إبادة جماعية غير معروفة!

25.10.2019

يرتبط غالبا مصطلح الإبادة الجماعية بمجموعة متنوعة من الأحداث التي لا تتميز بدلالة سياسية فحسب، بل أيضا بخصائص غامضة. حيث اعترفت بعض الدول بالإبادة الجماعة التي تعرض لها الأرمن على يد الأتراك، وهناك نقاشات حول موضوع الإبادة الجماعية للمواطنين في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008. على يد السلطات الجورجية، وكذلك الإبادة الجماعية التي تعرض لها الروس في أوكرانيا، بعد الأحداث التي بدأت عام 2014. وأفضت لقرارات من السلطة الجديدة في كييف. انتهكت بموجبها حقوق السكان الناطقين بالروسية، مما أدى إلى استفتاء القرم، واعلان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين من طرف واحد، كذلك الأخبار التي تأتي من الخارج عما يتعرض له الفلسطينيين في إسرائيل، والمسلمين (الروهنيجيا) في ميانمار الذين يتعرضون للاضطهاد من قبل البوذيين، أو الكشميريين في الهند رغم قرار الأمم المتحدة عام 1948. الذي نص على إجراء استفتاء حول حق تقرير مصيرهم وترفض الهند تنفيذه حتى الأن.

هناك مشكلة أخرى في الهند تتعلق بالاضطهاد التاريخي للسيخ. اعترفت بعض الولايات في كندا وأمريكا بأن المذابح المناهضة للسيخ في الهند إبادة جماعية. ويعود تاريخ هذه الحالة إلى الواحد والثلاثون من أكتوبر/تشرين الأول 1984. حينما تعرضت رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي. للاغتيال من قبل حراسها الشخصيين الذين كانوا من طائفة السيخ، وقتها شعرت القيادة الهندية أن اللوم على قتلها لا يقع فقط على الجناة المباشرين والمنظمين المحتملين بل على مجتمع السيخ بأكمله داخل الهند.

سبق عملية الاغتيال هذه بفترة وجيزة صراع نشأ بين الدولة الهندية والسيخ. أدى لإعلان السيخ سلطة الحكم الذاتي من طرف واحد، وكان رد الدولة على هذا القرار شديد القسوة والوحشية عبر عملية "النجم الأزرق" العسكرية التي بدأت بالأول من يونيو/حزيران 1984. وانتهت ببسط القوات الهندية سيطرتها على المعبد الذهبي "أمريتسار" وقتل الزعيم السيخي جارنيل سينغ وأتباعه المسلحين، وقد بلغ مجموع قتلى في هذه العملية حوالي 500 شخص.

بعد اغتيال أنديرا غاندي قال راجيف غاندي "عندما تسقط شجرة كبيرة تهتز الأرض من حولها" بعد هذا التصريح بدأ كبار المسؤولين في حزب المؤتمر الهندي الحاكم بحشد مواطنيهم، وتولى أمر تمويل المتظاهرين بل وحتى توزيع المشروبات الكحولية عليهم العضو البرلماني سجان كومار، ورئيس نقابات العمال لاليت ماكين. كما قدمت شركة دلهي للنقل بالتعاون مع الشرطة الدعم اللوجيستي لنقل المتظاهرين، وزود قادة الحزب بمناطقهم المتظاهرين بعصي الخيزران، والقضبان المعدنية، والسكاكين، والكيروسين، وبدأت هذه الجموع بالبحث عن السيخ بكل مكان، وقد حصلوا على كافة المعلومات التي تخص أماكن تواجدهم عبر القوائم الانتخابية، وبطاقات الحصص التموينية، والتسجيل بالمدارس. رافق ذلك كله حملة إعلامية في إذاعة عموم الهند والتلفزيون الوطني، تحمل شعارات تدعو للثأر وتروج للعنف والكراهية مثل "الدم من أجل الدم" أو "السيخ خونة الأمة" وغيرها من الشعارات العنصرية والطائفية.

في الساعة الثامنة من صباح الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1984. بدأت المذابح في العاصمة الهندية. وكان معبد السيخ (غوردوارا) الهدف الأول للأعمال الانتقامية، وكهنته الذين تم نزع عمامتهم وقص لحاهم وشعرهم ثم تمزيقهم (وفقا للعادات الدينية لا يقوم السيخ الذكور البالغين بقص لحيتهم ولا شعورهم ولذلك يضعون العمامة على رؤوسهم). حاول السيخ الفرار من المدن الكبرى لإنقاذ حياتهم لكن الحشود الهندوسية أوقفتهم على الطرق وأمام محطات القطار دون مراعاة للعمر أو الجنس.

شبهت مراسلة جريدة نيويورك تايمز الأمريكية باربرا كروسيت ضحايا الهجمات على السيخ بما قام به الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه. إلا أن حكمه قد استمر 17 سنة وقعت جميع عمليات القمع والقتل في الهند بغضون أيام قليلة. بينما شبه بول بروس من جامعة واشنطن ما حدث للسيخ بالهند بأحداث "ليلة الكريستال" يومي 9 و10 نوفمبر/تشرين الثاني 1938. عندما اجتاحت جميع أنحاء ألمانيا موجة من العنف والمذابح ضد اليهود بدعم وترتيب من السلطات النازية.

في عام 2014. قدمت منظمة (سيخ من أجل العدالة) الحقوقية تقرير من 30 صفحة بعنوان "الإبادة الجماعية للسيخ في نوفمبر 1984" إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. احتوى التقرير على وثيقة هندية صدرت عام 2007. تتضمن الإحصائيات الرسمية، والتي تم الاعتراف فيها بأن ضحايا هذه الأحداث بلغ أكثر من 35 ألف شخص من السيخ.

الجدير بالذكر أن صدور هذا التقرير الهندي الرسمي كان أثناء شغل مانموهان سينغ منصب رئيس الوزراء الهندي بالفترة من 2004 إلى 2014. وهو من السيخ وكان أول وأخر رئيس وزراء حتى الأن في تاريخ البلاد غير هندوسي، وقد شهدت فترة حكمه تطبيع لعلاقات الهند مع العديد من البلدان التي نشبت فيها صراعات تاريخية، لاسيما باكستان والصين. ولعل وجوده على رأس السلطة وقتذاك هو السبب الوحيد لصدور هذا التقرير، ودفع تعويضات جزئية لعائلات ضحايا أحداث الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1984. واستكمال التحقيقات في هذا الملف حيث في فبراير/شباط 2011. تم اكتشاف مقبرة جماعية للسيخ في قرية هوند تشيلار في منطقة ريواري في هاريانا، وكذلك وجدت أثار لعدد من الجرائم المماثلة في ولايات البنجاب الغربية، وأتر برديش، وجامو وكشمير. لذلك لم تقتصر عمليات القتل الجماعي ضد السيخ في العاصمة نيودلهي وضواحيها كما كان يعتقد بالماضي، وقد جاء بالبيانات الجديدة أن الهجمات نفذت في 18 ولاية وأكثر من 100 مدينة وقرية. مع تطابق نفس الأساليب في عمليات القمع والقتل والمدافن الجماعية، مما يدلل على أن هذه الإجراءات لم تكن عفويه ولكن بشكل منسق مع "المتظاهرين".

بالإضافة لما سبق إجراءات التحقيق التي تمت في وقت سابق، عبر لجنة المروة في نوفمبر/تشرين الثاني. حول دور الشرطة المحلية في قتل السيخ، إلا أن أنشطة هذه اللجنة قد أوقفتها الحكومة في مايو/أيار 1985. لجنة جديدة تولت التحقيق، وركزت على مسألة ما إذا كانت المذابح تلقائية كما تدعي الحكومة الهندية أم لا، وخلص التقرير بأن الأحدث كانت منظمة، وأوصت بتشكيل ثلاث لجان منفصلة. من ضمنهم لجنة مخصصة لإعادة تأهيل ضحايا المذابح ودفع التعويضات لكن الحكومة الهندية رفضت هذه التوصيات. في عام 1987. أعادت لجنة كابور - ميتال التقصي حول دور الشرطة وحددت بالاسم 72 شرطيا مسئول عن هذه الأحداث بشكل مباشر، لكن لم يعاقب أحد. بدأت لجنة أخرى بالتحقيق في دور المسئولين وأوصت بفتح دعوى جنائية ضد العضو البرلماني البارز سجان كومار. كذلك بدأت لجنة أخرى في تحديد أعداد ضحايا مذبحة نيودلهي، وخلصت بأن عددهم 2733. وفي مارس/أذار 1990. تم تشكيل لجنة بوتي - روشا، والتي أصرت أيضا على ضرورة فتح دعوى جنائية ضد المسئولين الذين نظموا هذه المذابح. ثم قامت لجنة ثانية بتوسيع دائرة المشتبه بهم، لكن كل هذه اللجان لم تحقق نتائج ملموسة.

في ديسمبر/كانون الأول 1993. بدأت لجنة نارولا في العمل، والتي أكدت أيضا مطالب أسلافها من اللجان بفتح قضايا جنائية ضد منظمي المذابح ضد السيخ. وأخيرا في الفترة من 2000 إلى 2005. قادت لجنة نانافاتي العمل، وقدمت أدلة واضحة على دور عضوي البرلمان جاغديش تيتلر وسجان كومار، ولكن لم يرد ذكر لبقية قادة حزب المؤتمر الهندي.

في المجموع، تناولت 10 لجان تحقيق مختلفة قضية المذابح المناهضة للسيخ. لكن المشكلة تكمن في عدم تمتع كل هذه اللجان بسلطة قانونية تفرض بموجبها على الحكومة فتح قضايا جنائية أو تجبرها على دفع التعويضات. لذلك سقطت نتائج التحقيقات وظلت على أرفف الأرشيف يغطيها الغبار. علاوة على ذلك، استمر تعرض السيخ للضغوط بطرق مختلفة، مما أجبر الكثير منهم على مغادرة وطنهم. ومع ذلك، فإن السيخ الدولي في الشتات يواصلون الكفاح من أجل نيل حقوقهم. حيث يعقد قصر الأمم المتحدة في جنيف. بالأول من نوفمبر/تشرين الثاني جلسة خاصة تهدف إلى الاعتراف بأحداث عام 1984 باعتبارها إبادة جماعية.

لكن في ظل النظام الحاكم الحالي لحزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي. من غير المرجح أن تسمح قيادة الهند بإعادة النظر في هذه الأحداث. تكمن المشكلة أيضا في شخصية زعيم الحزب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي يحمل أفكار قومية ترتكز على محورية الهندوسية في صنع القرار بالهند، ودوره في المذابح المعادية للمسلمين عام 2002. عندما كان حاكم ولاية غوجارات بتلك الفترة، والتي راح ضحيتها أكثر من ألف شخص غالبيتهم من المسلمين، ورفض الاعتذار عنها، والمذابح التي تم تنفيذها ضد المسيحيين عام 2008. في ولاية أوديشا "أوريسا" على يد حركة سانغ باريفار الهندوسية القريبة من رئيس الوزرء الهندي وحزبه، والتي راح ضحيتها أكثر من 100 مسيحي بجانب حرق 300 كنيسة ونهب وحرق 6000 منزل مما أدلى إلى تشرد أكثر من 50 ألف.