّل كمّية البرونز بهيأتها الحالية: صورة سقراط)
العلّـة الغائية: غاية أو هدف التراكب بين الصورة والمادّة (مثلًا: صنع التمثال لغاية تكريم سقراط).

*العلل الأربعة وكفاية التفسير عند أرسطو – كريستوفر شيلدز
https://hekmah.org/العلل-الأربعة/
https://ar.wikipedia.org/wiki/علل_أربع
*- ارسطوطاليس؛ الطبيعة؛ الجزء الأول؛ ترجمة اسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمان بدوي؛ المركز القومي للترجمة.2007. -الفصل 7: العلل الأربع؛ ص136
*- أرسطو، الفيزياء، السماع الطبيعي. ترجمة عبد القادر قينيني. افريقيا الشرق. المغرب.1998. الفصل 3؛ العلل و أنواعها و أحوالها. ص 50.

[3] * الإيدوسي: أشكال أو أفكار المجردة- أفلاطون. يشير إيدوس إلى "جانب" الشيء أو "شكله" أو "وجهه" أو الصورة المرئية بدقة (بروتاغوراس). تمثل الفكرة الجانب المرئي لكائن تكون تحديداته أقل تأكيدا من تحديدات إيدوس التي تشير إلى شكل دقيق.وهو مصطلح يستخدمه أفلاطون وأرسطو بالمعنى الميتافيزيقي ويترجم عموما على أنه "شكل".
يحلل الفكر اليوناني القوة في شكلها غير المادي، وستكون القوة (الطبيعة النشطة) الموجودة في المادة (الطبيعة السلبية) ، والتي تنتظر الفعل (الفعل) ، وعمل الإنسان الذي ينشأ، ويصبح شكلا ماديا. القوة هي الفكرة، التي تنتظر منا أن ندركها ، لتجسيدها في شكل.
https://fr.wikipedia.org/wiki/Eidos
https://fr.wikipedia.org/wiki/Théorie_des_formes
* الإنتليتشي :الحصول على الكمال، تحقيق إمكانات شيء ما، أو طريقة كونه شيئا. هي حالة الكمال ، والوفاء التام للوجود ، بدلا من الوجود. البحث عن شيء ما في الحياة ، على قدم المساواة مع الكمال. إنتليشيا في التقليد الأرسطي هو مفهوم للفلسفة يحدد حالة ما تم تحقيقه، وما أنجز نهايته. والإدراك الذي من خلاله يجد الكائن كماله.
https://www.oxfordreference.com/display/10.1093/acref/9780199541430.001.0001/acref-9780199541430-e-1541?rskey=cD4336&result=1541
* الهِيُولى: أو الهِيولا (Hyle) كلمة يونانية تعنى الأصل أو المادة، وهى واحدة في جميع الأشياء في الجماد، والنبات، والحيوان. وإنما تتباين الكائنات في الصور فقط. فالهيولى في ذاته لا صورة له ولا صفة. لذلك يحتاج إلي الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه. فالصورة هي المبدأ الذي يعين الهيولى ويعطيها ماهية خاصة. فالهيولي والصورة لا ينفصلان. إذ كل موجود يتكون من كليهما. وتسمى الهيولى بالجوهر المادي. وفي فلسفة أرسطو فإن الشيء، بما له من هيولي وصورة، أطلق عليه أرسطو كلمة الجوهر. ومن الجواهر المختلفة، تتكون الحقيقة.
https://ar.wikipedia.org/wiki/هيولى_(فلسفة)
https://iep.utm.edu/ancient-greek-philosophy/
[4] فيرنر كارل هايزنبيرغ (1901–1976) فيزيائي ألماني حائز على جائزة نوبل لعام 1932. اكتشف أحد أهم مبادئ الفيزياء الحديثة وهو مبدأ عدم التأكد. من مؤلفاته الجزء والكل والفلسفة والفيزياء والطبيعة في الفيزياء.
[5] الكالفينية/ Calvinism(والمعروفة أيضاً باللاهوت المصلح) هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جان كالفن(1509-1564)، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و 1559م مؤلّفه (مبادئ الإيمان المسيحي) والذي اعتبر أهم كتب " الحركة البروتستانتية".
[6] رابط المصدر:
https://www.geopolitika.ru/en/article/aristotle-abandoned-dugin